أتى على الأمة الإسلامية حين من الدهر، تراجع فيها توهج العقل، وانطفأت فيها فعالية الفكر، وانحسر مد العلماء ومدادهم وكثر الأدعياء المتعالمين، الأمر الذي ما زلنا نشهد آثاره إلى اليوم، حيث كثرت الألقاب الخاوية من أي محتوى، كلقب الدكتور والأستاذ الدكتور وما دار في فلكها من ألقاب، يصدق معها قول القائل: ألقاب مملكة في غير موضعها*** كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد. ومن آثار هذه النكبة الكبرى ما نلاحظه في جامعاتنا، لاسيما في حقل الدراسات الإنسانية والاجتماعية والآداب، حيث تغيب المفاهيم وتتميع المعارف، وتتلاشى المعالم الفاصلة بين الرشاد والتيه والبصيرة والعمى. أيعقل أن يدرس طلاب السنة أولى أدب عربي، اختلافات البصريين والكوفيين في مسائل النحو الدقيقة؟ وإذا جاز التعرض لها في الدرس أيعقل أن تكون موضوع امتحان التقويم للمعارف المكتسبة خلال فصل دراسي؟ أيعقل أن يقوم تقويم وحدة دراسية بالسؤال عن آلهة اليونان؟ أو عن خلافات أرسطو مع أستاذه أفلاطون؟ ثم نسأل بعد ذلك، لماذا يتدنى مستوى الطلبة الخرجين في اللغة العربية، وإذا حدث أن ذهب هؤلاء إلى التدريس في المستويات الدنيا ما هو سلاحهم الذي يواجهون به المهمة الموكلة إليهم، هل تنجدهم آلهة اليونان؟ أيستجيب لاستغاثتهم ابن رجب أم ابن جني؟ هل يسمع أنات عذابهم ابن مضاء وابن البنا؟ هل يسعف جراحهم النازفة أشياع المدرسة الكوفية أو المدرسة البصرية؟ الأكيد أنهم يصبحون من الرواقيين، لا من رواد الرواق كالذي كان يسير فيه طلبة ارسطو لفهم العلوم، بل هي أروقة الضياع والضحالة، أروقة شهادات الزور التي أخذوها من الجامعة، ألم يسأل هؤلاء الأساتذة أنفسهم: هل هم متمثلون لهذه الأمور، فإن تكن إجابتهم بنعم فالأكيد أنهم متبحرون فيما دونها من معارف، وواجبهم أن يخاطبوا الناس بما يفهمون، فهذه العقول الغضة يجب أن تأخذ على مهل. وإذا امتلكوا الشجاعة الأدبية، واجابوا بالنفي، وأنهم لا يعرفون عن هذه المدارس واختلافاتها إلا عناوين غائمة في أدمغتهم، أليس من واجبهم أن لا يقتلوا في الشباب ما بقي فيهم من حب العربية وآدابها، وأن يصرفوا اهتمامهم إلى ما ينمي فيهم حبها وحب الانتساب إليها؟ إن من أكبر المشكلات التي تواجه تركيبة العقل في هذا المضمار من الدراسات، هو تكريس الاختلاف: فيه قولان، وهذا المسلك الاختلافي ولد في الأصل يوم كانت الأمة تعج بتخمة معرفية، فكان العلماء يتصيدون أوجه الخلاف، ليجدوا موطئ قدم بين أقرانهم، ولذلك تجد كثيرا من الاختلافات عبارة عن تمحل صوري، يقصد به المغايرة وحسب. ثم جاء زمن الأدعياء، فكان الواحد منهم يسأل فيجيب بالقولين، حتى ذهب بعضهم بأن توحيد الله، فيه قولان، بعد أن سئل في جملة من المسائل كان يجيب عليها بهذه الجملة، فسأله أحد الخبثاء، وما يقول الشيخ في توحيد الله؟ فقال: فيه قولان... إن الأمور الاختلافية وخاصة ما تعلق منها بقضايا تاريخية، يجب أن تترك لطلبة الدراسات العليا والتخصص الدقيق، أما أن يخرج طلبة بشهادة الليسانس في الآداب، وهم عاجزون على كتابة طلب عمل، بعد أن عزت الوظائف، ولم يقرأ كتابا في الأدب ولا رواية ولا يحفظ مقطوعة شعرية، فهذا هو العلم الذي لا ينفع، وهو الجهل الذي لا يضر سيان، فمن الجهل الذي لا يضر أن تقتصد الأمة من مدخراتها القومية أموالا تصرف في غير طائل، لأن الهدف من التعليم هو صناعة الموارد البشرية المؤهلة.