منذ مدة طويلة، والرغبة تراودني في أن أتناول ظاهرة من الظواهر الأكثر انتشارا أو ضررا في مجتمعنا ألا وهي ظاهرة التنصل من المسؤولية عند الكثير من أبناء شعبنا وخاصة لدى المسؤولين الكبار، وازدادت هذه الرغبة إلحاحا عندما قرأت ذات يوم في إحدى الصحف الوطنية تصريحا للأخ أحمد غزالي رئيس الحكومة الاسبق يعفي فيه نفسه من كل مسؤولية عما جرى في البلاد ويعلق ما حدث على شماعة النظام مدعيا أنه لا ينتمي إليه من قريب أو بعيد• قلت ألحت علي الرغبة في الحديث عن الموضوع، إلا أنني ترددت كثيرا، لأنني أكره التشهير بالناس ولو بقول الحق، وإن فعلت فمن باب التنبيه والتذكير لا غير، لكن عودة الأستاذ عبد الحميد الابراهيمي إلى تصريحات لا أساس لها ولا منطق منها ما سبق أن صرح به واستهجنه العقلاء حينه، ومنها ما هو جديد ولا يقبله العقل بأي حال من الأحوال - جعلني أنجر مكرها- إلى الخوض في هذا الموضوع• وقبل ذلك أريد أن أشير إلى أن ظاهرة التهرب من المسؤولية ظاهرة قديمة في بلادنا وتتجلى على وجه الخصوص عند المسؤولين، وهنا تكمن الخطورة، لأن هؤلاء هم أولى بإعطاء المثل للعامة، فالناس على دين ملوكهم كما يقال وكلنا يعرف بأن الصغير يقلد الكبير بالفطرة وأن الضعيف يحذو حذو القوي كما قال ابن خلدون، وعليه، فإن هذه الظاهرة الخطيرة متفشية في مجتمعنا ومترسخة عند أغلب - ولا أقول كل - مسؤولينا منذ أمد بعيد، إلا أنها برزت بشكل كثير وضوحا عقب أحداث أكتوبر 88 وما تبعها من تداعيات واتهامات متبادلة تركزت في آخر المطاف في إلقاء المسؤولية على جبهة التحرير مع أن السواد الأعظم من الناس إن لم نقل كلهم يعلمون بأن جبهة التحرير بريئة مما حدث براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام ••• ويعترف بمسؤوليته - مهما كان حجم هذه المسؤولي- فالكل يتهم الآخر، سلفه أو خلفه أو مساعده، وإن تورع عن اتهام غيره مباشرة علق فشله على "شماعة النظام" ولا أدري ما هو هذا النظام، ولا من هو هذا النظام؟ كل عارف بأبجديات السياسة يعلم بأن "النظام" هو السلطة الحاكمة المتمثلة في الدولة ومؤسساتها ورجالها، قد يكون شكله ملكيا أو رئاسيا أو برلمانيا أو حتى دكتاتوريا، إلا أنه يتجسد بالطبع في الهيئة الحاكمة بكل مكوناتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، هذا هو تعريف النظام بصفة مجملة، إلا أن حكامنا ومسؤولينا جعلوا من مصطلح النظام مفهوما مبهما غامضا، فهو بالنسبة لهم شبح يعلقون عليه أخطاءهم ونقائصهم، وفزاعة يرهبون بها خصومهم ومعارضيهم، فأصبح "النظام" يشبه ذلك الطائر المعروف الاسم والمجهول الجسم الذي يحكى عنه في الأساطير والذي لا يعرف أحد مكانه وشكله، تمنيت لو أسمع ولو لمرة واحدة رئيس حكومة أو وزير سابق أولاحق يمارس نقدا ذاتيا ويعترف بخطإ أو تقصير حدث في نطاق مهامه وحدود مسؤوليته، لكن هيهات، فإذا استثنينا الرئيس "بوتفليقة" في بعض خطبه ومواقفه وهو استثناء يثبت القاعدة كما يقال - فلا أتذكر بأن مسؤولا اعترف علنا في يوم من الأيام، بأخطائه والتزم بإصلاحها، ناهيك عن أن يعتذر للشعب عنها• وفي اعتقادي وبناء على تجربتي الطويلة فإن هذه الظاهرة المعيبة تعود أساسا إلى كون الإنسان الجزائري بطبعه انسان عنيد ومتعنت بحيث يعتقد أنه