كتاب أنيق الشكل رشيق الفكر شريف المقصد هو ثمرة لقاء شخصيتين يجسدان الخصال النبيلة للمثقف والمناضل في ليبيا والجزائر، وهما السيد الهادي المشيرقي الذي عاش حياته الطويلة العامرة بالأمجاد والبطولات مجاهدا في سبيل تحرير وطنه ليبيا ومناضلا بجهده وفكره وماله لنصرة الجهاد الجزائري ضد المحتل الفرنسي ومتغنيا بالجزائر وبطولاتها بعد استعادة استقلالها. وصل حبه للجزائر إلى حد أن أوصى بأن يدفن في ترابها، والشخصية الثانية هو مؤلف الكتاب العلامة المجاهد الأديب محمد الصالح الصديق الذي أصبح يشكل بثراء موهبته الفكرية والأدبية وصلابة عزيمته الشخصية والوطنية ظاهرة ثقافية متميزة على الساحة الثقافية الجزائرية والعربية حيث أثرى المكتبة العربية بأكثر من 106 كتاب في مختلف فنون الفكر والمعرفة. قسم الأستاذ محمد الصالح الصديق كتابه الصادر حديثا عن دار هومة إلى قسمين: قسم خاص بليبيا التي أنجبت الرجل، والقسم الثاني للرجل الذي أحب وجاهد ثم أوصى. وللكتاب قصة ترويها المقدمة: »...أذكر أنه حينما أصدرت كتابي عن جهاد ليبيا الشقيقة في سبيل الجزائر واطلع على ما كتبته فيه عنه، كاتبني في ذلك مبتهجا شاكرا، ووعدته في رسالة إليه أنني - إن تيسرت الأسباب ووفقني الله - سأكتب عنه كتابا، وهاهي الأسباب - ولله الحمد والشكر - قد تيسرت، وهاهو الكتاب نقدمه إلى القارئ في طبعته الأولى، وهو في عالم الخلود نترحم عليه، ونرجو من شبابنا - بالخصوص - أن يقتدوا به في الوطنية والتضحية والنضال«. تعود علاقة المناضل الليبي الهادي المشيرقي بالجزائر إلى سنة 1930 عندما زار تونس وكانت فرنسا في تلك السنة تقيم احتفالات صاخبة بالذكرى المائوية لاحتلال الجزائر، تلك الاحتفالات التي امتد صداها ووصل صخبها إلى تونس الشقيقة وهذا السيد الهادي المشيرقي يكتب عن هذه الذكرى في كتابه (قصتي مع ثورة المليون شهيد) الصادر عن دار الأمة في سنة 2000 والذي أشرف على تنسيق مادته وطبعه وقدم له الأستاذ محمد الصالح الصديق، فيقول: »...وبعد عودتي من تونس استقرت في أعماقي صورة عن الاستعمار رالفرنسي في إفريقيا، وبدأت أتتبع أخبار الجزائر بالذات، وذلك لأن فرنسا ألحقتها بالوطن الأم. وجعلتها جزءا منها، رفعت شعارات زائفة، فالمساواة مثلا لم تتجاوز التجنيس، واستعمال اللغة الفرنسية والتزوج من فرنسيات أو العكس، وهذه كلها كما لايخفى على أحد - هي مرتكزات مسخ الهوية القومية، والذوبان والتغريب في أبشع صورة.. حاولت القضاء على الدين، والقومية والشخصية الوطنية، وكرست فرنسا، وكثفت الجهود لطمس أسس ومقومات الشخصية الجزائرية وأهمها الدين واللغة«. وبعد 24 سنة من هذه الذكرى وبالضبط في الفاتح نوفمبر 1954 عندما اندلعت الثورة التحريرية المباركة في الجزائر يذكر المناضل الهادي المشيرقي أنه دخل إلى عائلته وهو يكاد يطير فرحا وقال: اليوم استقلت الجزائر. وظل من ذلك الحين - كما يقول الأستاذ محمد الصالح الصديق- بمثابة : »العنوان العريض البارز للثورة الجزائرية، يعمل ولايكل، عزمه عزم الشباب، وطموحه طموح الرجولة، ورأيه رأي الشيخ الحكيم، وعطاؤه عطاء من لايخاف الفقر... هذه الثورة التي ملكت نهاه وهيمنت على أحاسيسه ومشاعره، وخدمها بكل إخلاص وعزم وجهد حتى انتهت بالنصر المبين«. وكان هذا المناضل الليبي المفعم بحب الجزائر يدير شؤون ستة فنادق بطرابلس منها اثنان كبيران مشهوران في قلب المدينة هما فندق المهاري، والفندق الكبير، وكان ينزل فيهما المناضلون الجزائريون، وخاصة منهم قادة الثورة - إذ ذاك - أمثال كريم بلقاسم، وعبد الحفيظ بوالصوف، ومحمد يزيد، وعبد الله بن طوبال، ومحمدي السعيد، وأحمد فرانسيس، وعبد الحميد مهري، ويوسف بن خدة، وسعد دحلب، فيكرمون غاية التكريم ويخدمون خدمة متميزة. وكان عضوا بارزا باللجنة الليبية لمناصرة الجزائر وأمين صندوق اللجنة المالية التي قدمت تبرعات معتبرة لجيش التحرير الوطني، وكان لايقام مؤتمر ذو أهمية في العالم إلا يبعث برسائل وبرقيات إلى أبرز المشاركين فيه يذكرهم بقضية الجزائر، وسعى في تأسيس صوت الجزائر في الإذاعة الليبية والذي دشنه الكاتب الكبير (مؤلف الكتاب) الأستاذ محمد الصديق عند افتتاحه في الفاتح نوفمبر .1958 وكان الأستاذ محمد الصالح الصديق يتولى الإشراف على إعلام الثورة الجزائرية بليبيا وبهذه الصفة توثقت علاقته النضالية والأخوية بالمجاهد الهادي المشيرقي، وفي آخر زيارة له إلى الجزائر سنة 2004 أخبر صديقه محمد الصالح الصديق أنه أوصى أولاده أن يدفنوه في الجزائر، وأضاف: لاتنس أن هذه وصيتي إليك فاصدع بها عند الحاجة. وفي صبيحة 15 أكتوبر سنة 2007 التحق المجاهد الهادي المشيرقي بجوار ربه عن عمر يناهز 99سنة ونفذت وصيته بدفن جثمانه في مقبرة العالية بجوار الشهداء الذين أحبهم وبذل كل جهد ونفيس لنصرة قضية تحرير وطنهم وقد أبنه الأمين العام لمنظمة المجاهدين وصلى على جثمانه فضيلة الشيخ الطاهر آيت علجت. كتاب (المناضل الليبي الهادي المشيرقي) هو وثيقة أدبية وتاريخية نابضة بالوفاء والإكبار من مجاهد ومثقف جزائري تجاه أخيه المجاهد المثقف المحسن الليبي يستحق القراءة والثناء.