كلام في غاية القوة والصراحة جاء على لسان السيد يوسف يوسفي وزير الطاقة والمناجم أمام نواب البرلمان خلال جلسة للأسئلة الشفوية مؤخرا.. كلام يؤشّر إلى عزم وإصرار على محاربة الفساد ومعاقبة المفسدين ولو كانوا خارج حدود الوطن!!.. وتحديدا تلك الشركات الأجنبية التي تورّطت في قضايا فساد ورشاوى للحصول على صفقات في الجزائر. نعم.. لقد أعلن السيد الوزير حزمة من الإجراءات لمكافحة الفساد ومن ذلك منع شركات قطاع الطاقة والمناجم الجزائرية من التعامل مع الشركات المتورطة في الفساد الذي طال قطاع الطاقة مؤخرا، وظهر في صورة ما صار يعرف بفضيحة سوناطراك الثانية. وأكثر من ذلك.. سوف لن يتوقف الأمر عند هذا الإجراء الرّدعي ضد شركات الفساد العالمية؛ بل يتعدّاه إلى المطالبة بالتعويض، بعد أن تثبت إدانة هذه الشركات، ويتضّح أن أياديها قد تلطّخت فعلا بالفساد. إنه كلام يثلج الصدر، وينزل بردا وسلاما على قلوب الجزائريين خاصة في هذا الصيف الحارّ.. لأنهم اكتووا بما فيه الكفاية بنيران فضائح القطاعات الكبرى في البلاد، وزكمت أنوفَهم أحجامُ العفونة المتسرّبة من هنا وهناك، رغم أن بعض العارفين يؤكدون دائما أن ما خفي عن ألسنة وأقلام الصحفيين أكثر بكثير من تلك الأخبار الفظيعة التي وجدت طريقها نحو مانشيتات الصحف الوطنية ونشرات أخبار القنوات الفضائية. نعم إنه كلام يثلج الصدر في البداية، لكنه سرعان ما ينقطع عن سياقه المنطقي، وهو التحوّل إلى الحديث عن الداخل، لأنه أهم من الخارج.. ومن هناك كان في وسع السيد الوزير، أو هذا ما نتصوره على الأقل، أن يتحدث عن إجراءات وتحرّكات عملية تتجاوز الخطابات لتجد طريقها نحو الميدان الداخلي فتزعزع عروش الفساد فعلا، لا قولا، وتدكّ حصونه المنيعة التي بناها عبر سنين طويلة. إن الاتجاه نحو الخارج وتحميله المسؤولية كاملة، وحتى أجزاء منها، لا يغيّر من واقع الأمر شيئا، والمواطن الجزائري البسيط، فضلا عن غيره، يعلم علم اليقين أن الشركات الأجنبية المتورطة في الفساد لم تقع في هذه الخطايا لولا البيئة الملائمة في الداخل الجزائري وخصوصا في قطاع الطاقة، والقريبون من شركات البترول والغاز يعرفون كيف يأتي بعض الأجانب في البداية، وكيف تتغيّر نظرتهم لما حولهم بعد ذلك بسبب الاحتكاك بالواقع، ليتحوّلوا إلى سماسرة يمصّون دماء العمال ليضاعفوا عوائدهم من الغنائم الجزائرية الباردة. يأتون في غفلة من أمرهم ثم يتعلّموا شيئا فشيئا أسرار المهنة بعد أن يوسوس لهم شياطين الإنس، من أبناء جلدتنا، ويقنعوهم أن مسالك الثراء سهلة ومعروفة ومحدودة المخاطر، بعد أن صارت سياسة اللاّعقاب واقعا وقع فيه الجميع تقريبا. وهكذا.. يظل كلام الوزير وجيها وقويا.. لكنّ.. أين الضمانات التي تؤسس لصفقات وشَرَاكَات بعيدة عن الفساد.. فإذا كان ربّ البيت بالدفّ ضاربا.. فإن شيمة أهل البيت لن تكون غير الرقص والغناء.. وإذا كان المناخ السائد في قطاع المحروقات على حالته السابقة، والإغراءات متوافرة ليلا ونهارا وسرّا وجهارا، فكيف لنا أن نضمن عدم تكرار ما سبق؟.. بل وأكثر منه.. جميل أن تطالب الجزائر بتعويضات من الشركات الأجنبية إذا ثبت تورّطها في فضائح سوناطراك، لكن الأجمل منه أن نجتهد في الداخل لاسترداد الأموال المنهوبة، خاصة أن المسألة ليست بذلك المستوى العالي من التعقيد والسرّية، لأن رجل الشارع العادي، في بعض المدن والولايات، يعرف أين تتمركز استثمارات فلان أو علاّن، وكيف رفع من أرصدته وثرواته، أو كيف قفز تلك القفزة الطويلة مرة واحدة ليجد نفسه في نادي (الكبار.. نعم يعرف رجل الشارع أنّ هذه الأرض العالية الثمن تعود لذلك المقاول الفاسد أو المسؤول المشبوه، وهذه محطة بنزين، وذلك مصنع، وتلك شركات نقل باسم أحد عباد الله الجزائريين، لكنها في الحقيقة ملك لذلك الرأس الكبير، والشّراكة أو الملكية المعلنة وهمية لذرّ الرمان في العيون لا أكثر. إن رجل الشارع يعرف الكثير من حقائق وكواليس الفساد والفاسدين، فكيف تعجز الأجهزة المختصّة عن ذلك؟.. الله أعلم بحقيقة الأمر.. لعلّها لا تريد أن تعرف لحاجات في النفوس.. قال السيد الوزير كلمة في غاية الغموض، بالنسبة لي على الأقل، بقدر الوضوح الذي أبداه عندما تحدّث عن الشركات الأجنبية.. لقد حذّر من زعزعة القطاع الطاقوي الذي يعتبر المحرك الأساسي للاقتصاد الوطني، وبالحرف الواحد: (ليس من مصلحة الوطن أن نسعى لتحطيم مؤسسات القطاع التي تعتبر ركيزة الاقتصاد الوطني. خطورة وغموض كلام الوزير جاءت من سياق الحديث حين رفض الخوض في الإجراءات التي تم اتخاذها في حق المتورطين في فضائح سوناطراك، لأن الأمر برمّته في يد العدالة، ومن صلاحياتها معالجة مثل هذه القضايا بالهدوء المطلوب وبالوتيرة التي تراها هي مناسبة.. ليتحدث بعد ذلك عن ضرورة الحفاظ على قطاع الطاقة.. فهل الكلام عن الفساد في دواليب هذا القطاع يضر بالمصلحة الوطنية، وهل تعاني سوناطراك مثلا هشاشة هيكلية وإدارية إلى درجة فظيعة تجعلها عرضة للاهتزازات والزلازل، ومن ثم يتجلّى التأثير السلبي على الريع الذي نأكل ونلبس منه جميعا، ونرفع به رؤوسنا أما جيراننا والعالم. أيّ تحطيم محتمل لقطاع الطاقة؟.. وهل الكشف عن الفساد الظاهر والخفي وطرق الصفقات والمناولات وغيرها حسّاس إلى هذه الدرجة؟.. الله أعلم.. لكن هذا الكلام لا يستقيم إلا إذا كان هذا القطاع مؤسسا على الفساد والفاسدين وحدهم، وهذا أمر في حكم المستحيل.. فلو كان الأمر كذلك لأفلست الجزائر منذ سنين طويلة.. بل الحقيقة أن في ثنايا القطاع مخلصين ووطنيين يسهرون ليأكلوا لقمة طيّبة بعرق الجبين.