قليلة هي الثورات في عالمنا المعاصر التي بقيت حاضرة في ذاكرة أمّتها وأحرار العالم كما هي ثورة الجزائر التي انطلقت قبل 61 عاماً. فحيثما ترحل في وطننا العربي أو إفريقيا أو في بلدان عديدة تقع في قارات أخرى، بما فيها القارة الأوروبية ذاتها، تجد من يحدثك عن ثورة الجزائر إما كتجربة نهلت من دروسها شعوب عدّة ثارت على الاستعمار، أو كدولة مستقلة مدّت يد المساعدة لحركات التحرر العربية والإفريقية دون أن تقيم وزناً أو اعتباراً للحسابات التي تكبل الثورات بعد انتصارها أو الدول بعد استقلالها. بل أنه حتى بين أحرار فرنسا والغرب نجد من يتحدث عن تحرير الجزائر ومساهمته بتحرير فرنسا نفسها، إذ لا يمكن لشعب يستعمر أو يستعبد شعباً آخر أن يكون شعباً حرّاً، وبالتالي فإن الشعوب المستعمرة أو المستعبدة لا تحرّر نفسها فقط بل تحرر الشعوب التي استعمرتها واستعبدتها. مصر في مصر لا ينسى الوطنيون المصريون وقفة الجزائر إلى جانبهم بعد هزيمة 1967، وكيف ذهب الرئيس الراحل هواري بومدين إلى موسكو ومعه شيك على بياض ثمن أسلحة تحتاجها مصر في معركة أثار العدوان، وكيف أن شهامة الرجل الكبير كانت البشارة الأولى في حرب الاستنزاف التي استمرت من صيف 1967 حتى خريف 1973، حيث عبر الجيش المصري قناة السويس في انتصار شارك في صنعه الجزائريون وغيرهم من أشقائهم العرب... سورياوالعراق في سورياوالعراق القطرين اللذين عاشا يوميات الثورة الجزائرية بكل تفاصيلها، لاسيّما في سنواتها الأربع الأوائل، كانت مساندة الثورة يومها هي العامل الوحيد الذي تلتقي حوله بغدادودمشق يوم كانت حكومة بغداد تقود الحلف الاستعماري الشهير باسمها في أواسط الخمسينيات من القرن الماضي، فيما كانت دمشق ومعها القاهرة وأحرار الأمّة يخوضون أشرس المعارك بوجه ذلك الحلف. ويروي الراحل الكبير سي عبد الحميد مهري في مجالسه، لاسيّما حين كان يسعى مع إخوانه في المؤتمر القومي العربي لرأب الصدع بين العراقوسوريا في العقدين الأخيرين من العقد المنصرم لمواجهة الحصار والعدوان، أنه أستدعي إلى شهادة أمام محكمة الثورة العراقية بعد سقوط الحكم الملكي ليؤكّد أو ينفي ما ورد في تحقيقات عن تسليم أسلحة من المستودعات العراقية إلى الحدود بين البلدين، كان الظن يومها أنها أسلحة أرسلت من العراق إلى معارضين في سوريا لإسقاط الحكم الوطني فيها عام 1956. فوجئت المحكمة بشهادة مهري القائلة بأن تلك الأسلحة كانت مرسلة إلى الجزائر عبر سوريا، وأن عناصر الاستخبارات السورية تسلمتها من الاستخبارات العراقية، وأن عملية التعاون الوحيدة بين استخبارات البلدين كانت متعلقة بإيصال السلاح إلى الجزائر، رغم ما كان بين البلدين من صراع... فثورة الجزائر لم تكن عابرة في المشرق العربي للحدود وللأقطار وللمكونات المتعدّدة فيها فحسب، بل كانت عابرة للصراعات العنيفة والدموية التي كانت وما تزال تستحكم بالعلاقات بين تلك الأقطار وداخل كل منها... فلسطين أما في فلسطين، فلثوار فتح الأوائل ذكريات لا تنتهي في بلد كان من أوائل من سمح بفتح مكاتب لحركة »فتح« يوم كانت الحركة الثورية الفلسطينية مطاردة في معظم الدول العربية، كما فتحت معسكرات تدريبها الأولى على أرضها مما جعل للثورة الجزائرية التأثير البالغ في العقل الثوري الفلسطيني في البدايات الأولى، فالحديث عن الكفاح المسلح كانت مستوحى من التجربة الجزائرية، وشعارات "حرب الشعب" وحرب التحرير الشعبية كانت »مستوردة« أساساً من الثورة الجزائرية، بل كان شعور الفلسطينيين بحتمية انتصارهم مهما طال زمن الاحتلال الصهيوني مستمداً من انتصار الجزائر على استعمار احتل أرضهم حوالي 130 عاماً... واليوم مع الانتفاضة الباسلة يضع الشعب الفلسطيني أمام ناظريه النموذج الجزائري في تحرير الأرض ودحر الاحتلال. شعار »عدم التدخل في الشؤون الداخلية