السفيرة حدادي تؤدي اليمين بعد فوزها بمنصب نائب رئيس مفوضية الاتحاد الافريقي    جانت.. إقبال كبير للجمهور على الأيام الإعلامية حول الحرس الجمهوري    عطاف يتلقى اتصالا هاتفيا من قبل رئيس الحكومة اللبنانية    غريب يؤكد على دور المديريات الولائية للقطاع في إعداد خارطة النسيج الصناعي    خنشلة.. انطلاق قافلة تضامنية محملة ب54 طنا من المساعدات الإنسانية لفائدة سكان قطاع غزة بفلسطين    انخفاض حرائق الغابات ب91 بالمائة في 2024    متعامل النقال جازي يسجل ارتفاعا ب10 بالمائة في رقم الأعمال خلال 2024    بداري يرافع لتكوين ذي جودة للطالب    معرض دولي للبلاستيك بالجزائر    وزير العدل يجتمع برؤساء ومحافظي الدولة    هكذا ردّت المقاومة على مؤامرة ترامب    حملات إعلامية تضليلية تستهدف الجزائر    هذه رسالة بلمهدي للأئمة    طواف الجزائر 2025 (المرحلة 8): 76 دراجا عند خط انطلاق مرحلة الاغواط -غرداية على مسافة 8ر197 كلم    فريقا مقرة وبسكرة يتعثران    الجزائر تواجه الفائز من لقاء غامبيا الغابون    تسويق حليب البقر المدعم سمح بخفض فاتورة استيراد مسحوق الحليب ب 17 مليون دولار    هل تكبح الأسواق الجوارية الأسعار في رمضان؟    وزارة الصحة تحيي الأسبوع الوطني للوقاية    أمن البليدة يرافق مستعملي الطرقات ويردع المتجاوزين لقانون المرور    قِطاف من بساتين الشعر العربي    كِتاب يُعرّي كُتّاباً خاضعين للاستعمار الجديد    هكذا يمكنك استغلال ما تبقى من شعبان    الجيش الصحراوي يستهدف قواعد جنود الاحتلال المغربي بقطاع الفرسية    شايب يشارك في لقاء تشاوري مع جمعية الأطباء الجزائريين في ألمانيا    الحماية المدنية تواصل حملاتها التحسيسية للوقاية من الأخطار    المغرب: تحذيرات من التبعات الخطيرة لاستمرار تفشي الفساد    عرض فيلم "أرض الانتقام" للمخرج أنيس جعاد بسينماتيك الجزائر    محمد مصطفى يؤكد رفض مخططات التهجير من غزة والضفة الغربية المحتلتين    " لطفي بوجمعة " يعقد اجتماعا مع الرؤساء والنواب العامين للمجالس القضائية    سفيرة الجزائر لدى أثيوبيا،السيدة مليكة سلمى الحدادي: فوزي بمنصب نائب رئيس المفوضية إنجازا جديدا للجزائر    بمناسبة تأسيس الندوة الجهوية حول تحسين علاقة الإدارة بالمواطن    حسب مصالح الأرصاد الجوية " أمطار "و" ثلوج " على عدد من الولايات    الرابطة الأولى: نجم مقرة واتحاد بسكرة يتعثران داخل قواعدهما و"العميد " في الريادة    موجب صفقة التبادل.. 369 أسيراً فلسطينياً ينتزعون حريتهم    الذكرى ال30 لرحيله : برنامج تكريمي للفنان عز الدين مجوبي    المهرجان الثقافي للإنتاج المسرحي النسوي : فرق مسرحية تتنافس على الجائزة الكبرى "جائزة كلثوم"    إعفاء الخضر من خوض المرحلة الأولى : الجزائر تشارك في تصفيات "شان 2025"    22 نشاطا مقترحا للمستثمرين وحاملي المشاريع    تضاعف عمليات التحويل عبر الهاتف النقّال خلال سنة    الديوان الوطني للمطاعم المدرسية يرى النور قريبا    "سوناطراك" تدعّم جمعيات وأندية رياضية ببني