لم يخطئ من قال أن الطبقة السياسية في الجزائر تعيسة وليست صالحة، ولم يخطئ كذلك من شكك في صدقية وسائل الإعلام والمحللين السياسيين في تعاطيهم مع الوضع القائم. عندما نعود لتعامل المحللين وتصريحات السياسيين وتحليلات الصحافة لما حصل للعديد من الشخصيات السياسية والعسكرية البارزة في البلاد يصاب بالحيرة والدهشة والاستغراب. فبعض الصحف أصبحت مليئة بالبكائيات عن رجال يتابعون قضائيا وعن رجال أحيلوا على التقاعد، ويسوّقون في كتاباتهم وتصريحاتهم طرحا مفاده أن الجزائر ستغرق في الوحل بسبب ما حصل، وهم بذلك يغفلون عن قصد أو عن غير قصد قوانين الطبيعة وقوانين المؤسسات وسنة الحياة. فالجنرال توفيق مثلا قضى 25 سنة على رأس جهاز حساس هو جهاز المخابرات، وبغض النظر عن كفاءته وخبرته، وعن الخدمات الكبيرة التي قدمها للجزائر في وقت خطير للغاية قد تكون محل كتب لمن عرفوه وعايشوه وربما حتى للدارسين والباحثين، وربما حتى الجنرال توفيق شخصيا يكتب عن سيرته وعن السنوات التي قضاها على رأس هذا الجهاز، لكن مدة ربع قرن في منصب واحد، تعتبر كفاية بل وزيادة أيضا، وبالتالي فإن قانون المؤسسات يقضي بأن يترك الرجل منصبه لغيره حتى لو لم يبلغ سن التقاعد بعد. كما أن قانون الخدمة العسكرية الذي تم ضبطه في السنوات الأخيرة يحدد سن التقاعد للعسكريين، وحتى لو كان أصحاب المناصب العليا والسامية يستفيدون من صلاحيات رئيس الجمهورية في تمديد فترة إدارتهم للمديريات التي يرأسونه، فإنه بعد سنوات طويلة يصبح من الصعب على الرأي العام في القرن الواحد والعشرين أن يقبل ببقاء رجل في منصب المسؤولية لمدة طويلة، وخاصة بالنسبة لكبار السن، فلم يعد بمقدور الجيل الحالي أن يشاهد مسؤولين أجانب يافعين وفي مقتبل العمر، بينما مسؤولين في بلاده تخطوا عتبة التقاعد، وخاصة بالنسبة للقيادات منم الصف الثاني أو الثالث. ولا ننسى أيضا أن قانون الطبيعة يتحكم فينا أكثر مما تتحكم فينا القوانين والصلاحيات، فكلما تقدم بنا السن وكلما طال بقاؤنا في ذات المنصب أصبحنا غير قادرين على العطاء بالشكل الذي يتطلبه الموقف، والجنرال توفيق يبلغ 76 سنة من العمر وآن له أن يتمتع بما بقي له من العمر. وهذا الكلام ينطبق أيضا على كثيرين ممن تقلدوا المناصب السامية، أضف إلى ذلك أن منطق الأشياء يقول أنه يكفي تغيير مسؤول واحد لتتحرك عجلة التغيير، لكن أحيانا يتطلب الأمر تغيير منظومة كاملة من أجل التغيير المنشود، وأحيانا يكون التغيير وبالا إذا تم تعويض رجل برجل أسوأ منه. ومن هنا، لم يعد مفهوما البكاء الذي يصلنا عبر وسائل الإعلام عن هذه الحركة في تغيير الرجال والمسؤولين. بل إن التحليلات التي رأت في ذهاب الجنرال توفيق عبارة عن نهاية مرحلة قد أصابت في تحليلها، سواء تقصد نهاية عصر الثنائية في هرم الدولة بين مؤسسة المخابرات ومؤسسة الرئاسة، أو نهاية المرحلة التي كان صوت المخابرات أعلى من غيره، أو نهاية مرحلة التحول الديمقراطي الصعبة التي بدأت عام 1989 لتدخل الجزائر عصرا ديمقراطيا حقيقيا. وينبغي التذكير أنه في كل دول