1 ميلاد ديوان ¯ تعوّدتُ من خلال الطبعات السابقة للبرنامج الأدبي المرافق للمهرجان الوطني للمسرح المحترف على ألا أنام ولا آكل ولا أرتاح إلا خطفا، أخطف الغمضة واللقمة والراحة حتى يأكل وينام ويرتاح ضيوف البرنامج، وكان العزاء تلك المتعة العميقة التي تلبسني، متعة أن تخدم فنانا، وطبعا، فمن باب أولى كنت أحرم نفسي طيلة أيام المهرجان الممتدة على مدار أسبوعين من عادة القراءة والكتابة، ومشاهدة التلفزيون والتبحر في الفايسبوك، هذه السنة، في ظل خلوّ البرنامج الأدبي من الضيوف الأجانب، والضيوف الجزائريين من خارج العاصمة، وجدتُ لأول مرة وقتا كافيا لأن آكل وأكتب وأنام وأكتب وأقرأ وأكتب وأشاهد وأكتب وأكتب حتى أنني أنهيت تجربة شعرية زجلية خلال خمسة أيام زيَرسَم سْمايات الرّيحس، ديوان شعر يولد من رحم المهرجان، من رحم الضجيج الجميل، من رحم حاجتي الشخصية لأن أكتب وكفى. لا أخفيكم سرا، فأقول إنني دخلت الفندق يوم 23 مايو الفائت، وفي نيتي أن أقضي جل أوقاتي التي خارج الانشغال بالبرنامج الأدبي والعروض، بتحميل مواد موسيقية وأدبية من الأنترنيت، زادا لي بعد المهرجان، متخيلا أن تدفق الأنترنيت في الفندق يكون كبيرا، لكنني خبت بمجرّد الوصول: ما كانش الويفي هههههههههههههههههههه فندق في قلب العاصمة ليس موصولا بالعالم، فقررت أن أستثمر في خيبتي جماليا، أجمل الخيبات هي تلك التي تتسبب في خصوبة ما. كنت أعتقد حين شرعت في الكتابة أن حالة الكتابة التي تلبّستني ستغادرني بمجرد أن ألتقي الصديقات والأصدقاء، فأنا من النوع الذي ينشغل عن الكتابة بالتواصل مع من يحبهم ويحبونه، لكن الذي حدث، أنني صرت أكتب حتى وأنا أتواصل مع أحدهم، كناشتي في جيبي، أخرجها كلما داهمتني ومضة شعر، حتى وأنا أنشط الأمسية الأولى من البرنامج الأدبي كتبت ومضتين: كان يا ماكانش/ قالت لَحْكاية: أنا يقتلني اللي يقدّسني/ يحضنّي وينساني/ تضيق فيّ النفس، ويَوساع عْياطي. لقد احتضنني المهرجان، فاحتضنتُ الحكاية، من غير أن أنساها، ففي نسياني لها نسيان لنفسي، لا بد أن تبقى الحكاية تتنفس. حْكاية تقولّي: نحكيلك/ حكاية تقول: أحكيني/ وفي زوج/ يشربو من دمّي/ ويحمّرو خْدود النشوة/ واش تعطيني يا لحكاية؟ كلّفتيني نشمّك ونلمّك ونْذَوْبَكْ في سْواقي لكلامْ/ جُزْتْ عْلى الزيتونة، وما حَيّيتهاش، شُفت زْعافها في وجه جدّة، الزيتونة تنيف على الزيتونة/ عْلاش كل ما نشوف شجرة نولّي ظلها؟ 2 موت صدي أهلا إسماعيلو هكذا أناديه مرحبا بوجبّة هكذا يناديني لماذا تركت مطعم السفير، وجئت إلى مطعم ريجينا؟ تعبت يا خويا، حبيت نهرب، ونقعد شوية مع راسي. حوار دار بيننا قبل يوم من نهاية المهرجان الوطني للمسرح المحترف. بوجبّة.. ما رأيك فيّ أنا؟ فاجأني السؤال، جلستُ رغم أخذي بعين الاعتبار أنه يريد أن يجلس وحده، كان يأكل بحماس. طريقة التهامك للطعام تشي بأنك لم تأكل منذ مدة. ليس لدي وقت للأكل، تعلم الضغوط التي نعمل في ظلها، لم تجبني على سؤالي. يا إسماعيلو.. وما يهمّ رأيي فيك؟ يهمّني.. أنت لا تجامل. طيب.. هل يمكن أن نؤجّل الموضوع إلى ما بعد المهرجان؟ عدْني بألا تتهرّب. أعدك. تركته (مع راسه) وصعدت إلى غرفتي في الفندق، لم أكن أدري أنها المرة الأخيرة التي لن أراه بعدها. منتصف الليل من ليلة الأربعاء 04 جوان الجاري: اتصل بي فتح النور بن براهييم مدير الإعلام في المسرح الوطني الجزائري، كان يبكي بحرقة، وهو يردد: مات.. مات. من.. الشيخ؟ أقصد امحمد بن قطاف مدير المسرح ؟ لا. بوتفليقة؟ لا من إذن؟ إسماعيل ياحو مدير العلاقات الخارجية في المهرجان. لم يسعفني قاموسي إلا بكلمتين الله أكبر ، فتّشت عن كلماتٍ أخرى تستوعب صدمتي، فلم أجد، ارتفع بكاء فتح النور، فانخفض منسوب تحمّلي، قطعت الهاتف، ورحت أحدث إسماعيل كأنه أمامي: الآن عرفتُ لماذا أصررتَ على أن تعرف رأيي فيك، كنت تريد أن تعرف إن كنتَ آذيتني يوما، لتعتذر لي، وأنت لم تؤذني منذ عملنا معا على مدار ستّ سنوات، كنت لا أراك إلا متحرّكا، لا تتوقف أبدا، وكنتَ لا تراني إلا متحرّكا، لا أتوقف أبدا، أنت يا إسماعيلو مربوط في رأسي بالنشاط لا بالأذى، أقسم بالله الذي صرتَ الآن بين يديه إن رأيي فيك هو هذا. كنت أتصل بك يوميا طيلة المهرجان، لأسألك: هل وصلت مطويات البرنامج الأدبي يا إسماعيلو؟ هل وصلت شهادات المشاركة يا إسماعيلو؟ هل هناك كمية إضافية من حقائب المهرجان يا إسماعيلو؟ وكنت تجيبني في كل مرة: زتعال إلى المكتبس، لم تردّني يوما، ولم تبخل علي، قلت لي في إحدى المكالمات: أنت الوحيد الذي يلقي التحية ويسأل عن الحال قبل الطلب، قلت لك: أعلم الضغط الذي أنت فيه، فلماذا أضغط عليك أكثر؟ إسماعيلو.. يا زميلي النشيط يا أخي الصغير كانت آخرَ كلمة سمعتها منك زكاين ربيس، قلتها قبل أن تراه، وها أنت الآن بين يديه الرحيمتين، فاهنأ برحمته وجماله وجلاله، وعفوه وغفرانه.. وتفهم كوني لم أحضر جنازتك، فأنا لم أحضر حتى جنائز جدي وجدتي وأبي، ولا أراني سأحضر جنازة في حياتي، لا أستطيع.. ما نحملشْ. يا ربي يا ربي كن رحيما بالفتى، وكريما معه، فرحمتك وكرمك أكبر من ذنوبنا.. إنا لك، وإنا إليك راجعون.