عباس    انطلاق التسجيلات للتعليم القرآني بجامع الجزائر    تنسيق بين "أوندا" والمنظمة العالمية للملكية الفكرية    6 معارض اقتصادية دولية خارج البرنامج الرسمي    جامع الجزائر.. منارة حضارية وعلمية وروحية    حمّاد يعلن ترشحه لعهدة جديدة    دراجات: طواف الجزائر 2025 / الجزائري ياسين حمزة يفوز بالمرحلة السابعة و يحتفظ بالقميص الأصفر    محرز ينال تقييما متوسطا    كيف كان يقضي الرسول الكريم يوم الجمعة؟    سايحي يواصل مشاوراته..    صناعة صيدلانية : قويدري يبحث مع نظيره العماني سبل تعزيز التعاون الثنائي    وزير الصحة يستقبل وفدا عن النقابة الوطنية لأساتذة التعليم شبه الطبي    وزير الصحة يستمع لانشغالاتهم..النقابة الوطنية للأسلاك المشتركة تطالب بنظام تعويضي خاص    وزير الصحة يلتقي بأعضاء النقابة الوطنية للأسلاك المشتركة للصحة العمومية    هذه ضوابط التفضيل بين الأبناء في العطية    أدعية شهر شعبان المأثورة    الاجتهاد في شعبان.. سبيل الفوز في رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عمر‮ أزراج في‮ حوار حصري‮ ل‮ "‬الجمهورية‮"
"الشاعر ابن الحياة واللقب‮ يقرّره الآخرون‮"‬
نشر في الجمهورية يوم 12 - 03 - 2012


‮❊ إكتشفت في‮ بريطانيا أن للوطن حدود وقيود‮.‬
‮❊ الشعر لا‮ يوجد إلا في‮ تجارب الإنسان الذاتية والتاريخية‮.‬
‮❊ لا أزال أتدرّب على فهم الناس والتاريخ والطبيعة‮.‬
‮❊ كتابة القصيدة أشبه ما تكون بلحظة الحب المفاجئة‮.‬
‮❊ هناك الشاعر الحقيقي‮ أو اللاشيء‮.‬
‮❊ الترجمة هي‮ التواصل مع الحضارات الأخرى وإقامة الصداقة مع مخيال شعوبها‮.‬
‮❊ أصبحنا مثل الطيور التي‮ تصدّق نفسها حرة داخل القفص‮.‬
‮❊ ولدت في‮ لندن من جديد إنسانا وشعريا وفكريا‮.‬
‮❊ ربّتني‮ أهوال الحرب على أيام الإستعمار الفرنسي‮.‬
إن الحديث مع الشاعر والمفكّر والكاتب الجزائري‮ الكبير عمر أزراج،‮ أشبه بالإبحار في‮ محيطات الشعر،‮ وروافد الفكر والفلسفة،‮ التي‮ تصب فيه،‮ شاعر جعل من القصيدة موطنا أبديا،‮ يسمو بالحريّة تارة،‮ وبالحب تارة أخرى،‮ بلغة راقية ورافضة وصارخة،‮ تشع بالجمال وعذب الكلمات،‮ وهوس الإحساس،‮ الذي‮ تجلى بوضوح في‮ الحوار التالي،‮ الذي‮ خصّ به الجمهورية،‮ للحديث عن قضايا الشعروالفلسفة والفكر‮.‬
‮❊ الجمهورية‮:‬ قلت‮ »‬أنا لا أزعم أنني‮ شاعر أو مفكر،‮ بل أنا تلميذ الحياة‮«‬،‮ هل نفهم من كلامك أنك لم تتخرج بعد من هذه المدرسة،‮ رغم مسار طويل أبحرت من خلاله في‮ الفكر والفلسفة ونظم الشعر؟‮
‮- ع‮. أزراج‮:‬ الشاعر ابن الحياة وهذا الابن من شأنه أن‮ يوسع فضاء هذه الحياة‮. إن لقب الشاعر‮ يقرره الآخرون كما أن لقب المفكر‮ يقرره الآخرون أيضا‮.‬
