عندما يرفع اللاجؤون السوريون شعار "ماما ميركل" تقديرا لموقفها "الإنساني" باستقبالهم في ألمانيا، فإنهم معذورون لأنهم بدون ملجأ ويبحثون عن مأوى لأطفالهم الذي نجوا من أهوال البحر هربا من ويلات الحرب. لكن عندما يهلل الكتاب والمحللون والسياسيون لسياسة أوروبا القائمة على توزيع اللاجئين في بلدان أوروبا واصفين الموقف الأوروبي ب "الإنساني" أكثر من إنسانية العالم العربي والإسلامي فإنهم غير معذورين. إن إنسانية أوروبا مشكوك فيها ومطعون في صدقيتها وفي إنسانيتها أصلا، فبعض البلديات في أوروبا خاصة فرنسا اشترطت صراحة أنها لا تستقبل إلا اللاجئين المسيحيين حفاظا على هوية أوروبا المسيحية، وبالتالي ليس هناك أي إنسانية في الموقف الأوروبي. كما أنه من المؤكد أن اللاجئين السوريين سيتم استغلالهم كأيدي عاملة رخيصة في المصانع والمزارع وقطاع الخدمات في أوروبا. أي أن هناك تفكير استعبادي يشبه سياسة "الهجرة الإنتقائية" التي تبنتها عدة دول أوروبية. والأهم في القضية أن أوروبا وجدت نفسها مضغوطة بتدفق عدد اللاجئين ومجبرة على استقبالهم لتجنب مواجهات داخلية قد يقوم بها ملايين العرب الموجودين في أوروبا في حالة استعمال العنف ضد هؤلاء اللاجئين. إن إنسانية أوروبا هي "إنسانية إعلامية" يتم تسويقها عبر وسائل الإعلام الدولية الكبرى حفاظا على المبادئ الأوروبية ومواثيق حقوق الإنسان التي كانت أوروبا مهدا لها، لذلك يتم التركيز على جثة الطفل السوري الذي لفظه البحر في شواطئ تركيا، في الوقت ذاته يلفظ البر وليس البحر مئات الأطفال في فلسطين وفي العراق وفي اليمن وفي ليبيا بعيدا عن كاميثرات الغرب. إن الدول الأورويبة، والغرب بصفة عامة، ومعها الدولة الصهيونية في أرض فلسطين، هي التي ساهمت بشكل واضح في الفوضى القاتلة التي تعيشها الدول العربية اليوم، فهي وراء إشعال التمرد ضد الحكومات التي ليس هناك اي مجال لتزكيتها، لكن حكومات غير قابلة للتزكية أفضل بكثير من الوضع المتردي الذي زج بلآلاف السوريين وغير السوريين إلى الهجرة. إن الغرب يتحمل المسؤولية الأولى في عدم استقرار ليبيا وهو الذي جاء بجنوده وطائراته وحلفه الأطلسي لإسقاط نظام القذافي، فأدى مهمته بقتل القذافي وتشريد الشعب الليبي وتهديد ليبيا في سيادتها ووحدة شعبها وأراضيها وجعلها مصدرا للخطر الإرهابي لدول الجوار ومعبرا سهلا للهجرة غير الشرعية والتجارة بالبشر والأسلحة، فأين إنسانية أوروبا في ليبيا؟ إن الغرب هو الذي اشعل الفتنة في سوريا بتنظيمه ندوات ومؤتمرات في جينيف وفي غير جينينف لما يسمى "اصدقاء سوريا" وشهد ميلاد المعارضة السورية التي تم استقبال قادتها من قبل رؤساء دول أوروبية عديدة تحريضا على الحرب ضد النظام السوري. إن الدول الغربية هي التي تخلت حتى عن المعارضة السورية بسبب الملف النووي الإيراني وبسبب وقوف إيرانوسوريا في صف الرئيس بشار الأسد، بل أن عدة تقارير إعلامية أكدت أن قوات إيرانية وحزب الله وحتى وحدات من الجيش السوري تقاتل إلى جانب بشار الأسد في سوريا. إن الدول الغربية هي المسؤولة عن تدمير العراق، حيث أطاحت بالرئيس صدام حسين وجاءت بحكام على ظهر الدبابة وبعد أزيد من 10 سنوات سلمت العراق للجماعات الإرهابية وغادرت بلاد الرافدين بعد أن أدخلتها في مرحلة ما قبل الماء والكهرباء والبنزين وفي حرب أهلية طائفية قذرة. إن الغرب هو الذي ساعد في تحطيم أفغانستان انتصارا لأمريكا بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 ومازالت أفغانستان إلى اليوم نموذجا للتخلف ولتصدير الإرهاب وتجارة المخدرات. إن السلاح الذي تستخدمه داعش هو سلاح متطور أكثر من السلاح الذي تمتلكه بعض الجيوش العربية، ومن المؤكد أنه لا توجد دولة عربية واحدة تصنع ذلك النوع من السلاح، وهذا يعني أن مسؤولية الغرب ثابتة في تسليحه بشكل أو بآخر. ثم اين إنسانية أوروبا مع اللاجئين العراقيين داخل العراق وخارج العراق؟ واين إنسانيتها مع الفلسطينيين الذي يقتلون ويشردون من قبل إسرائيل بمباركة من أوروبا أحيانا وبصمت مطبق آخيانا أخرى؟ ثم لماذا كل هذه المغالطات عن إنسانية أوروبا التي استقبلت بضعة آلاف من الاجئين السوريين؟ أليست الدول العربية التي تستقبل ملايين اللاجئين أكثر إنسانية من أوروبا؟ فهل استقبلت فرنسا أو المانيا أو النمسا اللاجئين أكثر من الأردن مثلا؟ إن العدد الذي أعلنت معظم الدول الأوروبية "الآن" (في شهر سيتمبر 2015) على استقباله يقدر بنحو 20 ألاف فقط، استقبت الجزائر أكثر منه منذ سنوات (عدد السوريين اللاجئين في الجزائر يقدر بنحو 25 ألف ويضاف إليه عدد اللاجئين من مالي ودول إلإريقية عديدة ناهيك عن الصحراويين) فكيف تكون أوروبا أكثر إنسانية من الدول العربية؟ إن السوريين وغير السوريين الفارين من لهيب الفتنة التي اشعلها الغرب في بلدانهم يدركون أن أوروبا ليست أكثر إنسانية، لكن النهضة الإقتصادية فيها بمقدورها أن توفر لهم مناصب عمل وهو الأمر الذي لا تتوفر عليه البلدان العربية. إن تاريخ أوروبا يضرب المثل في اللآإنسانية بل في الدموية ولا توجد منطقة واحدة في العالم لم تتأثر بدموية الدول الغربية من الهنود الحمر، إلى مسلمي الأندلس، إلى الحروب الإستعمارية بمختلف اشكالها القديمة والحديثة، إلى التدخلات العسكرية في الدول الضعيفة إلى استعباد الدول عن طريق القروض وخدمات القروض وجدولتها وإعادة جدولتها وغيرها من الشواهد. والآن، بعد خراب مالطا، اي بعد خراب معظم بلدان الوطن العربي، وبعد تغير الوضع الدولي والإقليمي المحيط بالوضع السوري بدأ التوجه نحو الحل السياسي في سوريا بدل الحل العسكري عسا أن يكون ذلك صحوة سياسية تجاه كل مناطق التوتر في المنطقة. ويتمثل هذا التغيير في جملة من المعطيات، أهمها أن دول الخليج التي وقفت منذ البداية ضد نظام بشار الأسد لتحالفاته القوية مع إيران، هي اليوم تخوض حربا صعبة ومكلّفة في اليمن. وتركيا التي وقفت ضد نظام الأسد هي بدورها تخوض اليوم حربا مفتوحة مع أكرادها ومع تنظيم داعش، وإيران توصلت إلى تسوية مع الغرب بخصوص ملفها النووي وبدأت تتجه نحو تطبيع علاقاتها المتعددة معه لتعلب مستقبلا دورا متزايدا في المنطقة، وهي حسب تقارير إعلامية تقاتل بجنود ميدانيين مع نظام بشار الأسد. وروسيا أدركت أن نظام الأسد هو آخر قلاعها في منطقة الشرق الأوسط رغم فتح قنوات اتصال مع السعودية، لذلك تحدثت تقارير إعلامية عن وجود قوات عسكرية روسية تقاتل إلى جانب الأسد. والنتيجة أن الدول الغربيبة بدأت تقبل بحل سياسي في روسيا بمشاركة الأسد والمعارضة.
وفي الخلاصة نقول أن "إنسانية أوروبا" هي أكذوبة إعلامية، فأوروبا تهتم فقط بالفوائد التي تجنيها من الوضع في المنطقة العربية، ففي حالة الحرب لها فوائد وفي حالة السلم لها فوائد وعندما تستقب اللاجئين لها فوائد وعندما ترحل المهاجرين المقيمين بطريقة غير شرعية وحتى الشرعية لها فوائد أيضا. فإنسانيتها مغلفة بمصالحها لا أكثر ولا أقل.