● إحمرّ وجه الإليزي، ومن فيه، وحقّ له ذلك فالخطب عظيم والمصاب أليم والقتل كما جاء في الإعلان الفرنسي الرسمي تمّ بدم بارد، والمقصود، ربّما، أن القتلة لم يراعوا حرمة مهنة الصحافة والحق في الوصول إلى مصادر الخبر، كما غابت عنهم، على ما يبدو، أيّ مشاعر إنسانية تجاه الضحايا وعائلاتهم وزملائهم وأصدقائهم. إنها حادثة مقتل الصحفييْن الفرنسييْن كلود فيرلون وغيسلان دوبون، من إذاعة فرنسا الدولية، حيث خطفتهما، مؤخرا، مجموعة مسلحة في مدينة كيدال شمالي مالي، وقتلتهما رميا بالرصاص، والمفارقة، أو اللغز ربّما، أن أربعة رهائن فرنسيين أُطلق سراحهم قبل أربعة أيام فقط من عملية الخطف والقتل هذه. ردّ الفعل الفرنسي الرسمي الغاضب والمتوعد بالانتقام لن يكون بالضرورة من أعماق القلب، كما يحدث عندنا نحن معاشر الشرقيين عندما نخلص المشاعر حكاما أو محكومين، والمؤكد أن الحسابات السياسية والانتخابية حاضرة بقوة، لأن احترام دماء وأرواح أفراد الشعب مهما كانوا وأينما حلّوا تُحتسب في الأرصدة الانتخابية للسياسيين، ولو بعد حين، فذلك الاحترام صار من القيم الأساسية عند تلك الشعوب بعد الحروب الطويلة وآخرها الحرب العالمية الثانية وما حدث فيها من مآسي وويلات. وهكذا يُحمَّل المسؤولون في الدول الغربية أيّ تقصير أو تهاون، وينتظر الشعب كلماتهم وتصريحاتهم المتعاطفة والحزينة، وتعازيهم سواء لأسرة الصحافة في مثل هذه الحالة، وأسر وأقارب وأصدقاء الضحايا، وحتى لأفراد الشعب عامة. ومع ما سبق سوف أفترض أن المسؤولين الفرنسيين كانوا في غاية الصدق وهم يعلنون حزنهم على الضحايا، ومن ثم نتعاطف معم في مصابهم، خاصة أن القتلى ليسوا أفرادا في جيش نظامي يحمل المدافع والرشاشات ويحرّك الطائرات والدبابات للقضاء على الأخضر واليابس وتحويل حياة الناس إلى صور من المتاعب والمآسي التي تخلّفها الحروب مهما قيل عن سموّ أهدافها أو سعيها للقضاء على هذا الطرف المجرم أو ذاك. ومع هذا التعاطف أود القول بأننا شعوب عاينت الظلم والقتل وذاقت مرارة التآمر الداخلي والخارجي، واكتوت بنيران الاستعمار والغزو الوحشي والأساطيل التي تجوب البحار وتهاجم السواحل والحواضر وتحرق وتذبح وتأسر وتنتهك الحرمات، وتحاصر لسنوات طويلة وتذيق الناس ألوانا من الجوع والخوف.. وكتب التاريخ مشحونة بمثل هذه الأحداث خاصة على سواحل المغرب العربي خلال حقبة الحروب البحرية التي تلت سقوط الأندلس.. وهكذا من حقّنا أن ننظر إلى الأمر من زاوية أخرى. إخواننا في عاصمة الجنّ والملائكة ومرتع الأدب الرومانسي الراقي الذي نستمتع بقراءته: إننا نقدّر مشاعركم، خاصة الصادقين والعفويين منكم.. لكن الصدق يقتضي منا التصريح في وجوهكم بالحقيقة.. فأنتم القتلة في واقع الأمر، وإن لم تطلقوا الرصاص على الصحفيين الاثنين في مدينة كيدال المالية. أنتم الذين صنعتهم المناخ الملائم للقتل والإرهاب في دول أفريقية