فالشاعر الحقيقي‮ لا‮ يهمه اللقب الذي‮ يلحق به‮. فالمهم هو خوض التجربة عميقا و محاولة الرؤية إلى أبعد ما هو ممكن‮. في‮ اعتقادي‮ فإن الحياة مسرح كبير وكل واحد منا عليه أن‮ يؤدي‮ دوره فيه‮. يقول الشاعر الايرلندي‮ الشهير‮ "‬بطلر‮ ييتس‮" بأننا لا نفهم الحياة إلا إذا تصورناها كمأساة‮. عندما أشدد على القول بأنني‮ تلميذ الحياة بكل مدها،‮ و جزرها،‮ وتعقيداتها فذلك لا‮ يعني‮ أنني‮ أنسخ حرفيا علاقتي‮ بها،‮ بل فإن مهمة التلميذ هو أن‮ يتعلم أولا و من ثمة أن‮ يحول تعليمه إلى قيمة مضافة تقدم للناس في‮ عصره على الأقل‮. مرة تساءل الفيلسوف الألماني‮ مارتن هيدغر هذا السؤال‮: ما هو الشيء؟ ولكي‮ يجيب عنه أنجز كتابا كاملا و مع ذلك فلم‮ يقدر أن‮ يحدد بشكل صارم و نهائي‮ ماهية الشيء لأن هذا الشيء في‮ حالة تغير دائم و أن التغير في‮ سيولته‮ يصعب تعريفه على نحو نهائي‮ و مغلق‮. و كذلك فإن السؤال ما هي‮ الحياة‮ يصطدم من‮ يحاول الإجابة عنه بسيل من التعقيدات‮. فالحياة ليست قابلة أن تنضوي‮ تحت أية مقولة من المقولات العشر لأرسطو أو تحت المقولات الاثنى عشرة عند الفيلسوف عمانويل كانط‮. هنالك الحياة التي‮ نعيشها في‮ إطار الزمان و المكان و بوعينا‮ ،‮ و هنالك الحياة العقلية و النفسية التي‮ تخترق مدارات الفضاء و الوقت‮.‬
لا شك أن الشعر لا‮ يوجد إلا في‮ تجارب الإنسان الذاتية و التاريخية‮. و هكذا أحس بأن الشاعر كثيرا ما‮ يخون الحياة و أن الحياة تخون الشاعر أيضا كما قال‮ يوما صديقي‮ الشاعر الداغستاني‮ السوفييتي‮ الراحل رسول حمزاتوف‮. أقصد بذلك أننا عندما نريد أن نقبض على كلية الحياة فإن أجزاء حميمية منها تفلت من أصابعنا فجأة‮. في‮ الحقيقة فنحن كلما اقتربنا من حافة القبض على شيء عزيز من الحياة‮ يكون الموت قد أدركنا‮. إنه‮ يمكن أن أدعو‮ "‬نفسي‮" بالطفل الذي‮ ربَته أهوال الحرب على أيام الاستعمار الفرنسي‮ و من ثمة ترعرع في‮ مرحلة الاستقلال حيث رأى ذلك الطفل عناصر الحياة المختلفة في‮ هاتين مرحلتين و كل عنصر منهما مختلف عن الآخر ربما لحد التناقض‮.
أحس أننا قد فقدنا الكثير من البراءة و سُلخت عنا فضيلة الشجاعة حتى أصبحنا مثل الطيور التي‮ تصدق نفسها حرة داخل القفص‮. أقول لك بصدق شفاف بأنني‮ لا أزال أتدرب على فهم الناس‮ ،‮ و التاريخ‮ ،‮ و الطبيعة‮. كما أنني‮ ما أزال دائما أحلم أن أكون الشاعر القادر على إدراك لغة هذا الثالوث‮. لم أكتمل بعد رغم أنني‮ أكتب الشعر و الأدب والأفكار منذ أكثر من أربعين سنة و‮ يبدو لي‮ أن الطفل فيَ‮ لا‮ يحب أن‮ يكبر أو‮ يشيخ‮. أليس الشعر طفولة العالم كما‮ يقول هيدغر؟ نحن البشر نعتقد أن الحياة أفضل من الموت و لكن أرى أن للموت فضائل‮ ،‮ إنه‮ يساعدنا أن نترك المكان للآخرين لكي‮ يأخذوا حظهم من الحياة‮. لذلك فإنني‮ أعتبر الموت حياة بامتياز لأنه‮ يحررنا من الزمن كما‮ يحررنا من سيئاتنا‮.‬
‮❊ الجمهورية‮:‬ تعيش منذ حوالي‮ ثلاثة عقود ببريطانيا،‮ ماذا تعلمت من الهجرة؟
-‬‮ ع‮. أزراج‮:‬ نعم،‮ قد عشت في‮ بريطانيا أكثر من عقدين من الفرح والألم والدهشة و الهجرة إلى داخل‮ "‬عوالم لاوعيي‮". آلمني‮ البعد عن خلاخل الجبال التي‮ ولدتني‮ طفلا،‮ و رعت أذرعي‮ شابا‮. لم أختر الهجرة بل فإن الظروف و الملابسات التي‮ غيبت الحرية في‮ الجزائر هي‮ التي‮ ساقتني‮ إلى مصيري‮ في‮ المنفى شبه الاختياري‮.
