لقد كانت جريدة ''الشعب'' في أوائل السبعينات تفرد صفحة للمواهب الأدبية الشابة والشعرية منها على الخصوص، وكان يشرف عليها الأستاذ الأديب ''مصطفى صواق''.تجرأت ذات يوم أنا المولع بالشعر والشعراء - وأرسلت إليه بمحاولة شعرية متواضعة مشفوعة برسالة ضمنتها بعض الآراء والتأملات حول الشعر والأدب بصفة عامة - ولا أذكر لماذا أوردت في سياق حديثي مقولة لكاتب فرنسي من القرن السابع عشر لعله ''لبرويار''، يقول فيها: ''شيء قيل، وجئنا متأخرين''، أذكر أن الأخ ''مصطفى'' وهو يقيّم محاولتي، كتب يقول: ''كيف أيها الشاب تستشهد بكاتب أجنبي وتنسى أن قبله بمئات السنين كان من العرب من قال في نفس المعنى ماهو أجمل وأبلغ، وكان يقصد قول عنترة: ''هل غادر الشعراء من متردم!؟. تذكرت هذه القصة عندما قرأت منذ مدة مقالا للصحفية مسعودة بوطلعة نشر في جريدة ''الخبر'' ضمن ركنها ''أما بعد تحت عنوان ''حزبنا المتطرف متى''؟. الأخت مسعودة التي أتابع كتاباتها بانتظام، من الصحافيات القلائل المتمكنات من ناحية الكتابة مضمونا وأسلوبا، ولذلك أتنبأ لها بمستقبل زاهر ومكانة مرموقة في حقل الصحافة والأدب على العموم، هذا إذا كانت المكانة المرموقة تدرك عندنا بالكفاءة والمقدرة، وهو ما أشك فيه؟ لقد ذكرني مقال الأخت مسعودة بتلك الأيام الخوالي وأعادني إلى التفكير في قضية طالما أرقتني وكتبت عنها في سالف الأيام، أقصد موضوع ''الهوية واللغة''، إستفزني مقال ''بوطلعة'' فقررت بمجرد أن أنهيت قراءته أن أعود مرة أخرى للكتابة حول قضية اللغة العربية في بلادنا. وبدأت فعلا أخط بعض السطور، لكن أمورا أخرى أكثر إلحاحا شغلتني عن ذلك، فأجلت إتمام كتابته، وها أنا ذا أعود إليه اليوم، مستغلا الفرصة لتهنئة الأستاذة بوطلعة بالتكريم الذي حظيت به مؤخرا، وهو تكريم مستحق قضى على بعض شكوكي - وليس كلها - حول استعداد مجتمعنا للإعتراف بالكفاءة الحقة والجمال الأصيل. أعود الآن للمقال الذي كتبته أختنا ''مسعودة'' بمناسبة المهرجان الدولي كتاب الشباب المنعقد في بلادنا قبل بضعة أشهر، ذلك المقال الذي أثر في نفسي أيما تأثير عندما لاحظت كم تألمت كاتبتنا الشابة حين انتبهت إلى أن الأدب الأجنبي كان حاضرا بكثافة، جعلته يطغى على المهرجان، وكم كانت خيبتها لما رآت أن الإهتمام الأكبر راح لكتاب وكتّاب لغة ''فولتير''، وكأن المهرجان يعقد في ''باريس'' أو إحدى ضواحيها. هذه الظاهرة المؤسفة التي رصدتها الصحافية الشابة، والتي جرتها إلى الحديث عن هيمنة الفرنسية على آدابنا وفنوننا وحياتنا بصفة عامة، إن دلت على شيء فإنما تدل على انفصام في الشخصية واستلاب في الفكر أصبح مستشرى عندنا في السنوات الأخيرة إلى حد جعل الكاتبة تقلق - ونقلق معها - على مستقبل شبابنا وتطرح بالتالي مسألة الولاء للوطن وتاريخه وثقافته عند شريحة واسعة من نخبتنا الثقافية المنسلخة عن جذورها وأصولها. فهنيئا لأختنا على غيرتها الشديدة على هويتنا، غيرة نشاركها إياها، لكننا نطمئنها في نفس الوقت على مستقبل العربية التي لها رجالها ونساؤها الذين كانوا وما يزالون وسيظلون - والأخت مسعودة واحدة منهم - يناضلون ويكافحون من أجلها، ولن يهدأ لهم بال حتى يعيدوا لها إشراقها وسطوتها وسلطانها في هذا البلد، الأمين الذي هو بلدها دون منازع. وليس ببعيد ذلك العهد الذي استطاعت فيه اللغة العربية أن تصارع الفرنسية وتصرعها في أكثر