ولا يسع المقام للتمثيل بله الحصر والاستقصاء، فمساحة التجديد تمتد حيثما أظلت راية الإسلام، وارتفع صوت المآذن مناديا الناس إلى حياة السلم والإيمان، وقد اتضح لدى المسلمين أن هذا الدين ثابت الأصول مستمر الأحكام، لا تبديل فيه ولا تغيير وفق حكم الله في القرآن ». لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ لإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ ضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ « المائدة 3 وأنه خاتم الرسالات إلى قيام السّاعة » وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ« آل عمران 85 ¯ و أنه الدين المختار الموافق للفطرة» فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ« الروم 30 ومن هنا تقرر أن التجديد لا ينال الدين في مصادره ولا أحكامه، بل في تعامل الناس معه وكيف يتمثلون أحكامه في واقع الحياة، فغدا المراد بهذا المصطلح تجديد المسلمين لا تجديد الدين. وضبط التجديد بهذا المعنى مناسب لما تعارف عليه الناس أن الميزان ثابت والموزونات متغيرة، والقرآن حاكم، وما سواه محكوم، والقرآن مجدد، فهو ثابت محفوظ بحفظ الله، ولكنه يجدد للناس حياتهم وإيمانهم، ومعارفهم وأفكارهم، بل إن فهمك للقرآن نفسه يتجدّد بما ينفتح عليهم من مكنون الحقائق والعلوم، فيجدون في الكتاب المعجز سبقا ودقة واعجازا يتحدى المنكرين، ويثبت كل يوم حجة جديدة أنه تنزيل رب العالمين. ومن الضروري التنبيه إلى أن التجديد بمفهومه الحضاري الشامل أمر مسلّم واضح ضمن أبجديات هذا الدين، وما تضمّنه القرآن الكريم. بيد أن المتبادر عند إطلاق المصطلح يتجه إلى تجديد صلة الناس بالدين، وتجديد فهمهم لمضامينه، وتجديد طرق معالجة العلماء لموضوعات الإسلام عقيدة وفكرا، وفقها واجتهادا، وما ارتبط بهذا من معارف عرفت بعلوم الإسلام. والراصد لما كتب في هذا المجال، يجد المكتبة الإسلامية زاخرة بمؤلفات ودراسات ثرية وفيرة، عالجت ميادين التحدي، سواء في العقيدة وقضايا الإيمان، أم في التشريع والاجتهاد، ثم في التفسير وعلم الرواية والحديث، أم في السيرة والتاريخ. ومدار هذا النتاج الدعوة إلى تنقية علوم الإسلام مما علق بها من شوائب أذهبت نقائها، وأفقدتها فعاليتها، حتى خفت أثرها وكاد يختفي من سلوك الإنسان، إذ باعدت بينه وبين جوهر الدين وما يرمي إلى تحقيقه من مقاصد وغايات.. ويخلص لنا بعد هذا التوضيح أن مضمون التجديد الذي استقر لدى علماء الإسلام يراد به إعادة صلة المسلمين بدينهم، وبعث الحياة في عقائدهم، بحيث لا يظل مفهوما غائما أو سلبيا يجعلهم خارج الأحداث، بل يعود الدين كما استوعبه الجيل الأول محركا دافعا لهم لخوض غمار الحياة وعمارة الأرض ونفع العباد وفق منهج الله، وابتغاء رضوان الله، لا يريدون بذلك بطرا ولا عداوة بل ينصرون الحق وأهله، ويعزون الدين وأنصاره.../ ¯ يتبع