منذ البداية أقول لك بأنني‮ اكتشفت في‮ بريطانيا أن الوطن قد‮ يكون فكرة تصنعها و تهندسها رويدا رويدا و تعمل من أجل تكريسها و تجسيدها‮. ففي‮ بريطانيا اكتشفت أيضا أن للوطن حدود و قيود ولكن ليس للفكرة حدود و قيود إلا إذا عاملتها بعقلية شرطة الجمارك‮. الانتقال من مكان إلى مكان علامة صحة لأن لكل مكان ظلاله الثقافية و الحضارية والتاريخية كما أن لكل مكان هويته‮. من هنا فإن السنوات التي‮ قضيتها في‮ الجزيرة المتلفعة بالضباب كانت تدريبا لي‮ و أعني‮ بذلك التدريب على إقامة علاقة المثاقفة مع تلك الظلال الجديدة عليَ‮ و تلك الهويات المختلفة عن هويتي‮.
لقد تحولت بريطانيا مع الزمن إلى مرآة كبيرة ذات مستويات متعددة رأيت فيها نفسي‮ أولا،‮ و ثقافتي‮ الوطنية ثانيا،‮ و انتمائي‮ الحضاري‮ ثالثا‮ ،‮ كما رأيت عبرها تجارب الشعوب تتحرك على مساحتها‮. هنا شرعت في‮ إنجاز عمليتي‮ المؤانسة و النقد الذاتي‮ معا‮. نحن لا نبني‮ أنفسنا بمعزل عن الآخرين‮. فالآخرون هم المكملون و المصححون والمعدلون للشخصية الفردية و الحضارية معا‮. ففي‮ بريطانيا ولدت من جديد إنسانا،و شعريا،‮ و فكريا و كانت عملية الميلاد من تعميد الألم و العزلة‮. صرت أفكر بالمفاهيم وأشعر بالمخيلة‮.‬
‮❊ الجمهورية‮:‬ ماذا عن زوجتك‮ »‬سوزان‮«‬،‮ هل فعلا كانت الزلزال الذي‮ زعزع أفكارك وغير مجرى حياتك؟
‮- ع‮. أزراج‮:‬ لا أفصل تأثير زوجتي‮ الإنجليزية السابقة المحللة النفسية والمثقفة‮ "‬سوزان‮" عن تأثير المجتمع البريطاني‮ عليّ‮. لقد كان لهذه المرأة فضل توجيهي‮ فكريا،‮ و صقل لغتي‮ الإنجليزية و توفير البيئة الإنسانية لي‮ طوال مرحلة المنفى‮. إنها قد لعبت دورا محوريا في‮ فتح عيوني‮ على التحليل النفسي‮ ،‮ و‮ في‮ نقلي‮ من مرحلة العاطفة،‮ والانفعال إلى مرحلة التعقلية و الهندسة الفكرية لحياتي‮ كإنسان و لمشروعي‮ الثقافي‮ و الفكري‮ و الأدبي‮. إن هذا زلزال إبستيمولوجي‮ أيقظني‮ من سباتي‮ العميق‮.
‮❊ الجمهورية‮:‬ ما هي‮ الأشياء التي‮ علمتك أبجديات الشعر؟
-‬‮ ع‮. أزراج‮: لا‮ يوجد شيء محدد علمني‮ أبجدية الشعر‮. أعتقد أنني‮ لم أتعلم الشعر،‮ لأنه و لو كان الشعر‮ يُعلَم لأصبح كل الناس شعراء‮. إن الطبيعة تكافئ بعض الناس و أنا‮ "‬ربما‮" واحد من هؤلاء‮. إذا أردت أن أجيبك أكاديميا سأقول بأن معاناة الاحتلال الفرنسي‮ الذي‮ عشت تفاصيله المرعبة طوال طفولتي‮ هي‮ التي‮ جعلتني‮ أكتب الشعر لكي‮ أجدد شعريا ذاكرة‮ ما حصل لنا‮. بالإضافة إلى ذلك فإن خيبات الاستقلال قد أثرت فيّ‮ عميقا،‮ و حفرت أخاديد كثيرة في‮ جغرافية حياتي‮. إنه بكتابة الشعر أنشد الخلاص،‮ وأن محاولة فتح أبوابه هي‮ التي‮ كانت و ما تزال‮ "‬القابلة‮" السحرية التي‮ تسرح من رحم مخيلتي‮ قطعان القصائد‮.‬
‮❊ الجمهورية‮:‬ كيف تتشكل القصيدة عند عمر أزراج؟
