عندما يعترف جنرال إسرائيلي بانهزام إسرائيل في حربها مع حركة حماس في غزة، ويرد عليه ناتنياهو بأن إسرائيل انتصرت باكتساب حلفاء جدد ضمن الأنظمة العربية، فهذا يعني أننا أمام قضية مثيرة وخطيرة إنها» تهويد الأنظمة«. وسياسة التهويد تعني تحويل هوية الشيء الأصلية إلى هوية يهودية، ومثال على ذلك سياسة »تهويد القدس« أي طمس معالمها العربية الإسلامية وتحويلها إلى هوية يهودية، وذلك بالبحث في الحفريات وربما حتى تزوير الحفريات، وإغراق البحوث الأكاديمية بالدراسات والمقالات التي تزعم أن القدس يهودية. والتهويد هو سياسة قائمة منذ نشأة إسرائيل وربما قبلها بكثير، لأن اليهود كانوا منبوذين في العديد من الدول الأوروبية قبل نشأة إسرائيل، وحتى في الولاياتالمتحدة الأمريكية، ثم بدؤوا يعملون على التهويد، أي تهويد الوعي وتهويد المعرفة وتهويد الحكم وتهويد السياسة وتهويد الإعلام، أي يجعلونه متعاطفا مع اليهود ومدافعا عن مصالحهم، حتى أصبح اليوم غير اليهودي يتصرف وكأنه يهودي أو أكثر من اليهودي. تهويد الغرب لقد كتب الباحث السوري المرحوم ممدوح عدوان كتابا قيما عام 2002 بعنوان« تهويد المعرفة« يرصد فيه كيف تمكن الصهيوني من التحول من إنسان منبوذ إلى إنسان مقبول ومتعاطف معه. فعندما نلاحظ اليوم مواقف الدول الأوروبية والولاياتالمتحدة الأمريكية ومواقف وسائل الإعلام والنخبة في هذه البلدان نجدها مؤيدة ومتعاطفة مع إسرائيل أكثر من اللازم، بل إن مواقف بعض الإسرائيليين أقل موافقة على سياسة الحكومة الإسرائيلية من مواقف بعض الدول الأوروبية وواشنطن. ونجحت إسرائيل من خلال سياسة التهويد في خلق صمام أمان وهمي إسمه معاداة السامية، الذي باسمه يحاكم ويحارب كل صحفي أو كل كاتب أو مفكر أو مسرحي أو ممثل أو مطرب، ينكر المحرقة التي فندها المفكر والفيلسوف الفرنسي روجي غارودي بالأدلة والبرهان من خلال كتابه الشهير الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، فتعرض للمحاكمة في فرنسا على .1996 لقد تهود العقل في الغرب فأصبح ممنوع عليه أن يبحث أو يفكر أو ينتقد الفكر اليهودي والسياسة اليهودية والمواقف اليهودية، بدون مراعاة إطلاقا لحرية الفكر وحرية الإبداع وحرية الصحافة، وحقوق الإنسان. إن الغرب حرّ إلا فيما يتعلق بإسرائيل. صورة اليهودي في العقل العربي أما الدول العربية، التي تعتبر إسرائيل عدوها الرئيسي، وتعتبر فلسطين قضيتها المركزية، فقد ظل فيها اليهودي منبوذا وغير مقبول، بفضل الصورة السيئة التي رسمها القرآن الكريم عن اليهودي وإبراز مكره وخبثه وعدم وفائه بالعهود وقتل الأنبياء. كما ظل اليهودي منبوذا لأنه مغتصب الأرض العربية هي فلسطين، ومحتل للجولان وهي أرض عربية ومحتل لجنوب لبنان وهي أرض عربية، وبسبب عدة حروب قامت بين إسرائيل والدول العربية منذ عام 1948 ثم 1967 و1973 ، وبعدها ارتكبت إسرائيل عدة مجازر بشعة في حق العرب والمسلمين مثل مجزرة صبرا وشاتيلا في لبنان عام 1982 ومجزرة الخليل، واعتدائها على المفاعل النووي العراقي، ثم العدوان على لبنان عام 2006 وغزة عام 2009 و2012 ثم العدوان الحالي عام 2014 وكل اعتداء خلف مجازر بشعة ورهيبة في كل حي وكل قرية، لم يسلم من هذه المجازر لا الأطفال ولا النساء ولا الشيوخ ولا المساجد ولا المدارس ولا الكنائس ولا الحيوانات أيضا. التهويد في الوطن العربي يهودي هذه صورته وهذه أعماله ومجازره، من المفروض أن سياسة التهويد، لا تنجح في الوطن العربي، لكن بكل أسف لقد نجحت إسرائيل في تهويد الأنظمة العربية وتهويد الإعلام العربي وتهويد النخبة العربية وتهويد شيوخ الإسلام أيضا. وفيما يلي أبرز محطات تهويد الأنظمة في الوطن العربي: معاهدة كامب ديفيد 1979 إن سياسة تهويد الأنظمة، هي تلك السياسة التي تجعل الدولة العبرية الإسرائيلية الصهيونية مقبولة عند الدول العربية، حيث تنشأ العلاقات الدبلوماسية ويتم