للأقطار العربية« الذي اعتمدته ثورة الجزائر ونجحت في استقطاب دول عربية متصارعة إلى جانبها رغم ما بين حكومات تلك الدول من صراعات، كان معتمداً أيضاً في الثورة الفلسطينية بل أن الكثير من ثوار فلسطين يعتقدون أن ما من مرّة اعتمدت ثورتهم هذه السياسة إلاّ ونجحت، وما من مرّة خرجت عنها إلاّ وأصيبت بالفشل والإحباط. حين اعتمدت القيادة الفلسطينية أسلوب التفاوض مع العدو كان مؤيدو التفاوض يستخدمون النموذج الجزائري »مفاوضات ايفيان«كمثل يمكن الاحتذاء به، فيما كان معارضو هذا الأسلوب يذكرون بأن تلك المفاوضات لم توقف حرب التحرير لحظة واحدة، بل كانت تلك الحرب تشتدّ أحياناً فيما المفاوضات جارية، بل أن لتلك المفاوضات جدول جزائري معروف يبدأ بالإقرار باستقلال الجزائر ثم بالانتخابات والمفاوضات، فيما العكس كان معتمداً في المفاوضات الفلسطينية ? الصهيونية. والفلسطينيون لا ينسون أيضاً أنه بعد احتلال العراق عام 2003، ظنت واشنطن وحلفائها أنه بإمكانها استثمار احتلال بلد عظيم كالعراق، بعد اصطياد بلد عظيم آخر كمصر وإخراجها من الصراع، وفي ظلّ انهماك بلد عظيم ثالث كالجزائر بتداعيات العشرية الدامية، أن الظرف قد حان لفرض التطبيع على النظام الرسمي العربي بأسره، وأن قمة الجزائر »مارس 2005«، بالذات يمكن أن تكون مكاناً لمثل هذا القرار، حتى كان الموقف الجزائري التاريخي يومها »أن الجزائر ليست البلد الذي يخرج منه قرار بالتطبيع مع الكيان الصهيوني...«. حصار غزّة خلال حصار غزّة الجائر المستمر منذ سنوات، كان لأحرار الجزائر بجمعياتهم وهيئاتهم النصيب الأكبر في حملات كسر الحصار على غزّة، سواء البحرية منها أو البرية، وحين أطلقنا كلجنة المبادرة لكسر الحصار على غزّة فكرة أسطول الحرية كان أول المتجاوبين معنا أخوة جزائريون نجحوا في تجهيز السفن الأكثر حمولة في ذلك الأسطول الذي هاجمه الصهاينة بوحشية ودموية أدّت إلى استشهاد 9 متطوعين أتراك، وإصابة رئيس البعثة اللبنانية في الأسطول، عضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي المناضل الدكتور هاني سليمان. الحرب على العراق في العراق لا ينسى العراقيون تلك المظاهرات المليونية التي خرج بها الجزائريون رفضاً للحروب الأمريكية والأطلسية على العراق، بل أن أحد كبار المسؤولين العراقيين قال لنا لدى ذهابنا على متن طائرة لكسر الحصار الجوي على العراق، ألا تلاحظون تزامن الحصار على العراق مع العشرية الدامية في الجزائر، ألا تعتقد أن تكبيل الجزائريين بهذه الحرب الداخلية اللعينة حال دون أن تلعب الجزائر دوراً كبيراً في دعم العراق لمواجهة الحصار، خصوصاً أن الجزائر كانت من أكثر الدول حماسة لحل عربي لأزمة غزو الكويت وأكثرها حذراً من تدخل قوات أجنبية في الخليج... الحرب في سوريا أما في سوريا، فيعرف العديد من أصدقائي وإخواني الجزائريين أنني منذ اللحظة الأولى لاندلاع الأحداث الدموية في سوريا كنت أخشى من تكرار السيناريو الجزائري الدموي في بلاد الشام، فكما كان مطلوباً أن يعاقب الجزائريون على ثورتهم التاريخية على الاستعمار، كان مطلوباً أيضاً أن تعاقب سوريا التي وقفت منذ الاستقلال في أواسط الأربعينيات من القرن الفائت عقبة كأداء في وجه المشروع الصهيوني والاستعماري وفي دعم كل مقاومة له. كنا ندرك بالطبع أن للشعب السوري، كما الجزائري، كما كل شعب عربي، مطالب محقة، وأمراض بنيوية تحتاج إلى معالجة، ومظاهر خلل تحتاج إلى إصلاح، لكننا كنا على ثقة أن هناك أيضاً أجندات مشبوهة تسعى إلى تدمير سوريا، كما الجزائر، مجتمعاً ودولة، جيشاً وشعباً، وبنى تحتية ومؤسسات، تمهيداً لتفتيتها وتقسيمها... هنا كانت وقفة الجزائر أيضاً مستمدة من روح ثورتها التاريخية ومن قيم الوفاء تجاه سوريا التي قدمت الكثير من قدراتها، وهي المحدودة الإمكانات، ومن