-‬‮ ع‮. أزراج‮:‬ كتابة القصيدة أشبه ما تكون بلحظة الحب المفاجئة‮. إنها تأتي‮ من الفضاء الذي‮ لا نتوقعه‮. فالقصيدة قد تبدأ حينا في‮ صورة فكرة،‮ و حينا آخر في‮ شكل انفعال‮ يسببه لي‮ موقف حياتي‮ ما،‮ و أحيانا أحلم بعوالم و عندما أستيقظ أحتفظ بها في‮ ذاكرتي‮ ثم أقوم من بعد بكتابتها‮. إنه لا توجد وصفة قارة و نمطية لكيفية بناء القصيدة‮ ،‮ أو تشكيلها‮ . كل قصيدة تتشكل وفقا للتجربة التي‮ تومض أو ترعد بها‮. إن التجربة هي‮ التي‮ تشكل بنية القصيدة في‮ البداية و من ثمة‮ يتدخل الوعي‮ فيبدأ في‮ تقييم تضاريسها مثلما‮ يفعل البستاني‮ الحاذق‮. كما نعرف فإن القصيدة هي‮ غالبا إسقاط نفسي،‮ أي‮ أنها من خلق عالم اللاوعي‮ الغائب عنا والذي‮ نادرا ما نتمكن من القبض عليه‮. في‮ الغالب لا نكتب القصيدة التي‮ نريد كتابتها وإنما نكتب القصيدة كما تريد هي‮ أن نكتبها.صحيح بأن الشاعر بعد ولادة القصيدة‮ يلجأ،‮ وهو في‮ غمرة الصحو،‮ إلى تثقيفها وإزالة الزوائد عنها و جعلها مثل الحصان البري‮ الذي‮ يلمع جلده من بعيد‮. إن الشاعر والناقد طوماس إليوت‮ ينصح الشعراء باستخدام المعادلات الموضوعية،‮ أي‮ اللجوء على جملة من الحالات و المواقف للتعبير عن التجربة بدلا من الانصياع للانفعال أو للعاطفة‮. في‮ السنوات الأخيرة بدأت أفعل هذا بطريقتي‮ الخاصة و على ضوء تجاربي‮ الحياتية‮ التي‮ تخصني‮ و أحاول أن أبنيها على نحو لا تبدو مغرقة في‮ الذاتية و من اجل أن تظهر و كأنها تجارب الناس الآخرين‮. فالفيلسوف الإغريقي‮ قد قال بأنه لا‮ يمكن أن تعبر النهر مرتين‮. بمعنى أن مياه النهر في‮ حالة تغير دائم وأن الإنسان الذي‮ يعبر النهر هو نفسه في‮ تغير دائم،‮ و أن مخيلته وتصوراته في‮ تحول مستمر‮. هنا أقول بان تشكيل القصيدة هي‮ عملية دائمة حتى بعد نشرها في‮ ديوان‮. أحس بحزن عميق لأننا نوهم أنفسنا بأن القصيدة قد تشكلت نهائيا‮. إنه كثيرا ما أمنًي‮ نفسي‮ أن أكتب قصيدة واحدة في‮ حياتي‮ وأن أظل أشكلها باستمرار وبلا نهاية‮. فالشاعر ليس هو الوحيد الذي‮ يشكل قصيدته بل القراء جميعا‮ يشكلونها من جديد كل حسب العلاقة التي‮ يصنعها معها‮.‬
‮❊ الجمهورية‮:‬ كنت تلح دائما على ضرورة إدماج الرؤية الفلسفية في‮ الرؤية الشعرية،‮ كيف؟ ولماذا؟
-‬‮ ع‮. أزراج‮:‬ أبدأ الآن في‮ سبر علاقة الشعر بالفلسفة،‮ و هنا أتساءل‮: ما هي‮ الفلسفة في‮ نظر الفلاسفة أنفسهم و بماذا تختلف أو تأتلف مع الشعر؟