تبادل السفراء والتبادل التجاري والاستثمارات وفتح الحدود لليهود وربما حتى بدون تأشيرات. وبداية التهويد بدأت مع خدعة معاهدات السلام بين إسرائيل والدول العربية، التي ليست في حقيقتها سوى معاهدات استسلامس. وقد تمكنت إسرائيل من ذلك عام 1979 بالتوقيع على معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، وقد وقعها عن الجانب المصري الرئيس أنور السادات. ولم يستصغ الوطن العربي بما فيها النظام العربي الرسمي تلك الخطوة المصرية، وظل مقاوما لسياسة التهويد، فاتهم النظام المصري بالخيانة، وطرده من الجامعة العربية، ونقل مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس. وتدريجيا تم تهويد النخبة والإعلام، فتحول أنور السادات من »خائن« إلى بطل مصري، استرجع سيناء بدون إراقة أي قطرة دم رغم أن بنود الإتفاقية تبقى سيناء شبه جزية خالية، بمعنى كأنه لم يتم تحريرها أو استرجاعها أصلا. وربما، التوقيع على معاهدة كامب ديفيد، هو الذي كلف الرئيس المصري أنور السادات حياته، حيث تعرض للإغتيال خلال حفل رسمي. وقد حافظ الرئيس حسني مبارك من بعده على سياسة الوفاء لاتفاقية كامب ديفيد والعلاقات السياسية والتجارية الممتازة مع إسرائيل. بعد أحداث الربيع، تمت الإطاحة الشعبية بالرئيس حسني مبارك عام 2010 ، فانتخب الرئيس محمد مرسي رئيسا لمصر بطريقة ديمقراطية، ولأنه رئيس ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين، التي لا ترتاح إليها إسرائيل، فقد تم الإنقلاب عليه من قبل الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، بعد قضائه أقل من سنة واحدة في الحكم. وقد حظي ذلك الإنقلاب بتأييد العواصم الكبرى ومعظم العواصم العربية. ولم تشهد القضية الفلسطينية وضعا أسوأ في تاريخها من الوضع الذي تشهده في عهد الرئيس المصري الحالي. اتفاقية وادي عربة 1994 وبعد مصر جاء الدور على النظام الأردني، حيث وقعت الأردن معاهدة وادي عربة مع إسرائيل، وتم تبادل السفراء وترقية التبادل التجاري. وكان ذلك يوم 26 أكتوبر 1994 بحضور رئيس الولاياتالمتحدة الأمريكية بيل كلينتون. وبسبب تلك المعاهدة تراجعت مكانة القضية الفلسطينية في الأردن إلى المقاعد الخلفية، في الحكومة الأردنية. اتفاقيات أوسلو 1993 إلى جانب تدجين أو تهويد نظامين جارين لفلسطين، وهما الشرايين والرئة التي يتنفس منها الفلسطينيون، تم تدجين منظمة التحرير الفلسطينية، فبعد تنظيم مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 لدغدغة مشاعر العرب على وقوفهم إلى جانب الحلفاء في حربهم ضد العراق التي شاركت فيها 30 دولة، في حرب تحرير الكويت من النظام العراقي الذي اجتاحها يوم 2 أوت .1990 بعد مؤتمر مدريد، وفيما أسمي ب»دبلوماسية الصدمة« أعلن عن اتفاق سلام بين إسرائيل وحركة فتح وقع بمدينة اوسلو في النرويج، وكان ذلك الإتفاق باسم »اتفاقية أوسلو« وقعت شهر سبتمبر 1993 بعنوان:س غزة أريحا أولاس. ويقضي ذلك الإتفاق بتغيير الميثاق الوطني الفلسطيني الذي كان ينص على ز رمي إسرائيل في البحر ز فأصبحت إسرائيل دولة الأمر الواقع مقبولة من طرف منظمة التحرير الفلسطينية، فأنشأت بموجب ذلك الإتفاق السلطة الفلسطينية التي ترأسها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وبعده الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس، ومقرها رام الله، وهي سلطة تخلت نهائيا على المقاومة الفلسطينية ما جعلها في خلاف دائم مع حركة المقاومة الإسلامية حماس في غزة، فانقسم الصف الفلسطيني ولم يعد موقفه واحد من إسرائيل، وهذا مكسب إسرائيلي كبير، بدليل أنه عشية التصالح بين حركة فتح وحركة حماس وتشكيلهما حكومة وحدة وطنية، حتى رفضتها إسرائيل ثم شنت عدوانا بشعا على غزة بدء من يوم 7 جويلية .2014 وكانت كل من تل أبيب وواشنطن تهدد السلطة الفلسطينية بالقول: عليك الاختيار بين السلم مع حماس