من ميدان. كان ذلك في السبعينات، عندما كانت سياسة ''التعريب'' التي تبنتها جبهة التحرير الوطني، وقد كانت الحزب الواحد آنذاك - كخيار استراتيجي لا رجعة فيه. حيث أنشئت لجنة وطنية للتعريب كان يرأسها الأخ عبد القادر حجار وتضم في صفوفها ألمع وأبرز الأساتذة والمفكرين في جميع حقول المعرفة بالإضافة إلى مسؤولين سامين من قيادة الحزب ومن كل الوزارات والمؤسسات، كما كانت لجنة فروع على المستوى المحلي الولائي والبلدي، وقد قامت اللجنة الوطنية وفروعها بعمل جبار على صعيد الإدارة والتعليم والمحيط وكلل ذلك العمل بندوة وطنية من أجل تقييم الحصيلة وتسطير برنامج مستقبلي. وقد كان لتلك الندوة التي انعقدت سنة 1975 والتي حضرتها، كما حضرها أغلب إطارات الأمة، وأشرف على اختتام أشغالها الرئيس ''بومدين'' رحمه الله بنفسه، صدى كبيرا في أوساط المجتمع الجزائري، فشكلت بذلك معلما بارزا على طريق العودة بالجزائر إلى هويتها وأصالتها و ''إنّيتها كما يقول المرحوم ''مولود قاسم''، لكن - ومع الأسف الشديد - لقد كانت الندوة الأولى والأخيرة من نوعها، ومع ذلك فقد استقر عمل اللجنة الوطنية ولجانها الفرعية ولم ينقطع حتى بعد رحيل ''بومدين'' وإن بأشكال أخرى، وزخم أقل، ذلك لأن أعداء العربية المتمثلين في التيار الفرنكوفوني التغريبي، لم يستسلموا، كما يفعل العروبيون في أغلب الأحيان ويا للأسف، قلت لم يستسلم الأعداء وظلوا يقاومون بشراسة وعلى جميع الأصعدة، وكسبوا بعض الجولات، ولكنهم لم يكسبوا الحرب. لقد استطاع أنصار العربية داخل جبهة التحرير أن يستعيدوا المبادرة وأن يقطعوا أشواطا هامة تمثلت أساسا على مستوى الحكومة في كل الوزارات والولايات والدوائر والبلديات وبهذا العدد ومن باب العرفان بالفضل، لابد أن أنوه بالجهود المعتبرة التي قام بها بعض المسؤولين آنذاك، نذكر منهم على وجه الخصوص الأخ الأستاذ ''بوعلام بن حمودة'' وزير الداخلية ثم العدل، والأخ أحمد بن محمد حين توليه وزارة التربية، كما لا ننسى الأخ العلامة مولود قاسم وزير الشؤون الدينية وفضل معاهد التعليم الأهلي على ترسيخ اللغة العربية، يضاف إلى ذلك الدور الفعال الذي قام به الأستاذ محي الدين عميمور على مستوى الرئاسة، وكذا الجهد الجبار الذي بذله الأخ شريف مساعدية على صعيد الحزب ومن بعده الأخ مهري رحمه الله، لكن الأمور بدأت تتدهور بعد ذلك مع الأسف، خاصة في أعقاب أحداث 5 أكتوبر ,88 ثم تفاقمت بعد 92 في ظل الأحداث المؤلمة التي عرفتها البلاد، حينها استغل خصوم العربية الظروف القاسية التي كان يعاني منها الشعب، لطعنها من الخلف تحت شعار الحداثة المزيف وبدعوى محاربة التطرف الديني، تلك الدعوة المضللة التي استطاعوا بفضلها وفي غفلة من الأمة المنشغلة بهمومها أن ينفذوا إلى دوائر القرار وأن يكسبوا معارك أخرى على درب ذلك الصراع الذي لا ينتهي بين التعريب والتغريب، ومع ذلك لم يتمكنوا من حسم المعركة ولن يتمكنوا لا اليوم ولا غدا من ذلك، ما دام هناك - كما أسلفت- مواطنون متشبثون بالهوية العربية الإسلامية. لهذا الوطن ويحاربون من أجلها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لكن الغريب في ها الفراغ الحضاري أن نجد كثيرا من المعربين بل ومن المدافعين عن العربية إلى حد التعصب، يسقطون بوعي أو بدون وعي ضحايا لذلك الاستلاب الفكري المقيت، فتراهم في كتاباتهم وأحاديثهم يسوقون شواهد من مقولات وأمثال وحكم أجنبية وفرنسية على وجه الخصوص ويعتبرونها شهادات وبراهن قطعية الدلالة وكأنها أحكام منزلة مع أن في تراثنا الزاخر ما هو أنصع بيانا وأبلغ حجة وأقوم قيلا كما قال الأستاذ مصطفى صواق ذات يوم. ظاهرة الاستلاب هذه تعود في رأيي أساسا إلى شعور بالنقص متغلغل في أعماق نفوسنا وفي نفوس النخبة خاصة. فرغم ما تتظاهر به من كبرياء واعتداد بالنفس وادعاء بالتفوق إلا أن ذلك يخفي في الحقيقة عقدة دفينة في وجداننا ومستحكمة في عقولنا تتجلى أكثر ما تتجلى في تقليد كل ما هو غربي والانبهار بقشور الحضارة الغربية الزائفة وهذا ما يجعلني أختلف مع من يدعي بأن الجزائري له حساسية تجاه كل ما هو أجنبي أختلف معه لأن الواقع يثبت أنه مفتون بكل ما هو مستورد من وراء البحر تبشرا كان أم فكرا أم منتوجا ماديا ألا ترى معنى أن حياتنا ولا سيما حياة نخبنا كلها مستوردة بما فيها من مأكل ومشرب وأدب وفن، صحيح أن الجزائري بطبعه لا يقبل أن يفرض عليه أي شيء فكرا كان أو عملا فهو معتد بنفسه إلى حد الغرور لكنه في نفس الوقت سريع التأثر وبالتالي سهل الانقياد مما يؤدي به غالبا الى الافتتان بكل ما يأتي من الغرب ويقلده طواعية وعن طيب خاطر وإن كانت له حساسية فهي دائما تجاه ما هو عربي لأن العربي من جنسه. الأمر الذي يجعله ولا أقول كل الجزائريين ينفر من كل ما يمت إلى العرب بصلة ويستهين به في مفارقة عجيبة، أقول مفارقة لأنه في ذات الوقت لا يتردد كلما واجه الأجانب في التفاخر والتباهي بانتمائه إلى الحضارة العربية الإسلامية التي سادت العالم في زمن من الأزمان لكن الأدهى والأمر هو أن هذا الاستلاب الثقافي يمتد بحكم المنطق إلى الفكر السياسي ويبرز أكثر ما يبرز مع الأسف في سلوك نخبتنا السياسية ومواقفها. ألا ترون مثلا أن معظم الزعماء والسياسيين على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم يتطلعون في هذه الأيام التي كثر فيها الحديث عن الرئيس ومن ثم الرئاسيات المقبلة ألا تراهم يتطلعون إلى كل ما يقوله الغربيون بشأنها أكثر مما يهتمون برأي الجماهير الشعبية ومواقفها وكأن الأمر يتعلق بانتخابات رئاسية فرنسية أو أمريكية.. غريب والله تصرف هؤلاء الأذناب الملتحقين قلبا وقابلا بفرنسا وهي كارهة لهم وإن حدث أن أعارتهم نوعا من الاهتمام أحيانا، فإن ذلك من باب مصالحها ومصالحها فقط وإذا كان الحال هكذا فلماذا يلوم، بعضنا الأجانب على التدخل في شؤوننا، فلا فرنسا ولا غيرها زعم بأن له كلمة أو نفوذ فيما يتعلق بمستقبلنا السياسي فالقضية قضية داخلية تخص الشعب الجزائري دون غيره كما صرح بذلك المسؤولون الفرنسيون أنفسهم على أعلى المستويات ومع ذلك لا يقتنع سياسيونا ولاسيما الصحافيون منهم ولا أقول كلهم فتراهم مستمرين في طرح أسئلتهم السخيفة بإلحاح على كثير من الساسة والمفكرين الفرنسيين والأمريكيين وغيرهم ولو كانوا من المستوى الذي لا يعبأ به في بلدانهم ألا يعلم هؤلاء الصحافيون ''المساكين'' ان في تصرفهم هذا إهانة لهم ومن خلالهم إهانة لكرامة الجزائر والجزائريين جميعا، فماذا تقول مثلا في صحافي يسأل أحد المسؤولين الأجانب قائلا بالحرف هل تقبل فرنسا وأمريكا بأن يكون رئيس الجزائر القادم إسلاميا؟ إن المرء يكاد يصاب بالجنون أو بالسكتة الدماغية عندما يسمع مثل هذا السؤال الأخرق لو استعمل صاحبنا عبارة هل ترفض أو هل ترتاح فرنسا لهان الأمر نوعا ما لكن أن يستعمل عبارة هل تقبل فهذا لعمري من علامات الساعة أليس هذا هو مركب النقص في أجلى صوره ، هذه هي المركوبية في أسمى معانيها أليست هذه هي قابلية الخضوع كما قال عنها الأخ سليم قلالة في احدى إطلالاته أو بالأحرى قابلية الانبطاح كما سماها مفكرنا الفذ مولود قاسم رحمه الله، نحن لا ننكر بأن لبعض الدول نوعا من التأثير في المشهد السياسي الجزائري وهذا أمر طبيعي يفرضه التاريخ والجغرافيا والعلاقات التي تربطنا بها لكن هذا التأثير لا يمكن بحال من الأحوال أن يرقى إلى الدرجة التي تجعلها تتحكم في قرارنا السياسي. ولقد بلغ التنطع بأحد أصحاب العقول المهووسة حد الإدعاء بأن لا أحد من الرؤساء الجزائريين جاء إلى الحكم دون موافقة وتزكية فرنسا؟ هذا الإنسان إما أنه يجهل التاريخ وإما أنه مبهور بفرنسا إلى حد الولع الذي يعمي البصيرة والبصر وإلا كيف يتصور مثلا أن الرئيس بن بلة ذلك العروبي المغرم بجمال عبد الناصر وثورته القومية وصل إلى الحكم برغبة فرنسا كيف يتصور أو يخطر بباله أن بومدين رحمه الله أتى للسلطة بإرادة فرنسا وهو الذي لم يزرها أبدا وجرّعها العلقم بفضل سياسته الثورية المعادية للاستعمار والإمبريالية ألا يذكر هذا المخبول تلك الصرخة المدوية التي أطلقها بومدين يوم مست كرامة المغتربين الجزائريين حيث قال ''نشاالله ناكلو التراب ما عادش جزائري ايروح لفرنسا'' كيف ينسى هذا ومواقف أخرى لا تعد ولا تحصى تفند ادعاءاته، تفنيدا قطيعا لا مراء فيه ، وإذا سلمنا مع هذا المفتري وأمثاله بأن فرنسا تتحكم في قرارنا وتملي علينا سياستنا وتعين رؤسائنا فهذا معناه أننا لازلنا مستعمرين استعمارا كليا ويجب علينا إذن القيام بثورة جديدة ضد الاستعمار لا أن نطالبه بالاعتذار عن جرائم ارتكبها قبل وأثناء حرب التحرير التي انتهت برحيله إلى الأبد من أرض الجزائر حتى وإن بقي معششا في رؤوس هؤلاء المنحرفين فكريا وثقافيا، لماذا إذن يطالبون بتجريم الاستعمار إذا كان الاستعمار مغروسا في عقولهم وعقول ذريتهم بحكم الوراثة الفكرية وماذا يفيد الاعتذار وتجريم الاستعمار إذا كانت غالبية شباب الجزائر وليس كلهم بطالين يتوقون إلى العيش في أجواء فرنسا ويدفعون أحيانا مبالغ كبيرة من أجل رحلة حرڤة تؤدي بهم إلى الهلاك غرقا واحتراقا في أغلب الأحيان وإن وصل بعضهم إلى الضفة الأخرى فمصير أكثريتهم البقاء في مراكز الاحتجاز، انتظار العبور غير مضمون أو طرد محتمل يقضي على آمالهم في الولوج إلى الفردوس المفقود كما يظنون و ان حالف بعضهم الحظ وهم قلة وجد نفسه تائها في شوارع مدن لا يعرف أهلها بحثا عن عمل شريف نادرا ما يحصل عليه وإن حصل عليه غالبا ما يعاني من التميز والإذلال ليس إلا . هل تساءل هؤلاء المتنطعون عندنا والمتشدقون بالسيادة أبناءهم لماذا يغامرون بحياتهم هربا من أرض الوطن ولن يقول لي أحد بأنهم يقدمون على ذلك سعيا وراء الحرية والعيش الكريم، لقد رأيت شخصيا كما رأى غيري تلك الحياة المقرفة إن لم أقل المهينة التي يعيش فيها أكثريتهم وحتى إن كانوا من ذوي الكافاءات والإمكانيات لهم غالبا الفرصة للتميز والإزدراء هل سألتم هؤلاء الشباب لما يصرون على هجر الأوطان مع مالهم ومن معزة وحب في قلوب البشر حتى ولو قست الحياة فيها فلا كرامة ولا حرية لا حقوق إلا في الوطن حتى وإن انتهكت أحيانا لسبب من الأسباب ألم يقل الشاعر العربي قديما