قال الطفل في رسالته: أعرف أنّكم لن تصدّقوا كلامي، لكنّ ما حدث أنني أطلقتُ سراح عصفور كنت أحبسه في قفص وأهتمّ به، فطار وطار ثم عاد إليّ ودخل القفص من جديد.. هكذا أرسل الطفلُ البريء متفاعلا مع برنامج الأطفال الجزائري الشهير في السنوات الخوالي.. وقرأت مقدّمة البرنامج، ماما نجوى، الرسالة وعلّقت عند جملة لن تصّدقوا كلامي، بقولها: ونحن نصدّقك. تفاعلُ الطفل جاء بعد متابعته لحلقات تمثيلية إذاعية تتحدث عن العصافير وضرورة الإحسان إليها وعدم حبسها لأنها مخلوقات تعشق الحريّة والعيش في الأجواء المفتوحة حيث السعي اليومي لتحصيل القوت، لا الانزواء في الأقفاص ولو كانت ذهبية وتوفّرت فيها متطلبات حياة الطيور من ماء وحبّ. أذكر جيدا ذلك اليوم، وهو يوم عطلة، وأذكر إلى الآن بعض تفاصيل وحكايات ذلك البرنامج الأسبوعي الذي كنّا نتابعه بشغف، فقد كانت الإذاعة حينها هي سيدة الإعلام والاتصال بالنسبة لمنطقتنا القروية، وبالكاد بدأ التلفزيون في الظهور لدى بعض الموسرين من القرويين والفلاحين فضلا عن معلّمي المدرسة الابتدائية، ولم يكن ذلك التلفزيون ملوّنا بطبيعة الحال، كما أنّ الخيار واحد فقط، وهو القناة الوطنية التي ينتظرها الناس بعد الزوال لتودّعهم قبل منتصف الليل. وكما صدّقت (ماما نجوى) ذلك الطفل، صاحب الرسالة، نجد أنفسنا اليوم مجبرين على تصديق مظاهر أخرى شبيهة، لكنّ أبطالها لا ينتمون إلى عالم الطيور بشتى ألوانها وأشكالها، بل هم بشر يمشون على الأرض ويأكلون الطعام بأيديهم ولهم عقول تحملها رؤوس فوق الأكتاف، وربّما ادّعت هذه العقولُ المعرفةَ والفطنةَ أكثر من أيّ جنس بشري على سطح هذه المعمورة. نعم.. نحن على يقين في هذه المرحلة التاريخية أن شعوبا، أو نسبة معتبرة بالأحرى، تعشق العودة إلى الأقفاص والاستمتاع بحياة القيود والأغلال، وأكثّر من ذلك تغنّي وترقص عندما يظهر جلاّدها، أو وليّ نعمتها كما يدّعي هو وتدّعي هي. أكره الضحايا الذين يحبّون جلاّديهم.. عبارة تُنسب إلى الفيلسوف الوجودي الفرنسي جان بول سارتر.. ذلك المفكّر الذي يعتقد أن الناسَ أحرارٌ تماما إلا أنهم يخشون الاعتراف بهذه الحرية وتحمّل المسؤولية الكاملة تجاه سلوكهم. لا يسمح المقام بالحديث عن حدود الحريّة وعلاقتها بالمعتقدات وحقوق الآخرين، فبيت القصيد هنا هو الإحساس بالحرية وقيمتها إلى درجة جعلت الفيلسوف الفرنسي يعلن كرهه للضحايا الذين يحبّون جلاّديهم.. بينما لم يعبّر عن كرهه للجلاّد، لأن هذا تحصيل حاصل عند عقلاء البشر قديما وحديثا، في الشرق والغرب، وبين العرب والعجم، وحتى الروم والفرس والإغريق والقوط والمايا في الأزمان الغابرة. ومع إعجابي بقول سارتر، فإنني أدعو إلى الشفقة على الضحايا الذين يمجّدون الجلاّدين ويرفعون صورهم ويدافعون عنهم في المسيرات والتظاهرات والتجّمعات الانتخابية