في‮ كتابهما‮ " ما هي‮ الفلسفة‮ " يصطدم جيل دولوز‮ و فليكس‮ غتاري‮ بصعوبة إيجاد جواب مفرد أو مركب لسؤال‮ " ما هي‮ الفلسفة‮ " ؟‮ هذا‮ يعني‮ أنهما لا‮ يريدان الركون إلى التعريف التقليدي‮ بأن الفلسفة هي‮ حب الحكمة،‮ و لكنهما‮ يسرعان الخطى و‮ يجيبان بأن الفلسفة‮ " هي‮ تكوين و إبداع و صنع المفاهيم‮ "‬ومن ثم‮ يخلصان إلى القول بأن‮ " الإغريق هم الذين أكدوا موت الحكيم و استعاضوا عنه بالفلاسفة،‮ و أصدقاء الحكمة،‮ و وهم الذين‮ يبحثون عن الحكمة‮ لكن دون أن‮ يتملكوها بشكل قطعي‮ " كما قال الفيلسوف الروسي‮ الأصل الكسندر كوجيف‮. فالفرق بين الحكيم والفيلسوف وفقا ل‮-"‬دلوز‮" و‮ "‬غتَاري‮" هو أن الشاعر‮ " يفكر عن طريق الصورة في‮ حين‮ يبتكر الفيلسوف المفهوم ويُفكًره‮]. إذا سلمنا مع دولوز وغتَاري‮ بهذا الفرق فإنه بإمكاننا بأن نقول عندئذ بأن ما‮ يجمع بين الحكيم و بين الشاعر هو أنهما‮ يفكران معا بالصورة و ليس بالمفاهيم‮. من جهة أخرى فإن دولوز و‮ غتَاري‮ ينفيان أن تكون الفلسفة‮ " تأملا‮ " أو‮ " تفكيرا‮" أو تواصلا‮ وفقا لنظرية هابرماس‮. فما الفرق إذا بين عناصر هذا الثالوث‮: 1) الفلسفة،‮ 2‮)‬التأمل،‮ 3‮) التفكير؟‮
يرى دولوز و‮ غتَاري‮ بأن‮ " التأملات هي‮ الأشياء ذاتها من حيث أنها‮ يُنظر إليها في‮ إطار إبداعات مفاهيمها الخاصة و أنها ليست تفكيرا،‮ لأن لا أحد في‮ حاجة إلى الفلسفة للتفكير في‮ أي‮ شيء كان‮.." و هكذا فإن الفلسفة هي‮ " المعرفة بواسطة المفاهيم الخالصة‮".
إذا وافقنا هذين الفيلسوفين‮ فيما‮ يذهبان إليه كلية فإننا سنقبل إذن بالنتيجة التالية أيضا و هي‮ أن الأدب‮ ،‮ و الشعر جزء منه‮ ،‮ لا‮ يتفلسف بالمفاهيم المحضة،‮ لأن استخدام المفهوم في‮ الشعر‮ ينقل الشعر تعسفيا‮ إلى فضاء التفكير المنطقي‮ الذي‮ ليس هو بخاصية الفن الشعري‮.
هنا نطرح هذا السؤال‮: ما هو المفهوم؟‮ يقول الجرجاني‮ بأن المفهوم عند أرسطو‮ يتلخص في‮ تحديده للحد‮ "‬Limit‮ "‬،‮ بأنه‮ "‬النقطة النهائية للمفرد القائم في‮ ذاته،‮ النقطة الأولى التي‮ لا‮ يمكن أن‮ يوجد خارجها جزء الشيء،‮ و الداخل الذي‮ يمكن إيجاد كل أجزاء الشيء فيه‮". أما المفهوم حسب ابن رشد‮ فإنه‮ "‬الماهية المجردة عن المادة الشخصية و عن الأعراض الملازمة للمادة‮ ". إذا كان‮ "‬المفهوم هو حصول صورة الشيء في‮ العقل‮"‬،‮ أفلا نستطيع القول بأن الشعر هو حصول الشيء في‮ المخيلة،‮ و أن هذا الشيء القائم في‮ المخيلة التي‮ تبدع فيما بعد‮ النص الشعري‮ هو النقطة النهائية التي‮ لا‮ يمكن أن‮ يوجد خارجها جزء ذلك الشيء،‮ و الداخل الذي‮ لا‮ يمكن إيجاد كل أجزاء ذلك الشيء فيه؟ أليس هذا ما‮ يجعل جاك دريدا‮ يقول بأن لا وجود لشيء ما خارج النص؟ هنا نؤكد بأننا لو حاولنا العثور على هذا‮ "‬الشيء‮" في‮ الخارج‮ فإن الذي‮ نجده لا‮ يمكن أن‮ يشبه تماما ذلك الشيء القائم في‮ النص الشعري‮. إنه صحيح أن الشاعر لا‮ يتعامل‮ مع المفاهيم المجردة مثل الفيلسوف،‮ ولكن الوصول إلى المفهوم عند الفيلسوف لا‮ يسبق عملية التفلسف،‮ و لا‮ ينفي‮ لجوءه إلى التشبيه مثلما‮ يفعل أفلاطون في‮ كتابيه‮ " طايماس،‮ و كريطياس " حيث‮ يشبه فيه وعاء الصيرورة بالبلاستيك المادي،‮ و برحم المرأة حيث‮ يكمن ويولد الوجود،‮ ونجده‮ يفعل ذلك مرارا في‮ في‮ كتابه‮ "‬الجمهورية‮ " عندما تتمخض تشبيهاته و مقارناته الشبيهة بالسرديات الأدبية عن مفهومي‮ المثل،‮ و‮" التمثيلات‮ " Representations‮.‬
