بعد بضع سنوات من غزو العراق تحسّر الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش على حالة التشرذم التي يعيشها العراقيون، وعبّر بسخرية عن افتقاد بلاد الرافدين لزعيم يوحّد الشمل مثل مانديلا، وأضاف: إن نيلسون مانديلا مات لأن صدام حسين قتل كلّ مانديلا عراقي.. واشتبه الأمر على البعض حينها حين ظنّوا أن مانديلا مات فعلا، وهو الأمر الذي نفته مؤسسة نيلسون مانديلا. لا أدري، وليس مهما أن أدري، إن كان جورج بوش الإبن يمكن أن يتحسّر فعلا على الوضع المأساوي في العراق في تلك السنوات أو حتى الآن وهو بعيد عن البيت الأبيض، لأنّ العبرة بالأفعال، وقد فعلها هو عندما أصرّ على تدمير العراق بسبب رجل واحد هو صدّام حسين الذي يشكّل عبئًا على شعبه وخطرا على الأمن العالمي على حدّ زعم الدعاية الأمريكية. ومع ذلك فإن كلمة بوش الابن لامست الحقيقة، أو طرفا منها على الأقل، لأن الزعامات والحكومات العربية التي حملت ألوية الاستبداد والفساد بذلت أقصى ما تملك من جهود لإجهاض مشاريع عدد كبير من المانديلات.. والأمر ذاته ينطبق على دول أخرى في مختلف قارات العالم. ومع أنّ جرائم الاستبداد والفساد لا تُغتفر ولا تُبرّر بأيّ حال من الأحوال فسوف أسمح لنفسي بتفهّم الحالات المرضية المزمنة التي يعيشها المستبدّون وذلك الاتحاد الكامل بينهم وبين السلطة والكراسي والمصالح، ومن ثمّ يتحول الإصلاح عندهم إلى جريمة، والمصلح إلى شيطان بكلّ ألوان الطّيف، وطالب الحقّ هرطيق متطاول على أقدس المقدّسات، وهكذا يستحق النفي والتشريد وحتى القتل ثم التنكيل بمن حوله من أهل وعشيرة. لكنّ ما استفزّني بشدّة هو ما فعله رؤساء وزعماء وسدنة استبداد وفساد بعد موت الزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا.. لقد تفنّنوا في عبارات العزاء وتعداد صفات الراحل وأفضاله على الإنسانية جمعاء.. وأبرقوا برسائل العزاء وتحدّثوا لوسائل الإعلام وحضروا مراسم التأبين. لو عاصر هؤلاء مانديلا في عزّ النضال والكفاح لأمطروه سبًّا ولعنًا صباح مساء، لأنّهم سيتوجّسون من تأثيره على شعوبهم وإلهامه النضالي لغيره ولو عبر آلاف الكيلومترات، ومن وراء البحار والمحيطات.. فكم من مانديلا دفنوه في بلدانهم.. وكم سجنوا وشرّدوا.. بل أكثر من ذلك.. لقد حوّلوا دولا كاملة، لها أعلامها وجيوشها وأناشيدها الوطنية، إلى معتقلات بأتمّ معنى الكلمة.. أو في حدود نصفها أو حتى ثلثها على الأقل. لماذا ثار مانديلا ورفاقه على نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا؟.. بل ما هي فلسفة ذلك النظام البغيض؟.. أليست المحصّلة ظلم وتهميش وانفراد بالحكم والثروات والخيرات؟.. أليس غياب الرأي والرأي الآخر؟.. ألم نكن أمام أقلية تريد أن تفرض رأيها على الأغلبية؟.. الأمر ذاته حدث، وما زال يحدث بأشكال متعددة وربما مبتكرة وفي دول حضر زعماؤها لإلقاء النظرة الأخيرة على المناضل العالمي، أيقونة الصمود، نيلسون مانديلا. على كلّ حال.. هذا ما حدث.. فلنحاول العيش في إطار اللحظة التاريخية ونستشعر مع أحرار العالم عظمة تلك القيم التي ناضل من أجلها نيلسون مانديلا وجسّدها عندما وصل إلى منصب الرئاسة ثم تركه بمحض إرادته بعد خمس سنوات فقط.. فلم يخطّط لفترة ثانية في منصبه وواجه شعبه بخطاب الوداع ثم تقاعد. والإعجاب بمآثر الرجل ونضاله لا يعني أبدا أنه كان في مأمن من الأخطاء والمزالق، بل العكس هو الصحيح حيث تزدحم التساؤلات في ثنايا حياته الشخصية والسياسية، لكنّه أمر يعني المؤرخين والدارسين أكثر من غيرهم، في تقديري، لأن العبرة الآن بدروس النضال والصمود والتسامح التي حجزت لنفسها مكانا مرموقا في الإرث الإنساني المشترك. لقد سخر الرجل من الإغراء وقاوم التهديد والاضطهاد وصمد في السجن قرابة الثلاثين سنة، وعندما استنشق عبير الحرية من جديد وجد نفسه في أتون معركة أخرى أشدّ ضراوة من الأولى.. إنها النفس وإرغامها على العفو والصفح والتسامح والتعايش مع الآخرين.. وأيّ آخرين هم.. إنهم الذين انتهكوا الأعراض وقتلوا الكبار والصغار واستأثروا بالثروات سنين طويلة.. ومَن هؤلاء ومن أين جاؤوا وما لون بشرتهم؟.. أهم من أبناء العمومة أو الجيران، لكنّ نوازع الشرّ دفعتهم إلى ارتكاب تلك الفظائع؟.. لا.. إنهم وافدون غرباء قطعوا آلاف الكيلومترات وحضروا إلى إفريقيا ضمن جيوش الغزو والنهب والاستعباد، فلمّا تغيّرت قواعد اللعبة الاستعمارية طاب لنفر من البيض البقاء وقرّروا الاستيلاء على البلاد والعباد. لقد انتصر مانديلا على نفسه وأقنع قومه من السود والملوّنين بقيمة العفو ليتسنّى للجميع النظر إلى المستقبل بوضوح.. أسس دستورا جديدا ولجنة للحقيقة والمصالحة.. وعاش الناس فترات عصيبة من المكاشفة والاعتراف والتسامح بين جلاّدي وضحايا الأمس. لقد بلغ نيلسون مانديلا هذه المكانة العالية عبر سلالم النضال والصمود والصدق مع شعبه والزهد في كراسي الحكم.. ومن المفارقات المحزنة أن قائد الانقلابيين في مصر ظل يعيش في وادٍ آخر بينما يتفاعل العالم مع مشاهد ومشاعر الأيام العشرة الفاصلة بين موت مانديلا وإسكانه في قبره. لقد رأى عبد الفتاح السيسي مناما.. خير، اللهم أجعله خير.. رأى الرجل الصالح نفسه مع الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، فقال ذلك الحاكم العسكري الراحل إنني سأكون رئيسا لمصر، وردّ السيسي بأنه هو أيضا سيكون رئيسا لمصر.. ثم رأى نفسه وهو يحمل راية كُتبت عليها كلمة التوحيد لا إله إلا الله باللون الأحمر؟!! هراء في هراء.. لكنّ ما العمل.. ما دامت أعداد من شعوبنا تصدّق كلّ شيء يروّجه إعلاميون مضلّلون ويسوٌقه سياسيون انتهازيون ويغنّي له فنّانون مستعدّون دائما لتقبيل الأحذية.. مهما كانت هذه الأحذية.