تتفق كل المذاهب منذ بدء الرسالة المحمدية على الرجوع إلى نص واحد لا يتشكك أي فريق في أنه تنزيل من العزيز الحكيم، مما جعل الخلاف بينها يقتصر على التفسير والتأويل في غير القواعد الخمس الأساسية للإسلام، وهو موقف أجمع عليه الفلاسفة في كل العصور، وقد اطلعوا في زمن مبكر على التراث الإغريقي والهندي والفارسي واستفادوا من علومهم وفنونهم وآدابهم. المرجع الأول وحدود التأويل والتفسير إن الحرص الشديد على الأعمدة الخمسة للعقيدة وحماية حدودها من الدخيل والمشبوه من التأويل والتفسير هو ما جعل علماء الكلام بوجه خاص يتهمون من يخرج عن نصوصها القطعية بالدهرية، أي تبني أفكار الفلسفة اليونانية، وخاصة عند طاليس وأرسطو الذين تبنوا وطوروا مقولاته في علوم المنطق والأخلاق وخاصة رسالته أو وصاياه إلى ابنه نيكو ماخوس، وقد كان أرسطو وهو أب الفلسفة العقلانية المستشار المقرب من الاسكندر الأكبر أثناء أكبر توسيع وازدهار عرفته الامبراطورية الهيلينية. أما التأثر بالثقافة الهندية فقد كان عن طريق التجارة والرحالة وامتداد الإسلام إلى ما وراء النهر أو ما عرف في التراث الإسلامي بنهري جيحون وسيحون من بلاد السند، ويرى بعض الباحثين أن لتلك الطقوس تأثير كبير في التصوف الذي يختلف عن التصوف السني بمسألة الحلول والتوحد المستمدة من البراهمية التي تعتنق فكرة التناسخ أي فناء الجسد وانتقال الروح إلى كائنات أخرى أرقى أو أدنى حسب سيرة الشخص ومدى اقترابه من النيرفانا أو صفاء الروح من أدران الجسد، وهذا ما يشير إليه الاستحمام في نهر الكانج وإلقاء رماد الجسد بعد حرقه في مياهه. تمثل التأثير البراهمي في مسألة الحلول والتوحد التي عبر عنها الحلاج بمقولته الشهيرة '' ما في الجبة إلا الله'' و'' إذا رأيته رأيتني وإذا رأيتني رأيته'' والسهروردي المقتول وليس حامل نفس الإسم من تيار التصوف السني، وقد أنزلت السلطة السياسية بتأييد من الفقهاء أشد العقاب برواد التصوف الحلولي. أما الديانة الفارسية الزرادوشتية والمانوية وهي التي ترى وجود إلاه للخير وآخر للشر، فقد كانت شبهة بالعودة إلى عبادة النار والمجوسية في تعبير القدماء وكانت تلك الشبهة سببا للإقصاء والمحاكمة لكثير من الأدباء والمفكرين والمقربين في بلاطات الخلفاء والأمراء، ولم يمنع ذلك من تأثير الثقافة الفارسية على نظام الإدارة وفن الحياة وخاصة خلال القرون الثلاثة الأولى للدولة العباسية على الرغم من ظهور بعض النزعات الشوفينية ضد ''العجم'' وإعلاء الإنتساب للعرب وهو ما يخالف التعاليم الصريحة للإسلام، ولم تختف تلك النزعات وأصبحت من أسلحة التعبئة أثناء الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي. ولا بد من التذكير بأن علماء وفقهاء وفلاسفة فارس القديمة ساهموا في إثراء الحضارة الإسلامية بقسط وافر مثل توثيق الحديث النبوي الشريف والسيرة وعلوم اللسان وتقعيد اللغة العربية وترجمة روائع الآداب الفارسية، وقد كانت إيران على المذهب السني حتى ظهور القوة العثمانية من بورصا القريبة من مدينة إسطنبول وعندئد تحولت إلى المذهب الشيعي على يد الصفويين في نهاية القرن الثالث عشر ميلادي للاحتياط من المد العثماني في أوج قوته. نعود بعد هذا العرض المبسط جدا لبعض التيارات الدينية والسياسية التي شهدتها حضارة تمتد بين ثلاثة محيطات هي الهندي والأطلسي والهادي، قد تدفع غير المختصين لمزيد من المطالعة، ونعود الآن لتدقيق بعض المفاهيم والمصطلحات الشائعة اليوم بغرض المطابقة مع تسميات أخرى مستعملة في الأدبيات الغزيرة حول الإسلام وتياراته الراهنة وتعميمها أحيانا على الإسلام عقيدة ومسلكية بدون أن نقلل من شأن العقائد الأخرى. فقد كان جواب نبينا (ص) في بداية الدعوة للطرف الأقوى '' لكم دينكم ولي ديني''. نحن لا نجد في تاريخ الفكر الاسلامي مقابلا لكلمة ''أنتيقريزم'' الفرنسية الأصل حسبما تذكر الموسوعة العالمية ط 1998 ص ,1246 كما سنرى فيما بعد، يعود السبب إلى عدم اعتراف الإسلام بالعصمة لمختلف مراتب رجال الدين، واعتباره التقوى والصلاح هي المقياس الوحيد للقيم الثلاث العظمى وهي الحق والخير والجمال، وعلى العكس من ذلك فإن المسيحية (الكاثوليكية) تخلع العصمة على البابوية، وتعتبر رجال الدين بشرا من نوع خاص يملكون وحدهم الحق في التعامل مع نصوص الإنجيل وتنظيم العلاقة بين المسيح عليه السلام وأتباعه بحيث أن رجل الدين ليس عالما بشؤون