بهذا الصدد‮ يمكننا أن نستدعي‮ "‬غاستون باشلار‮" و خاصة في‮ كتابيه‮ " جماليات المكان‮"‬،‮ و‮ " شاعرية أحلام اليقظة‮ " حيث‮ يسلم بتباين مهمة الفيلسوف من جهة‮ ،‮ عن مهمة الأديب و الشاعر من جهة أخرى‮:"‬فالفيلسوف الذي‮ تطور تفكيره بكامله من خلال الموضوعات الأساسية لفلسفة العلم،‮ و الذي‮ تابع الحط الرئيسي‮ لعقلانية‮ (‬rationalism‮) العلم المعاصر النشطة النامية،‮ عليه أن‮ ينسى ما تعلمه،‮ في‮ دراسة المسائل التي‮ يطرحها الخيال الشعري‮". لكن باشلار‮ يريد هنا أن نتأمل قوله هذا‮ :" فإذا كان لا بد من‮ وجود فلسفة للشعر،‮ فعليها أن تظهر و تعاود الظهور خلال شعر ذي‮ دلالة،‮ عبر التزام كلي‮ بالصورة المنعزلة،‮ و حتى تكون أكثر دقة،‮ فإنه‮ يجب أن‮ يتم في‮ لحظة الانتشار بطزاجة الصورة‮ ".
في‮ الوقت نفسه‮ يبعد‮ "‬باشلار‮" الشبهة أن تكون الصورة الشعرية مجرد اكتناز عاطفي‮ صرف،‮ أو نتاج تخيل صرف ويرى بأن‮ " قدرة الصورة الشعرية على التواصل مع المتلقي‮ هي‮ واقعة ذات دلالة أنطولوجية كبيرة‮".‬إن هذه الدلالة الأنطولوجية في‮ الشعر‮ التي‮ يتحدث عنها‮ "‬باشلار‮" تعني‮ لنا الدلالة الوجودية التي‮ هي‮ من صميم العلاقة القائمة بين الشعر و الفلسفة‮ والتي‮ يشتركان فيها‮. ففي‮ مناقشته لنوعين من‮ الفلسفة المختلفين في‮ كتابه‮ " في‮ الفاهمة الإنسانية‮" يرى الفيلسوف الأسكتلاندي‮ ديفيد هيوم بأن‮ "‬الفلسفة قسمان‮ : قسم‮ يستعين بكل حيل الشعراء والفصاحة،‮ معالجين موضوعهم بأسلوب سهل و واضح مستعملين ما هو أكثر خلبا للمخيلة و استحواذا على المشاعر‮ ". أما النوع الآخر من الفلاسفة حسب هيوم‮ " فينظرون إلى الإنسان بوصفه كائنا عاقلا‮ ،‮ و ليس بالأحرى فاعلا‮ ،‮ ويجهدون لأجل أن‮ يصلحوا فاهمته أكثر مما أن‮ يهذبوا عاداته،‮ و تراهم‮ ينظرون إلى الطبيعة البشرية بوصفها موضوعا للنظر الاعتباري‮ ( speculation‮) فيفحصونها و‮ يفلَونها عن كثب بهدف العثور على المبادئ التي‮ تنظم فاهمتنا وتثير مشاعرنا‮". وفقا ل"هيوم‮" فإن فصيلة من الفلاسفة تلجأ إلى آليات الشعر والشعراء في‮ القول الفلسفي‮.‬
لألبير كامو‮ رأي‮ يتأرجح بين الاختلاف عن هيوم جزئيا،‮ و الاتفاق مع باشلار‮. يقول كامو‮: " إن الشعراء والأدباء‮ يكتبون بالصور،‮ ويتم تفضيل هذا الشاعر أو ذاك على مستويات الاختلاف المتولد من درجة الإبداعية في‮ استخدامها‮. لكن ما‮ يميز الفلاسفة هو الكتابة بالاستدلالات‮". ولكن كامو لا‮ يعدم وجود بعض التفكير عند الشعراء،‮ ولكنه ليس هو المعيار الحاسم لقياس تفوق الشعرية عند هذا أو ذاك،‮ كما أن صحة التفكير أو خطأه ليس بالمعيار ذاته في‮ تقديره‮ ..."