والسياسية ويعلّقون صورهم في البيوت والمكاتب والمتاجر، أو يثبّتونها على شاشات أجهزة الكمبيوتر والهواتف النقّالة.. يا إلهي: رحمتك بهؤلاء الأشقياء البؤساء.. ماذا لو عاد الزمن إلى الوراء، وإلى عقود ازدهار الحركة الرومانسية في الأدب الفرنسي على وجه التحديد!.. ربّما تخلّى فيكتور هوجو عن أبطاله في رواية البؤساء الشهيرة واستبدلهم بعدد من الشخوص المريضة الهزيلة التي نراها ونتابعها في عالم العرب اليوم. سوف يندهش الأديب الرومانسي هوجو بالمشهد المصري الراهن عندما يعاين عددا كبيرا من البؤساء وإن ركبوا أفخم السيارات وارتدوا أجمل الثياب وربطات العنق، فضلا عن الآخرين من أصحاب البؤس المركّب والمضاعف.. فلا هم في العير ولا في النّفير، فأوضاعهم المعيشية صعبة بما يستعصي وصفه، بينما ترتفع الأيادي وتهتف الحناجر بحياة من نسج خيوط ذلك المشهد المأساوي. إنه مشهد تأييد المشير عبد الفتاح السيسي وهو يعلن ترشّحه للرئاسة ضاربا عرض الحائط بوعوده السابقة وتأكيداته على أن بينه وبين الرئاسة الملايين من السنوات الضوئية، فهي في حكم المستحيل لأنه جاء منقذا لإرادة الشعب على حدّ زعمه، وما هي إلا مرحلة انتقالية محدودة حتى يردّ للشعب أمانته ليحكم نفسه بنفسه ويعود السيسي، ورفاقه، إلى الثكنات حيث يخدمون الوطن من تلك المواقع خاصة إذا نادى المنادي من جهة الشرق، حيث إسرائيل طبعا، وليس قطاع غزة. لا شكّ أن للمشير السيسي نسبة لا بأس بها من المؤيدين، وهم بين منتفع انتهازي، وخائف من المستقبل والتغيير لأنه اعتاد حياة الأمان الكاذب ورغيف الخبز ولو كان ممزوجا بالذل، وساذج ما زال يعيش عصر الزعامات الزائفة والعنتريات الفارغة التي صنعت الهزائم في العقود الماضية وسوّقتها للجماهير نصرا مؤزّرا، كما حافظت على مستويات التخلّف والتردي وأمرت الشعوب بأن تغنّي للإنجازات العظيمة التي أبهرت اليابان وأمريكا وألمانيا.. إنهم مرضى الزعامات وبينهم صحافيون وقادة أحزاب وعلماء ورجال دين مسلمين ومسيحيين. ومع حجم المرارة الذي يشعر به الأحرار ممّا يجري في مصر، أقول لذلك العصفور الذي عاد إلى حياة القفص: هنيئا لك الطعام والشراب والغناء لسجّانك.. لكنّ انتبه، فليس من حقك الاحتجاج على بقية العصافير لأنها فضّلت حياة الحرية والكرامة والانطلاق من شجرة إلى أخرى دون أدنى قيد أو حتى شبهة قيد. لقد فتحت ثورة الخامس والعشرين من يناير في مصر بابا واسعا للحرية، وقد دخله أغلب المصريين في البداية، وبعد فترة من انطلاق المسيرة نحو الأمام عاد البعض إلى ممارسة هواية النظر إلى الوراء، فتاقت النفوس المريضة إلى القضبان والكرابيج ووجوه السّجانين القاسية وكلماتهم النابية، ومن هناك بدأت المسيرة العكسية. صدق من قال: يستطيع الأحرار تحطيم أبواب السجن، لكنهم لا يستطيعون إرغام العبيد على الخروج منها.