الدين فحسب، بل يملك أيضا حق الغفران (التوبة) والتكفير، ويمثل بناء على ذلك سلطة حقيقية في المجتمع القديم. وقد بلغت تلك السلطة أقصى قوتها في الموراسية (Maurrassisme) التي جمعت بين الوطنية الشوفينية والمسيحية الكاملة في ألمانيا النازية (الصليب المعقوف رمزا للدين والوطن) وإيطاليا الفاشية (القمصان السوداء لباس رجال الدين) وتحية العلم في الولاياتالمتحدة (وضع اليد على القلب رمزا لتقديس الله والوطن) كما تقول المكارثية التي نكلت بالمشبوهن بالشيوعية، وقد شهدت أوروبا والولاياتالمتحدةواليابان ظهور العديد من الحركات الأصولية (الانتيقرية) لا تهتم السلطات والإعلام بتلك الحركات إلا عند حدوث مذابح بين أعضائها، يتوفر البعض منها على ميليشيات مسلحة (الولاياتالمتحدة) أو مخابر لصنع الغازات السامة (اليابان) وتدين بالطاعة العمياء لرهبانها الأكبر لدرجة قبول الانتحار الجماعي (أوروبا). لم يعترض معظم الفلاسفة الاسلاميين على أصول العقيدة الواردة في النص القرآني، ولكن خلافاتهم الأساسية كانت في علاقة المعقول بالمنقول ومدى الانفتاح على الثقافات الأخرى وخاصة الهيلينية، كما هو الشأن بالنسبة لابن رشد وقد كان هو نفسه قاضي القضاة أي رئيس المحكمة العليا في التعبير الحالي. ولا تقدم الدراسات التي قام بها كبار المستشرقين في هذه المسألة مثل رينان (Renan) وماسنيون (Massignon) ولاووست (Laoust) ، لا تقدم أي دليل مقنع على أن كبار العقلانيين الاسلاميين كانوا ملاحدة أو منكرين لقواعد العقيدة الاسلامية (Hétérodoxes)، ولم يكن للحركة الراوندية وشكوك أبي العلاء المعري والمجونيات المستهترة بأصول العقيدة أي تأثير يذكر على الوضع العام للعقيدة، أو على الأصح فإن أثر تلك المواقف لم يتجاوز ما أحدثته رواية سلمان رشدي عن ''الآيات الشيطانية'' The Satanic verses) أي اللامبالاة أو التوظيف السياسي. وقد عادت مسألة التكفير والردة عندما أهدر الخميني دم هذا الهندي من الأقلية المسلمة المقيم في بريطانيا، واستغلت الأجهزة المختصة في الولاياتالمتحدة وأوروبا وحتى بعض البلدان العربية المتخوفة من انتشار الثورة الخمينية تلك الفتوى، فوظفوا جميعا هذه الفتوى ضد إيران، وقد أحياها مؤخرا القرضاوي عندما أهدر دم القذافي، لا أدري ما رأي أهل الإفتاء عندنا، غير أن المعروف في فقهنا أن المتهم بريء حتى تثبت التهمة تجملها المقولة المشهورة البيّنة على من ادعى واليمين على من أنكر، واشتراط أن يكون الشهود من العدول، أي يحظون بالثقة، وهو ما يشبه المحلفين في المحاكم، ولكن لا يتحدث أحد عن القتل المباح وبدون محاكمة في إعلانات القتل بثمن يقدر بملايين الدولارات: ''أحضر المتهم فلانا حيا أو ميتا '' (Wanted Dead or Alive). لقد بقي النص القرآني المصدر الأوحد للعقيدة والشريعة، ولا يذكر الشهرستاني (الملك والنحل) ولا ابن حزم (الفصل في الملل والنحل) ولا البغدادي (الفرق بين الفرق) ولا ابن تيمية (في الرسائل) ولا الأشعري (في مقالات الاسلاميين) أي فرقة أو مذهب رفض المرجعية القرآنية. وعلى الرغم من العاصفة التي أثارها المعتزلة في بداية الخلافة العباسية حول خلق القرآن، فإن الهدف لم يكن التشكيك في النص القرآني، وإنما كان السبب هو التأكيد على فكرة التنزيه ومشكلة الصفات الإلهية، وقد تبنت الدولة هذه الفكرة لمدة وجيزة ثم تراجعت عنها، عندما أدركت انعكاساتها السلبية بين علماء الدين وعامة الناس، لم تؤد الهزات السياسية العنيفة التي أصابت ''دار الاسلام'' في وقت مبكر إلى خمود الافكار والتيارات والمذاهب، بل على عكس، فقد انتشرت المناظرات وتكونت مدارس فلسفية وعلمية وأدبية وسياسية، نجد ما يشبه المحاضر عنها في الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، ويقدم العلامة آدم ميتز أستاذ الحضارة الإسلامية في جامعة بازل (Basel) السويسرية نماذج عديدة منها (في كتابه حضارة الإسلام: وخاصة المجلد الثاني)، والملاحظ أن المدارس السياسية والنشاط الدبلوماسي للدولة لم تحظ بما تستحقه من عناية من طرف أهل الإختصاص في بلداننا طيلة القرنين الأخيرين، فقد اهتم بهذا العمل كثير من المستشرقين من الألمان بوجه خاص، مثل فلهاوزن (Welhausen) وشبرينجر (Sprenger) وقد خصص الباحث الهندي محمد حميد الله رسالته للدكتوراه لهذا الموضوع تحت عنوان وثائق عن الدبلوماسية الاسلامية Documents sur la diplomatie musulmane ¯ يتبع