كما نرى فإن كلا من دولوز وغتاري‮ وكامو‮ يتفقون ضمنيا وجهرا بخصوص الحاجة المتمثلة في‮ أن الشاعر‮ يفكر بالصور و ليس بالاستدلالات أو بالمفاهيم شأن الفيلسوف الذي‮ صنفه هيوم في‮ إطار الفلسفة الدقيقة العويصة‮ "‬،‮ والتجريدية والمغلقة‮. هنا تتولد لدينا رغبة ملحة لتعميق النقاش وليس الطريق إلى ذلك سوى طرح هذا‮ السؤال وتركه معلقا‮: أليست الفلسفة والشعر على صلة بالتاريخ ؟
‮❊ الجمهورية‮:‬ لو طلبت منك تشخيصا دقيقا لواقع الشعر ببلادنا،‮ ماذا ستقول؟
-‬‮ ع‮. أزراج‮: أترك الإجابة عن هذا السؤال للنقاد و للزمن‮. لا أريد أن أحكم على واقع الشعر الجزائري‮ نظرا للحساسيات ولغياب النضج في‮ حياتنا الثقافية‮.‬
‮❊ الجمهورية‮: سبق أن صرحت أن الجزائر اليوم في‮ حاجة إلى ألف شاعر لتهذيب الذوق،‮ ماذا تقصد بهذا؟
-‬‮ ع‮. أزراج‮:‬ الشعراء والفنانون والمفكرون والفلاسفة هم مهندسو الحضارة،‮ ونحن في‮ الجزائر في‮ حاجة ماسة إلى هؤلاء لكي‮ يبنوا مجتمع الجمال والأخلاق‮. وأتساءل‮ : أين هم ؟
‮❊ الجمهورية‮:‬ صرح الناقد المصري‮ جابر عصفور في‮ حوار ل‮ »‬الجمهورية‮« أن زمن الشعر ولى،‮ وأننا لم نعد في‮ عصر الشاعر الكبير،‮ هل تؤيد أم تعارض هذا الرأي؟ ولماذا؟
-‬‮ ع‮. أزراج‮: أقدر جهود الصديق جابر عصفور النظرية والتطبيقية وفي‮ الترجمة ولكنني‮ أرى بأنه لا‮ يوجد شاعر كبير أو شاعر صغير،‮ إنما هنالك الشاعر الحقيقي‮ أو اللاشيء‮. إذا كان النهر كبيرا فهو ليس كبيرا بنفسه و إنما بالروافد التي‮ تصب فيه والتي‮ هي‮ المسؤولة عن كبره‮.
أفضل التحدث عن كبر أو صغر الحركة الشعرية في‮ أي‮ بلد وأعتقد أن مقاصدي‮ واضحة‮.‬
‮❊ الجمهورية‮:‬ ألم تراودك فكرة الهجرة إلى الرواية؟
-‬‮ ع‮. أزراج‮: لم‮ يخطر على بالي‮ أن أرحل إلى الرواية‮. إن الشعر وسنده الفكري‮ والفلسفي‮ كافيان بالنسبة لي‮. إن تعددية الانخراط في‮ أجناس إبداعية‮ متعددة‮ من قبل شخص واحد‮ يشبه تماما الانخراط عن سبق إصرار في‮ "‬سيرك‮" التعددية الزوجية في‮ المجتمعات الذكورية‮.‬
‮❊ الجمهورية‮:‬ ترجمت عدة دواوين لكبار الشعراء الأوروبيين،‮ كيف تقيم هذه التجربة؟
-‬‮ ترجمت مجموعة شعرية واحدة تحتوي‮ على قصائد شعراء أوروبيين لامعين وأنوي‮ أن أواصل هذا العمل مستقبلا‮. إنها تجربة التواصل مع الحضارات الأخرى وإقامة الصداقة مع مخيال شعوبها‮.‬
‮❊ الجمهورية‮:‬ هل من جديد أو مشاريع تشتغل عليها حاليا؟
-‬‮ ع‮. أزراج‮: أقرأ الفلسفة والفكر‮ يوميا ومنهجيا،‮. كما أقوم حاليا بتصحيح أكثر من‮ 15‮ كتابا جديدا،‮ من إنجازي‮ على مدى‮ 22‮ عاما في‮ بريطانيا،‮ لأدفع بها إلى المطبعة قبل نهاية هذا العام إذا أسعفني‮ الوقت‮. أسعى إلى ترجمة نخبة من الكتب في‮ الفلسفية وفي‮ نظرية الأدب والثقافة‮. سأطبع قريبا ديوانا شعريا جديدا.أتأمل الحياة وأعيشها وأحاول أن أتهجى حروفها بكثير من التلعثم والدهشة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.