ستُصدِّق الأجيال القادمة من الأوروبيين حتمًا، تشاؤم آبائهم من اقتران الثالث عشر من أيِّ شهر بيوم الجمعة، حيث تَقاتَل فيه المسيحيون ذات تاريخ، وتناحروا وسفكوا دماء بعضهم، بعدما طلّت عليهم جمعة سوداء دامية أخرى، في الثالث عشر من هذا الشهر، من قلب باريس، حيث حصد الإجرام في هذا اليوم، أكثر من مائة شخص، وأحال مئاتٍ آخرين على الإعاقة، في أكبر اعتداءٍ وحشيّ تشهده العاصمة الفرنسية، وكأن الملائكة غضبت منها فضربها الجن، وغدت العاصمة الفرنسية في رمشة عيْن، كأيِّ مدينةٍ من المدن العربية التي يضربها الإرهاب بفعل سياسة الغرب، ومع هوْل الصدمة، عادت أصوات كراهية المسلمين والعرب للظهور من جديد، ومعها ارتفعت- عبر وسائل التواصل الاجتماعي- أصوات التّشفِّي في فرنسا، بدل التأمل في هذا الجرح الغائر، وطرْح السؤال بشجاعة: لِمَ كلُّ هذه الأحداث الأليمة التي تذهب ضحيتَها أنفسٌ بشريةٌ بريئة هنا وهناك، والتي لن تزيد إلا في تعميق الهُوَّة بين حضارتيْن إنسانيتيْن، أراد لهما السفهاءُ التصادم ؟ أوَلَمْ يَدْرِ هؤلاء وأولئك، أنهم بذلك يُحقِّقون أهداف الإرهاب العالمي، الذي هو صناعة غربية محضة، في إحداث التصادم بين الدِّين الإسلامي والغرب؟ داعش، ماركة غربية مُسجَّلة، أرْهَب الغربُ بها طويلا العربَ والمسلمين، ليزيد في إضعافهم، وتشويه ديانتهم، وتنفيرهم منها، ها هي تُرهِب الغرْب وتُرعِبُه، وكأن السِّحر انقلب على الساحر، بانتقال حالة الخوف من المَواطن التي زُرِع فيها على امتداد عشرياتٍ مضت، إلى خندق الغرب، وقد لا تكون باريس آخر فصول هذه المأساة الإنسانية، ولكن فرنسا يبدو أن وقْع هذه الفاجعة الأليمة عليها، أفقدها حُسْن التصرّف بإعلانها حالة الطوارئ، وعسكرة الإرهاب، وربما هي بصدد إعلان ترسانة من القوانين، التي قد تنقلها من دولة الحريات وحقوق الإنسان، إلى حظيرة الدول المتخلِّفة، التي طالما انتقدتها بسبب إهدارها لتلك الحقوق والحريات، فقد راحت تعالج نتائج المشكل، وأهملت أسبابه ومكوِّناته. الكل يعلم أن الغرب »الحُرّ« هو صانع الواقع العربي الإسلامي المزري، وكأنه ينتقم من الشعوب التي حاربته و»جاهَدَتْه« من أجل تحرُّرها وافتكاك استقلالها، سواء عن طريق تنصيب موالين له، سِمَتُهم الأساسية قمْع شعوبهم وقهْرُها، والعبث بحاضرها ومستقبلها، أو بعرقلة كلِّ عمليةٍ تهدف إلى استكمال التحرر، من شأنها أن تُودِّي إلى النهضة، والعمل بكل الوسائل على إجهاضها، أو بما زرعته من بؤرٍ للتوتّر الدائم في صدر العالم العربي، والتي يُعتبَر الكيان الصهيوني اللقيط في فلسطين، أكبر غرْسٍ لها وأمرَّه وأسوأه، ولم تستطع في كل مرة، تحاول فيها تصحيح خطئها، إلا إحداث خطأ أشد إيلامًا لهذه الشعوب، وأكثرها إثارة لتشكيل الحقد عليه، وأسرعها بظهور التطرّف وميلاد المتطرِّفين، الذين سيجدون ملاذًا آمنًا، لدى خلايا كثيرة من المجتمع، ودعمًا ماديًّا ومعنويًّا، من كلِّ المقهورين والمسلوبة منهم حقوقهم في إتمام مسار التحرّر، وقد كان غزو العراق وتدميره واحتلاله، البوّابة الكبرى التي أدخل الغرْبُ منها الخوف، إلى منطقة الشرق الأوسط كله، قبل أن يُتبِعها بتحطيم دولٍ عربية أخرى، إلى أن ارتدّ الخوف إليه . ما دامت الدّولُ والمجتمعات، سواء كانت عربية أم غربية، تعمل على تهميش جزْءٍ من مكوِّنها الاجتماعي، وتحرمه مما يتمتّع به غيره، سيظل صيدًا سهلا لداعش وأخواتها، وسيظل شبابٌ كثيرون، ممَّن وُعِدوا بحور العين، وأُعطُوا مجانًا ما يرهبون به غيرَهم، يتأبطون الموت، ويزرعونه أينما شاءوا، وكيفما أرادوا، دون أن يُوقِفَهم أحد، صحيح أن ظاهرة تفخيخ النفس التي حرّم الله قتْلها، وتفجيرها في أكبر عدد من الناس، ليست من الإسلام في شيء، إنما هي ظاهرة غربية بامتياز، استعارها المتطرِّفون منَّا، وألبسوها ثوب الجهاد المُقدَّس، وأغْروْا بها كلَّ مغبونٍ منبوذ، يشعر بالاضطهاد، ويعيش الإقصاء في مجتمعه، وراحوا يُرعِبون بها الجميع، مسلمين وغير مسلمين، فأفسدوا على الناس دينهم الذي ارتضاه الله لهم، وأضاعوا عنهم دنياهم التي أحل لهم طيباتها، وما دَرَوْا أن أضرار تلك »الانتحارات« على المجتمعات المسلمة، هي أكبر بكثير من أضرارها على المجتمعات غير الإسلامية. لن تنفع الإدانات ولا الاستنكارات، في استئصال هذا الوباء الذي يُدمِّر كل من يصيبه، وردْعِ مثْل هذه الجرائم، التي لن يكون ما وقع في باريس- كما أعتقد- آخرَها، ولن يهنأ الغرب بالأمن والأمان، إلا إذا حيَّد هذا الغرب مجانينه، من دعاة الحروب وتدمير الأوطان، وحكَّم هذا الغربُ عقلاءَه، وتركهم يعيدون صياغة خارطة العلاقات السياسية بينه وبين منظومة الدول العربية والإسلامية، على أساس الاحترام المتبادل، والفائدة المشتركة، وأعاد الحق إلى أهله في فلسطين، وفرّق بين المقاومة الشرعية والإرهاب، وكفَّ عن العبث بمصائر دول هذه الجغرافيا، وامتنع عن التدخّل في شئونها، وذلك وحْدَه ما قد يسحب البساط من تحت أقدام داعش ومن سيأتي بعدها من الدواعش، لأن محاربتها لا تكمن فقط في مقاتلتها عسكريًّا واستخباراتيًّا، إنما بإزالة أسباب وجودها، ومن ثَمّ يتمّ عزلها عن حاضنتها الاجتماعية والفكرية والدينية، وما عدا ذلك فليس إلا تأجيجا للإعصار الذي هبّ على الغرب من باريس.