دائما على صواب حتى لو ثبت خطأه بالحجة والبرهان"معزة ولو طارت" كما يقول المثل الشعبي، تلك سمة أغلب الجزائريين ولهذا ومع احترامنا لكل الإخوة المسؤولين ودون التشكيك في وطنية أو إخلاص أي منهم فلا مناص من ذكر بعض الأمثلة البارزة لتوضيح واثبات ما ندعيه مقتصرين على من تقلدوا مسؤوليات كبرى في البلاد منذ الاستقلال دون الرجوع إلى عهد الثورة التحريرية الذي تلفه نواح غامضة لا قبلي بالحديث عنها، فهذا متروك للمؤرخين ولشهود تلك الفترة الحساسة مع أنني لا أخفي - شأني شأن كثير من المواطنين - قلقي وتخوفي من تلك الشهادات التي قرأناها وسمعناها مؤخرا والتي كثيرا ما حملت في طياتها نزعة ذاتية انتقامية مغرضة لا فائدة ترجى منها في تبصير شبابنا بتاريخه المجيد وماضيه المشرق، إن كتابة تلك المذكرات وسرد الأحداث فيها مليئة بالتناقضات والأخبار المتضاربة والتهم المتبادلة بين رفقاء الدرب، من شأنها أن تنال من معنويات الأجيال الصاعدة وتثير لديها الشوك في صدق ونزاهة هؤلاء الشهود الذين طالما اعتبرهم أبناؤنا رموزا للتضحية ونكران الذات، إن مثل هذا الشعور يزرع - لا حالة - في نفوس الشباب نوعا من الخيبة والإحباط ما كان أغنانا عنها في هذه الأيام العصيبة• أعود إلى صلب الموضوع، أعني مرحلة الاستقلال ومن تعاقبوا على السلطة خلالها لأقول - مع تقديرنا للجهد الذي بذلوه مخلصين في سبيل الوطن- بأن لا أحد منهم اعترف ولو بجزء من المسؤولية عن أوضاع البلاد، بدءا من السيد حمروش الذي عاش في دهاليز الحكم طيلة حياته وكان عراب سياسة الانفتاح والتعددية السياسية الذي نعرف ما آلت اليه ومرورا بالأستاذ عبد الحميد الابراهيمي الذي سير البلاد طيلة فترة الرئيس الشاذلي وكان خلالها المخطط والمنفذ الأساسي لسياسة البلاد الاقتصادية والاجتماعية وصولا إلى السيد أحمد غزالي الذي شارك في السلطة في كل العهود من بن بلة إلى بومدين إلى الشاذلي الذي كان وزير ماليته حيث كان الرجل الذي سهر على تحضير وإجراء انتخابات 1991 الشهيرة، وتعهّد للشعب بنزاهتها ونظافتها، لكن، ويا للأسف، لم يُكتب له أن يشرف إلا على توقيف المسار الإنتخابي وتوديع الرئيس "الشاذلي" واستقبال المرحوم "محمد بوضياف"• ومع هذا كله، يقول السي أحمد "بأنه ليس مسؤولا عن أيّ شيء وأنه ليس من أبناء النظام، الذي اكتشف اليوم فقط - بعد أن غادره مُكرها - بأنه أخطر من "الفيس"، شأنه في ذلك شأن السيد " عبد الحميد الإبراهيمي" الذي اكتشف بعد أن رحل - أو رُحّل على الأصحّ - عن السلطة بفترة وجيزة: "أنهم اختلسوا 26 مليار دولار"، يقول ويا للعجب: "هم اختلسوا، ولا أدري على من يعود اسم الإشارة هذا، إذا لم يعد على المسؤولين آنذاك، أي الحكومة وأجهزتها ودوائرها، تلك الحكومة التي كان "هو" رئيسها أو وزيرها الأوّل وبالتالي مسؤولا عن أدائها وتصرّفاتها• لَعَمْري، كيف يوصَفُ الأستاذ "عبد الحميد" مع احترامنا له كمناضل أصيل بأنه مفجّر فضيحة 26 مليار، وقد وقعت في عهده، ولم يتكلم عنها كما قلنا إلا بعد أن أزيح عن السلطة• كيف يصمت هذا الرجل دهرا وينطق "كفرا" عندما يحاول التنصّل من أيّ مسؤولية كما حدث ملقيا تبعاته على "شمّاعة" أخرى، طالما علّقنا عليها فشلنا وعجزنا ألا وهي "حزب فرنسا" فلو سلّمنا بأنّ هذا الحزب موجود، فكيف يسمح الأستاذ المجاهد، لنفسه بأن يرأس حكومة يتحكّم فيها "حزب فرنسا"، وإذا كانت هناك من قضية اختلاس - وأغلب الظن بل أكيد أنها وقعت وسبقتها قضايا مماثلة ولحقتها أخرى، فهو أحد المسؤولين إن لم نقل المسؤول الأوّل عنها بحكم منصبه كوزير أوّل، وهذا مهما كان الفاعل، حسب مفهومنا لمقتضيات المسؤولية وتبعاتها• هذا من جهة، ومن جهة أخرى، كيف يتنصّل الأستاذ من كل مسؤولية أو جزء منها على الأقل - عن أحداث أكتوبر، حتى لو صحّ - وهو ما لم يثبت بأنّ جهات خفية دبّرت لها أو شجّعتها، فهل كان لهذه الأحداث أن تأخذ ذلك الحجم الخطير، لولا الوضع الإقتصادي والإجتماعي الذي كان سائدا آنذاك والذي ولّد غضبا واستياءً عارما لدى الشباب والجماهير بصفة عامة• فهل يريد "السي عبد الحميد" أن يُعفي نفسه كذلك من أيّ مسؤولية عن تلك الأوضاع الإجتماعية البائسة والتي كانت بلا شك وقودا لاشتعال تلك الأحداث بقطع النظر عن من أشعلها؟ لا أعتقد، لأنه لو ادّعى هذا، لفقد ما بقي له من مصداقية• أنا أتفهّم استياء الأستاذ الإبراهيمي وسخطه على من أرادوا أن يقدّموه هو والمرحوم "مسعدية" ككبش فداء للتغطية على دورهم في تلك الأحداث الأليمة، وذلك بإعفائهما من مهامهما بصفة مفاجئة وغير لائقة قد توحي بأنهما المسؤولان حصرا عن الأزمة• قلت أنا أتفهّم الأستاذ تماما، وقد كنت أحد الذين استهجنوا ذلك التجنّي على الرَّجُلين وقد عبّرتُ عن ذلك في حينه• لكنّي أستهجن كذلك وربما أكثر أن يتصرّف الأخ عبد الحميد بنفس أسلوب مناوئيه متنصّلا من كل مسؤولية مُلقيا بها على الآخرين• أكتفي بهذا ولن أخوض في أمور غامضة أخرى واتّهامات لا تستند إلى دليل ساقها الأستاذ في حديثه، مثل احتمال اغتيال المرحوم "بومدين" مسموما، وهذه ظاهرة أو شمّاعة ثالثة، أقصد شمّاعة "التفسير بالمؤامرة" التي يلجأ إليها الجزائريون والعرب بصفة عامة لتبرير عجزهم عن حلّ معضلاتهم ومشكلاتهم• نحن لا نشكّك في وطنية وإخلاص أيّ كان، لأننا نعلم بأنّ المشكلات التي عانت وتعاني منها بلادنا جاءت نتيجة لأخطاء وانحرافات تراكمت على مرّ العهود، وبالتالي فالجميع يتحمّل نصيبا من المسؤولية عنها، كل في ميدانه وحسب مستواه• ما نقوله أن يلقي باللائمة على غيره منزّها نفسه مزكّيا لها• لو تطوّع أحدهم وأجرى عملية نقد ذاتي قبل أن ينتقد الغير، لاحترمه الناس واستمع له من خلّفوه لعلّهم يستفيدون من تجربته بسلبيّاتها وإيجابيّاتها• فأقلّ ما ننتظره من مسؤولينا أن يكونوا صُرَحاء مع شعبهم وأن يقولوا الحق ولو على أنفسهم• وهذا يجرّني للعودة للكلام عن الأخ "أحمد غزالي"، فمع احترامي له كمناضل قديم وإطار متميّز قدّم خدمات معتبرة للوطن، أرجوه أن يسمح لي بأن أسأله : من هم أبناء "النظام" إذا لم يكونوا رُؤَساء حُكوماته ووُزَرائه وأُطُره العليا، اللهم إلا إذا كان أبناء النظام هم البوّابون والحُجّاب أو "الشوّاش"، كما أجابني ذات يوم أحد الأدقاء عندما سمعني أتساءل عمّن هو المسؤول كما حدث إذا كان كلّ هؤلاء القادة والمسيّرين يُبرّئون أنفسهم مما جرى، يومها لم أَدْرِ هل أضحك أم أبكي وإن كان الموقف يدعو إلى الضحك أكثر مما يدعو إلى البكاء، لأنّ "شرّ البليّة ما يُضحك" كما يقال• أنا لا أُبرّىء أحدا ولا