عديدة بينها دولة مالي، لأنكم استعمرتم العباد واستنزفتم الخيرات والثروات، وجثمتم سنين طويلة على صدور الشعوب، ولما خرجتم زرعتم هناك قنابل موقوتة عبر الحدود المتداخلة والقبائل والإثنيات المقسّمة بين الدول.. وظلت تلك القنابل تنفجر تباعا كأنكم تتحكمون بها عن بعد، محاكاة لما يعرف في عالم القتل والدمار بالمفخّخات، أو تنتدبون من يفجّر نفسه لينفجر الوضع به كما يفعل الانتحاريون. إن إرهاب آبائكم وأجدادكم في الجزائر ما زال ماثلا للعيان، وما زلنا نعاني من آثاره المدمرة، ومع ذلك تستكبرون حتى الآن عن مجرد الاعتراف به والاعتذار عنه، وإن كان اللوم على ساستنا في الأساس لأنهم فشلوا في صناعة الطلب القوي والمناسب وتمريره من الجهات والمنافذ التي يؤلمكم المساس بها وهي مصالحكم الثقافية والاقتصادية والأمنية.. فأين حضارتكم وأين شجاعة فرسانكم، بل أين إرث الثورة الفرنسية والقيم التي قامت عليها.. اعترفوا لتطمئن الخواطر وتهدأ النفوس، ويفتح الجميع صفحة جديدة تكتب تاريخا مغايرا لضفتي المتوسط، بالنسبة لنا على الأقل، فرنساوالجزائر. أيها الفرنسيون: لا تبالغوا كثيرا في إدانة الإرهاب لأنكم من صنّاعه وسدنته، بشكل غير مباشر على الأقل.. وقاتل الصحفييْن، كلود وغيسلان، قد يكون ضمن أجندة سياسية دعمتموها في أيام سابقة أو دعمها حلفاؤكم، وقد يكون القاتل مجرّد شخص عادي فقد أبًا أو أخًا أو ابنًا بفعل طائراتكم وقنابلكم ورصاص جنودكم في مالي.. قد يكون الأمر كذلك، لما لا؟.. راجعوا أرشيفكم وملفاتكم وذاكرتكم القريبة والبعيدة، واسألوا أنفسكم بصدق عمّا قدمتم لأفريقيا غير الاستعباد والاستغلال ودعم الاستبداد والفساد.. لقد تركتم البلاد عسكريا لكنكم واصلتم استغلالها سياسيا واقتصاديا، ولم تداخل قلوبكم ذرة رحمة تجاه تلك الشعوب التي تعاني الأمراض والأوبئة والمجاعات والحروب، وكان المقياس عندكم يدور دائما حول حجم الثروات التي تصل إليكم لتحرك دواليب اقتصادكم الجشع. أيها الفرنسيون: متى تتوبون من داء التعالي على الإنسان الإفريقي وتنظروا إليه بالتالي على أنه إنسان مثل غيره من سكان المعمورة، بل ومثلكم أنتم تماما.. وهكذا يستحق أن يتصرف في ثرواته وأن ينتخب حكامه بشفافية وأن يتمتع بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويرى مؤشرات اقتصاد بلاده تتحدث عن النمو وارتفاع الدخل وتراجع البطالة والمديونية وما شابه ذلك.. هل الديمقراطية حكر على لون وجنس ومنطقة؟.. أما بقية دول وشعوب العالم فعليها القبول بدور فئران التجارب في مخابر مصالحكم وسياساتكم المغرقة في الأنانية. وأخيرا فإن حادثة القتل هي تراجيديا لنا في عالم الصحافة، لأننا نتعاطف مع أي صحفي يحمل قلما أو آلة تصوير ويجري وراء الحقيقة.. لكن التراجيديا الأعظم تتضح أكثر في أفريقيا عندما تستمر السياسة الفرنسية في صناعة جسور اقتصادية من الدم واللحم البشري الخالص.