رجالها ومهنيها وأطبائها ومعلميها ما يساعد الجزائر في ثورتهم قبل الاستقلال وبعده، كما هي مستمدة من إدراك الجزائر العميق لخطورة ما يحاك لسوريا، فوقفت شبه وحيدة مع لبنان في جامعة الدول العربية معترضة على قرارات جائرة بحق بلد مؤسس في جامعة الدول العربية، ورفضت قطع علاقتها بسوريا، وبقي لها سفير في دمشق في أصعب الظروف وأحلكها... لبنان وفي لبنان، فإن كثيراً من بيوت اللبنانيين لها ذكرى مع ثورة الجزائر، فهناك أب يروي مشاركاته في تظاهرات التأييد لتلك الثورة، وتلك أم تتحدث عن تبرعها بأغلى ما تملك لمجاهدي الثورة، فيما ينشد الجدّ نشيد الثورة كما يفعل أي مجاهد من قدامى المجاهدين. ويوم أبلغني الرئيس الراحل أحمد بن بله وخلال لقائنا في اجتماع المؤتمر القومي العربي في الدار البيضاء عام 1997 برغبته في زيارة لبنان، نظمنا له في المنتدى القومي العربي زيارة استمرت أسبوعين كاملين حظي بهما الرئيس المجاهد بحفاوة شملت كل مكونات المجتمع اللبناني، فقال لي وهو يغادر لبنان:» لم أحظ بحياتي يوماً بمثل هذا الاستقبال إلاّ يوم عودتي إلى الجزائر بعد الاعتقال والاستقلال«، مؤكّداً أنه تعبير عن مكانة الجزائر وثورتها بين اللبنانيين. غير أن العلاقة بين اللبنانيينوالجزائر لم تنحصر »بالحنين« فقط إلى أيام الثورة، بل أيضاً بالامتنان للدور الذي قامت به الدولة الشقيقة في السعي لإخراج لبنان من نفق الحرب الدامية التي دخل فيها عام 1975، واستمرت تعبث بحياة أبنائه حتى عام 1990، في التمهيد لاتفاق الطائف 1989 الذي أوقف القتال والذي لا يستطيع حتى المكابر أن ينكر دور القيادة الجزائرية في الوصول إليه. وخلال العدوان الصهيوني على لبنان عام 2006، حطّت في مطار بيروت، رغم الحصار الإسرائيلي عليها، سبع طائرات عسكرية ضخمة محمّلة بالمساعدات الإنسانية الجزائريةللبنان الخارج لتوه من مقاومة العدوان في مبادرة مستمرة لمساعدة لبنان وصلت إلى حدّ الاستعداد لتزويده بالنفط والغاز بأسعار مخفّضة لمساعدة أبنائه على الخروج من شظف العيش المفروض على لبنان. دول المغرب العربي أما في دول المغرب العربي الكبير، فكثيراً ما ترى مغاربة وتونسيين وليبيين وموريتانيين، يفاخرون بمشاركتهم في ثورة الجزائر، وأن بعضهم احتل مواقع قيادية في الميادين، فيما بعضهم سخّر كل إمكاناته الثقافية والإعلامية للدفاع عن ثورة الجزائر... الجزيرة والخليج في الجزيرة العربية والخليج، رغم الظروف التي كانت تباعد بين سياسات بعض الحكومات والهم العربي الأكبر، لكن أبناء الدول التي كانت مُستعمَرة أو مُحتلّة في جنوب الجزيرة أو شرقها كانوا يعتبرون ثورة الجزائر ثورة ملهمة لهم، كما هو حال العديد من ثوار التحرر في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، والكل يذكر زيارة القائد الثوري الأممي العظيم تشي غيفارا إلى الجزائر في أواسط الستينيات قبل تجربته الثورية في إفريقيا... استعادة الحلم الجزائري إن هذا الرصيد الكبير الذي تمتلكه الجزائر في أمّتها وبين أحرار العالم يؤهلها لاتخاذ مبادرات هامة على غير صعيد، لاسيّما على الصعيد الشعبي العربي عبر التفاعل مع حركات التحرر، لاسيّما في فلسطين، وعلى الصعيد الرسمي العربي عبر بناء جسور التواصل والتضامن والمصالحة بين الدول المتصارعة في أكثر من منطقة وداخل كل واحدة منها، وعلى الصعيد الإفريقي عبر تكوين شبكة عربية ? إفريقية للتحرر والتنمية تتحول إلى قطب عالمي ضمن عالم الأقطاب الذي يتشكل أيضاً. ومن نافل القول أن هذا الرصيد الكبير الذي تمتلكه الجزائر لا يمكن استثماره إلاّ إذا استند إلى جبهة داخلية متينة تقوم على المشاركة المتكافئة والحرية المسؤولة والوفاق الداخلي الحقيقي. لا بدّ من استعادة الحلم الجزائري عربياً وعالمياً، الذي أطلقته قبل 61 عاماً واحدة من أعظم ثورات العصر.