أو السلم مع إسرائيل. إنها سياسة تهويد السلطة، وفي خداع كبير تم منح جائزة نوبل للسلام لعام 1993 إلى الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات مناصفة مع رئيس وزراء إسرائيل شمون بيريز. والغريب أيضا، أن حركة حماس، وضعت شرط »فتح الميناء وفتح المطار ضمن أهم شروط وقف الحرب مع إسرائيل لعام ,2014 رغم أن الميناء والمطار واردة في اتفاقيات أوسلو، وأن مطار غزة اشتغل لبعض الوقت قبل أن يتم إغلاقه أي حدث تراجع عن أوسلو، ما يطرح العديد من التساؤلات حول التمسك باتفاق أوسلو. وهذا ما يعني أن التهدئة لا تنفع مع إسرائيل وأنهم دائما يخرقون الإتفاقات والمعاهدات ولا يلتزمون بها. وبعد اتفاقية أوسلو، وتتويجا لسياسة التهويد، وتكريما لمصر التي كانت سباقة في انتهاج هذه السياسة، تم إعادة نقل مقر الجامعة العربية من تونس إلى القاهرة من جديد، لتصبح الجامعة العربية واحدة من أدوات تسهيل التهويد. التطبيع: تهويد العلاقات إن تهويد الأنظمة أو تهويد السلطة، هي أخطر مرحلة تصل إليها العلاقات العربية الإسرائيلية على مر التاريخ، حيث أصبحت هذه الأنظمة راعية لمصلحة إسرائيل على حساب مصلحة الفلسطينيين، بدليل أنه خلال العدوان على غزة 2014 ، وبشكل لم يصدقه عقل تحالفت عدة أنظمة عربية مع إسرائيل ضد المقاومة الفلسطينية. أما الأنظمة التي لم تتهود مئة بالمئة، فقد وجدت لنفسها وسيلة أخرى للتهويد، إنها تهويد العلاقات من خلال انتهاج سياسة التطبيع، وقد أصبح ذلك ممكنا بل سهلا بعد اتفاقيات أوسلو. وهكذا، وإلى جانب العلاقات بين مصر والأردن والسلطة الفلسطينية مع إسرائيل، تم تطبيع العلاقات بين قطر وتل أبيب، حيث تم فتح ممثلية تجارية لتل أبيب في الدوحة وممثلية تجارية للدوحة في تل أبيب، كذلك تم فتح سفارة إسرائيل في العاصمة الموريتانية نواكشوط، وتم فتح مكتب لإسرائيل في المغرب. 2006 بداية تهويد الوعي وتهويد الإعلام في صيف 2006 شنت إسرائيل حربا عدوانية على لبنان، كان طرفها المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله، ولأن حزب الله شيعي، فقد اصطدم الرأي العام العربي بموقف بعض الأنظمة العربية ضد حزب الله، وتخندقت مع إسرائيل بحجة أن حزب الله رافضي، وقد عملت القنوات التلفزيونية الموالية لهذه الأنظمة على »تهويد الوعي« والعمل على إقناع الرأي العام العربي أن إسرائيل على حق وحزب الله المعتدى عليه على ظلال . وبعد انتصار حزب الله انتصار باهرا على إسرائيل عملت هذه الأنظمة وإعلامها على تحويل النصر إلى هزيمة. ولم يشهد العقل العربي في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي هجمة لتهويد وعيه مثلما حدث منذ عام 2006 خلال العدوان الصهيوني على لبنان ثم 2009 خلال العدوان على غزة وخاصة خلال العدوان الصهيوني على غزة في عام .2014 وخلال عملية تهويد الوعي، بدأ التمييز بين الدول العربية المعتدلة والمتطرفة. فكانت الدول الحليفة مع إسرائيل »معتدلة « والمتعاطفة مع المقاومة »متطرفة«، وتوصف الدول المؤيدة للمقاومة بدول »الممانعة « أي التي تمانع التطبيع والتهويد، وهي دول معادية في نظر إسرائيل والولاياتالمتحدة، والدول التي تعارض المقاومة بالدول الصديقة لإسرائيل وللولايات المتحدة. خلال العدوان على غزة عام 2014 ، شاهدنا تهويدا جديدا، في الدول ذات الأنظمة المتهودة حيث أصبحت وسائل الإعلام تدعو صراحة إسرائيل إلى إبادة حركة المقاومة الإسلامية حماس، وتدافع على خيار الحرب بدل خيار السلم، وتعتبر إسرائيل صديقا وحركة المقاومة الإسلامية حماس عدوا، وتتهم الفلسطينيين المحتلة بلادهم بالمتسبب في إشعال الحرب والمتسبب في خرق الهدنة، وغيرها من الأساليب. ولولا قناة الجزيرة، لمالت الكفة كلها لصالح »إعلام التهويد«. وهكذا نستخلص أننا نمر بأخطر مرحلة في تاريخنا العربي، إنها مرحلة تهويد الوعي، فهل إلى العودة إلى الرشاد من سبيل؟