العالم، ليس هناك مؤسسة رئاسة واحدة بعيدة عن تأثير وجهة نظر المؤسسة العسكرية، فإذا لم يعد هناك تأثير للمخابرات فهذا لا يعني أن المؤسسة العسكرية ممثلة في قيادة الأركان ليس لها تأثير على الإطلاق في القرارات المصيرية للدولة، كل ما تغير أن جهاز المخابرات أصبح تحت مسؤولية قيادة الأركان وربما هذه هي الرسالة التي يحملها بيان وزارة الدفاع بتنصيب الفريق قايد صالح لمدير المخابرات. لكن يجب أن نكون صرحاء أيضا، فنهاية مرحلة لا تكون بالضرورة برحيل عسكريين كان لهم دور بارز خلال العشرين سنة الأخيرة في الحياة السياسية أمثال الراحل الفريق محمد العماري قائد أركان الجيش الذي ساند صراحة السيد علي بن فليس في رئاسيات 2004، أو المنسحب من الساحة بفعل السن والمرض مثل وزير الدفاع السابق الجنرال خالد نزال. فالمرحلة تنتهي بذهاب السياسيين أيضا خاصة أولائك الذين تقلدوا مناصب خلال العشرين سنة الأخيرة وكانوا أحيانا طرفا في الأزمة التي عرفتها الجزائر. إن المرحلة السابقة أيضا لا تنتهي كذلك إلا بذهاب أطراف الأزمة من الذين حملوا السلاح، لأن بقائهم فاعلين على الركح السياسي أو عودتهم للعب دور على خشبة المسرح يعني بقاء أو عودة عوامل إنتاج مسببات الأزمة. وهكذا، بات من الصعب على المحللين الهادئين والمتتبعين للشأن السياسي الجزائري أن يفهموا سر البكاء على رحيل قادة عسكريين أو سياسيين عن المشهد، لقد بكى كثير من الناس إلى حد العويل، بمن فيهم رؤساء أحزاب مثل السيدة لويزة حنون، على إقالة وزير التجارة عمارة بن يونس، وكأنه هو الفنيقي الذي ابتكر التجارة وأسس منظمة التجارة العالمية وهندس تحول »الغات« في جولة الأوروغواي في عام 1993. كذلك يعتقد السيد علي بن فليس رئيس حزب طلائع الحريات أن التغييرات الحالية خطيرة على مستقبل البلاد، وتساءل عمّن يتخذ القرارات، معتقدا ? في بكائيته- أن النظام غير شرعي ولا يحق له اتخاذ هكذا تغييرات. وما يجمّد العقل، هو أن كثيرا من المحللين والسياسيين، يرفضون الوضع القائم، ويطالبون باستمرار بالتغيير في هرم الدولة، ولما يحدث التغيير، هم أول من يبادر بالتشكيك فيه وانتقاده. وهكذا بات واضحا أن كثيرا من الذين يطالبون بالتغيير، إنما يريدون أن يحلوا هم في مناصب المسؤولين الحاليين، ولا يطالبون أبدا بالتغيير لصالح الجزائر تحت فلسفة التغيير يحرك التاريخ ويضخ دماء جديدة في المؤسسات إذا كان التغيير صائبا في اختيار الرجال المناسبين. وهكذا يمكن القول أنه بذهاب الجنرال توفيق إلى التقاعد يكون جيل كامل من العسكريين قد غادر المشهد أمثال محمد العماري واسماعين العماري وفوضيل شريف والجنرال جبار وحسان وخالد نزار وبوسطيلة وغيرهم، وإذا صح أن هؤلاء وغيرهم كانوا عبئا على الحياة السياسية وعطلوا التغيير، فإن الآن لم يعد الخطأ مسموحا به للمتحكمين في أوراق اللعبة وخيوطها، وعلى رأسهم الرئيس بوتفليقة الذي وصف الجزائر ب »الدولة المريضة« في أولى خطبه بعد توليه الرئاسة عام 1999. إن الشعب يريد التغيير .. لكن نحو الأفضل .. فكفانا بكاء .. لو سمحتم.