في الثامن عشر من هذا الشهر تكون قد انقضت ثلاث سنوات كاملة على رحيل بلبل الصحراء عباس بن عيسى الذي اشتهر لاحقا باسمه الفني خليفي أحمد بعد أن تجاوز تسع عشريات من الزمن قدم فيها منذ بدأ الغناء و هو ما يزال في ريعان الشباب أجود الأغاني الصحراوية الأصيلة و أحسن المدائح والابتهالات الرائعة . كان ظهور هذا الفنان الذي فتح عينيه على بلدته الصحراوية في سيدي خالد بولاية بسكرة عام 1922. و منذ شبابه المبكر ظهر حبه الكبير للفن فكانت أولى إبداعاته رائعة شاعر الملحون الكبير أصيل الأغواط عبد الله بن كريو التخي ) قمر الليل (. التي يقول في مطلعها : قمر الليل خْوَاطْرِي تتونَّس بيه نلقَى فيه أوصافْ يرضاهم حَالي يا طالب عندي خليلة تشبه ليه من مَرْغُوبي فيه سَهْري يَحْلالي نبات نْقسَّم ف الليالي ننظر ليه يفرَّق ما بينا الحذَّار التالي خايف لا بعض السحابات تغطيه إذا غاب ضْياَه يتغيثر حالي وقد جعلت هذه القصيدة الرائعة صيت خليفي أحمد ينتشر بسرعة بفضل صوته الجهوري المجلجل و بفضل الشهرة التي كان الشاعر بن كريو و قصيدته قمر الليل يحوز عليها في تلك الفترة خصوصا في الأغواط. لقد اكتشف الناس حنجرة صحراوية ذهبية رائعة تعبر عن تأوهات و آلام المواطن الصحراوي الجزائري خصوصا عبر نغمة الآي ياي الأصيلة التي هي تعبير صادق عن الزفرات التي يطلقها المحب و خصوصا عندما تصاحب تلك الآي ياي آلة القصبة أو الناي بكل الإبداعات التي جاد فيها العديد من حملة هذه الآلة الشذية التي قد تصاحبها آلة البندير. لقد كانت آلة القصبة بحق سيدة الأغنية الصحراوية و الأغنية البدوية عموما و برزت في هذا الصدد أسماء كبيرة رافقت الراحل خليفي أحمد في مسيرته الفنية الطويلة من بينهم ساعد الأخضر و لحرير و كذا العازف الشهير على آلة القصبة بولعوينات رحمه الله كلما تعلق الأمر بالجوق الكبير إلى جانب عازفين آخرين طويتهم ذاكرة النسيان . و من أشهر القصائد التي غناها الراحل خليفي أحمد بعد انتقاله للعاصمة في أربعيينيات القرن الماضي قصيدة الشاعر الندرومي التلمساني الشهير قدور بن عشور الزرهوني صل و صلصل، والتي جاءت ضمن قصيدته المشهورة قصة غمرسان مع أبي شافية، وهي قصيدة طويلة نشرت ضمن ديوان هذا الشاعر الذي قام بجمع مختلف أشعاره في ديوان ضخم الصديق محمد بن عمر الزرهوني وزير الإعلام الأسبق و المستشار الحالي برئاسة الجمهورية في عمل ضخم في أكثر من 600 صفحة كتب مقدمته الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ضمن طبعة منقحة جديدة صدرت عام 2012 . يقول مطلع القصيدة : صل وصلصل فوق سطحك يا القمري ما في قلبي تنهزم منُّو و تْنُوحْ ما تعرف شي مْحَايني مازلت غُرِّي يا القمري ما يعلم بقرحتي إلا المقروح أنت زاهي دايم في الاسطاح يا القمري متونس بحمامتك قلبك مشروح وقبل ذلك كان المرحوم خليفي أحمد قد غنَّى لشعراء آخرين خصوصا من الجنوب من أمثال الشاعر الكبير السماتي و بن قيطون حيث أبدع في رائعة حيزية . و قد كان العديد من الناس في المقاهي و في البيوت و حتى في الأسواق في تلك الفترة من الزمن خصوصا في الصحراء و الهضاب العليا من الوطن لا يجتمعون إلا و صوت خليفي احمد حاضرا بينهم يحرك مشاعرهم برائعة حيزية التي نقلها خليفي من محيطها الضيق بسيدي خالد إلى محيط أوسع و أرحب من الوطن، ثم جاء بعض الباحثين لينقلها إلى المحيط العربي ،. و لست أدري إن كانت الدراسات و البحوث قد نقلت هذه القصة الملحمة إلى محيط أرحب من ذلك ، لأنها تستحق في راي أن تكون ضمن المحيط الدولي للملاحم و القصص الشهيرة في الحب الجميل . قصة هذه الفتاة الهلالية و ابن عمها سعيد تكمن في المأساة التي حرَّكت قلب الشاعر ،لا إلى جمال الفتاة فقط، و لكن لكون أن الموت الذي عاجل الفتاة قبيل زواجها من حبيبها و ابن عمها سعيد قد أثر في الناس في تلك الفترة فجعل الشاعر بن قيطون يبدع في وصف تلك الفتاة و حالة حبيبها والأثر النفسي الذي تركه رحيلها المبكر والمفاجئ بل و المفجع للحبيب المتيم بحبيبته و زوجة المستقبل المنتظر ،و هي قصة حقيقية أصبغ عليها الشاعر بعض المسحات من مخيلته الشعرية الجميلة عبر صور حاولت الشاشة لاحقا إبرازها للمشاهد في مسلسل تلفزيوني. كما أبدع الراحل خليفي أحمد في قصيدة :قلبي تفكر عربان رحالة لشاعر الشلالة الكبير عيسى بن علال . عَرفْتُ المطرب خليفي أحمد منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي ..كانت مجلة الأثير التي صدرت بمبادرة من المدير العام الأسبق للإذاعة و التلفزيون الراحل عبد الرحمن شريط عام 1971 فرصة للاحتكاك بعشرات المبدعين والفنانين من أمثال رابح درياسة و سلوى و نادية و قاسي تيزي وزو و عبدالرحمن عزيز و الحاج محفوظ و قروابي و علي الزبيدي و فنانين و رسامين كبار . إذ تحولت المجلة إلى ناد يؤمه صفوة مثقفي وفناني ذلك الزمن و من بينهم الراحل خليفي أحمد . ثم كانت الفرصة الثانية للاحتكاك بهذا الفنان الكبير عندما سافرتُ مع الوفد الثقافي الجزائري عام 1977 لكل من الكويت و الإمارات العربية المتحدة لتغطية فعاليات ذلك الأسبوع للإذاعة الجزائرية ، حيث عرفتُ عن قرب هذا الفنان الكبير الذي تجاوب معه الجمهور هناك و أعجب العديد من المسؤولين في هذين البلدين الشقيقين بصوته الجهوري الجميل. خلال الثمانينيات اتصل بي الصديق الراحل عبد الحميد بن موسى المدير الأسبق للمعهد الوطني للموسيقى و أخبرني أنه ينوي السفر لجمهورية ألمانيا الديمقراطية حينها لإعداد شهادة الدكتوراه . و بعد أن تمنيت له التوفيق في مهمته العلمية وجدته يتوقف قليلا ثم راح يبتسم و قال لي : هل تدري موضوع البحث ؟.. ثم أردف قائلا : قد يفاجئك المالصحراوية.ضوع يتعلق بنغمة الآي ياي الصحراوية .. وبعد أن استشارني في أسماء بعض الباحثين في التراث الشعبي من أمثال التلي بن الشيخ و الدكتور الأمين رحمهم الله قلت له بأنه إضافة إلى هؤلاء فلابد أن تبدأ بحثك مع زعيم الآي ياي المطرب الكبير خليفي أحمد .. وسلمته الهاتف و ذهب فعلا و نال شهادة الدكتوراه بامتياز عن الآ ي ياي.. وكان الراحل عبد الحميد بذلك أول دكتور جزائري في الموسيقى . في 1987 نظمت ولاية ورقلة بالتعاون مع وزارة الثقافة مهرجان الأغنية البدوية..و دعي للولاية عدد من أقطاب الأغنية البدوية في مقدمتهم المرحوم خليفي أحمد الذي تفاعل معه الناس هناك .. و خلال أيام المهرجان دعوته مع عدد من مرافقيه و من الأصدقاء رحمه الله لمأدبة عشاء إلى البيت. كان من بين المأكولات كما أذكر الشخشوخة التي أعدتها صاحبة البيت في قصعة كبيرة مزينة بكل الألوان التي تليق بمقامها .. وعندما وضعنا تلك القصعة و لم أكن أعلم أن سي خليفي مريض بالسكري أشعرني الرجل بنوع مرضه فأصبت بإحراج لكون أن ذلك الأكل لا يناسب مرضه .. و رفعا للإحراج قلت له هناك مأكولات أخرى .. عندها قال الراحل خليفي في نبرة تحد للمرض :لا أشترط شيئا سوى زيت الزيتون و سترى ماذا سأفعل بشخشوختك !.. و كانت النتيجة أنه كاد يكمل وحده نصف تلك القصعة !! و عندما ارجعناه للفندق حيث كان يقيم ظللت اتصل به عبر الهاتف للاطمئنان عليه خوفا من أن تكون تلك الشخشوخة قد أثرت عليه .. لكن الرجل قال لي مازحا في آخر اتصال معه في نبرة تحد للمرض : هات ما عندك من شخشوخة !! في عام 1994 أسند لي المدير العام الأسبق للتلفزيون الزبير زمزوم بعد رجوعي من ورقلة مهمة مشروع مجلة مكتوبة للمؤسسة و هو المشروع الذي توج بميلاد مجلة الشاشة الصغيرة مطلع عام 1995. كان المقر يقع بشارع ديدوش مراد، و لم يكن يفصلنا عن مسكن الراحل خليفي أحمد سوى الطريق و بعض الأمتار . كانت لقاءاتنا تتكرر في أكثر من مرة ،تارة في بيته و تارة أخرى في مكتبي حيث كان الفنان ينقلنا إلى أيام مجده و شبابه عندما أبدع في الغناء الصحراوي الأصيل حتى صار خليفي أحمد بحق بلبل الصحراء بغير منازع [email protected] .