أتّهم أحدا كما قلت، فأنا مواطن بسيط ولا شأن لي بهذا أو ذاك ولا أدّعي بأنّي مؤهّل لإطلاق الأحكام على أي كان، فالأمر متروك للتاريخ وللهيئات المختصّة إن كانت هناك هيئات، لكن الذي يثيرني ويؤلمني ويحملني على الحديث حملا هو أنّ الكل يتّهم النظام أو "السيستام" كما يقولون، ولا أعرف بالضبط ماذا يقصدون بكلمة "النظام"، فإذا كان النظام يعني سياسة البلاد والقائمين عليها، فهذه الشخصيات هي مع غيرها من صاغ هذه السياسة وسهر على تطبيقها، وإذا كان يعني مؤسسات الحكم وأجهزته، فهم من أدارها وسيرها، وحتى لو سلمنا بأن هناك جهة خفية كانت تتحكم في القرار السياسي، فهذه الجهة هي التي عينت هؤلاء المسؤولين لتنفيذ سياستها وقراراتها، فقبلوا بالمهمة مخيرين غير مكرهين، بل راغبين فيها متهافتين عليها• وعلى هذا الأساس، فهم على أقل تقدير، مشاركين في المسؤولية عما حدث وإن بدرجات متفاوتة، وإن قالوا بأن هذه الجهة المتنفذة كانت تتدخل في تسيير وإدارة الأمور - وهو كلام صحيح إلى حد ما -، قلنا لهم لما قبلتم بذلك، ألم يكن من الأجدر بكم - أن ترفضوا تطبيق أوامر وقرارات لم تقتنعوا بها، وأن تستقيلوا - إن اقتضى الحال، و"ذلك أضعف الإيمان" ولهذا نقول بأن هؤلاء الرجال مسؤولون - ولو معنويا - في كل الأحوال، لأنهم لم يكونوا مجبرين على البقاء في مناصب صورية لا قرار لهم فيها• فلا الشعب ولا القانون ولا المنطق يمكنه أن يعفي وزيرا ناهيك عن رئيس حكومة من تبعات ما جرى إبان ممارسته لمهامه، لمجرد أن هذا الأخير يدعي أنه تعرض لضغوط من أجل تنفيذ قرارات وإجراءات يعتبرها خاطئة، "فهذا عذر أقبح من ذنب خاصة عندما يصدر عن مسؤول كبير• فهل كان هؤلاء الإخوة موظفين بسطاء حتى تقبل منهم مثل هذه الأعذار الواهية؟• بالطبع لا، لقد كانوا وزراء ورؤساء حكومات مخولين بصلاحيات قانونية تؤهلهم لاتخاد تدابير وقرارات يتوقف عليها مصير الشعب والوطن، وهذا سواء كانوا مستقلين في قراراتهم أو تابعين لإملاءات غيرهم ممن كانوا مهيمنين حسب زعمهم، على سياسية الدولة وهياكلها• ولقد رأينا في الدول التي تحترم نفسها مسيرين بل وموظفين بسطاء يمتنعوا عن تطبيق أوامر لم يقتنعوا بها ويستقيلون إنتصارا لرأيهم وكرامتهم• ناهيك عن الأطر السامية والوزراء، ولنا على سبيل المثال لا الحصر عبرة في ذلك الوزير الفرنسي - مع الأسف - الذي استقال احتجاجا على انخراط بلده في الحرب على العراق - أقول مع الأسف لأني كنت أتمنى أن يكون عربيا، ومثل هذا الرجل كثير، منهم من ذهب إلى حد الإفتخار إنتصارا لشرفه وكبريائه لمجرد أن بعض الصحف تحاملت عليه واتهمته زورا بما ليس فيه، فأين نحن من هؤلاء؟ في بلادنا - ودون النية في التقليل من شأن أحد - نلاحظ أن الرجل يبقى وزيرا أو مشرفا على قطاع هام لمدة جيل كامل وعندما يرحل - إن رحل - يتبرأ من كل شيء ولا يتحمل مسؤولية أي شيء• وانطلاقا من هذا، فلا أحد مسؤول عن الفشل أو الفساد أوأي آفة أخرى في بلادنا، فالمسؤول الوحيد كما يقولون وكما سبق أن أشرت هو "النظام"، النظام الشبح الذي لا يمكن تحديد شكله ولونه ومكانه، فهو كما أسلفنا مجهول الجسم وبالتالي ليس بالإمكان محاسبته، فما على الشعب في هذه الحال إلا أن يفوض أمره إلى الله قائلا: "حسبي الله ونعم الوكيل"•