كل ما تحت اليد وما فوقها من غال ونفيس من مال وبنين ونفوس، ولا شيء أغلى من النفس، ولا شيء أحب إلى المرء من المال، فما بالكم البَنُون، كل هذا يهون من أجل الوطن. إنه لا يخفى على أحد ولا يتجاهل رفاعة الوطن، إلا غر أو مكابر، أو جحود كنود وبالأخص عندما يكون البلد يمر بظرف جد حساس، ومن الخطر بما كان على كم من صعيد وفي كم من مجال وإن كنا قد تعودنا على مثل هذا الوضع من الصعوبات، ولا يثنينا على عزمنا ولا يمكن أن يقف حجر عثرة أمام لملمة جراحنا، ولم شملنا، وجمع الكلمة، ووحدة الصف كلما استشعرنا خطرا أو تنبأنا بمخاطر. والحال هذه ليس من الذكاء بما كان أن تقتنص المطالب المناسبات وتغتنم الفرص ويغني كل ليلاه من الأطياف السياسية والتشكيلات المهنية ومكونات المجتمع وأكثر من خمسة عشر تنظيما نقابيا، فتستغل مرحلة انتقالية ما يكون النصر فيها إلا جرعة بمذاق الهزيمة، وبخاصة إذا كان الوطن هو الضحية. مرارة وحرقة أن يرى الناس الوطن مجرد أكل ومرعى وقلة صنعة، والسوق الوطنية قد خلت من اليد العاملة المؤهلة فلا بناء ولا بلاط ولا دهان ولا حداد ولا نجار ولا كهربائي ولا حتى يد عاملة بسيطة متوفرة حسب الحاجة ووفق الطلب. ونحن الذين اكتسبنا سعة وارثا تراكميا في الاعتماد على الذات تركنا مهن الشرف والعزة والاستقلالية والتنافس الحر، وتوجه الجميع إلى الوظائف الحكومية حيث القيود والأغلال وسيادة الغير والدخل المحدود الذي بعجز على سد الحاجة والمطلوب. إن الوطن متسامح معنا جميعا، فكيف لانقابله بنفس السماحة ونأبى المشاركة في ظلمه بأي شكل وبأي صورة، أن كل شي في هذا الزمن أصبح له سعر وثمن بما في ذلك البشر، إلا الوطن فإنه لا يقدر بثمن وإن اختلفت الألسن والمعاني والقيم والأهداف. أما أن يختلط الحابل بالنابل، وتتشابك مفاهيم الحق والباطل فإن الواقع يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم وذاك ظلم للوطن، وظلم من هذا النوع ومن أي جهة كان مرتعه وخيم، منها إذا تم تغييب إسناد الأمور على غير واقعها من مسؤولين المفترض أن يكونوا نبراسا في إحياء الضمير، وما تحت أيديهم من مؤسسات تكون مدارس تنوير ومعالم هداية وخرائط تهدئة. انا أعرف أن وجوهاً كثيرة في واجهة السلطة قد استهلكت ووظفت وانتهى مفعول قولها وفعلها ودورها حتى أنها كلما ما مدت يدها إلى المجتمع لا تجد ترحيبا، بقدر ما تجد نفورا وابتعادا أكثر من ذي قبل. لكن من الذكاء بما كان أن يتم التمييز بين ما ينفع وما يضر بين الخير والشر بين مصير البلد وتصرفات البلداء وسلوكات المستهترين الذين عششوا واباضوا وفرخوا وباضت فراخهم وفرخت وهم يعتقدون أنهم يضحكون على أذقان الناس والضحك عليهم لأنهم يسيرون امام الملأ بعورات غير مستورة، لأن حبل الكذب قصير وبالي ما يفتا ينقطع فيفصل بين الدلو والبكرة )الجرارة(. إنه ومهما يكون الأمر لابد من المفاضلة بين مذاق حلو المراحل ومرها، فيتاكد ان أقصر وأفضل طريق لتحقيق الهدف دون المزيد من المعاناة هو حينما يكون حال البلد مستقرا هادئا سائرا في رحلة سفره نحو التطور والرقي والازدهار، لأنه لا فائدة من حالات الاحتقان والانفلات، وأيضا لا منفعة في رد الفعل بالضرب والسحل، وخير ما في المسألة أنه لا مغالاة في الاحتجاجات الصاخبة الساخطة، ولا ارتكان إلى سلطة تدفع الناس إلى السأم والملل من الحياة، لأن المكابرة يقابلها العناد الذي يرفض التعامل مع حقائق الأمر الوقائع، فتتكون شحناء بين المكابرة والعناد فَتُصفق الأبواب أمام خطأ المكابر وخطايا العنيد فتتعطل لغة الحوار، وما يدفع الثمن سوى الوطن ومن ثم المجتمع، بما في ذلك ذاك المكابر وذينك العميد. من الذي يرضى لنفسه أن ينخرط في هذا العمل الذي له أكثر من سيئة تُشينه، كارثة على من هم في ذمته، وأمانة في عنفه تعليما وعلاجا، من ذا الذي تخول له نفسه بالمزايدة والمساومة على حساب النوعية في التعليم وشفاء المصابين. إنما وأنتم أكثر من غيركم وعيا واسنتشارا بالله عليكم لا تعطلوا عجلة التدريس ولا توقفوا عمليات النبض والجس، لطفا بأبناء الوطن أيها المُربون، رجاء أيها المُداوون، سماحة أيها المسؤولون، الجو غير مناسب، لطفاً... رجاءً... سماحةً...!؟