»يعتقد المؤرخون أن الصينيين مارسوا لعبة تضمنت ركل كرة بالأقدام منذ ألفي عام. ويقال إن الرومانيين القدماء كانوا يشجعون نوعًا من كرة القدم كجزء من التدريب العسكري. ومن المحتمل أن تكون هذه اللعبة أُدْخلت إلى الجزر البريطانية إما بوساطة الرومان أو في وقت متأخر بوساطة النورمنديين« ذلك بعض ما جاء في الموسوعة العربية العالمية حول لعبة كرة القدم.. وتضيف تلك الموسوعة القيّمة: »هناك مسرحية تاريخية عن مباراة لكرة القدم أقيمت بالقرب من لندن في يوم ثلاثاء المرافع عند النصارى عام 1175م. وقد أصبحت المباريات التي تقام في ثلاثاء المرافع مشهورة بأنها كرة قدم الغوغاء، حيث كان مئات الشباب يجرون وراء إحدى الكرات مخترقين الشوارع بهمجية وعشوائية. وقد أدى هذا إلى قيام إدوارد الثاني بإصدار قرار بتحريم لعبة كرة القدم عام 1314م. أظهر الملوك فيما بعد استياءهم تجاه هذه اللعبة لأنها كانت تعرقل التدريب على الرماية بالسهام. إلا أن كرة القدم ظلت باقيةً وأصبح لها شعبيتها في جميع أنحاء إنجلترا بحلول أوائل القرن التاسع عشر الميلادي«. تحدثت الموسوعة بعد ذلك عن وضع قواعد لكرة القدم وتطور بضع أنواع منها وبدء ظهور الأندية والمسابقات في بريطانيا، إلى أن وصلت إلى مرحلة »العالمية« بتأسيس الفيفا عام 1904. إنها لعبة شعبية شيّقة ينساق إلى ممارستها ومتابعتها الصغار والكبار على حد سواء، وتتحقق من خلال المباريات علاقات طيبة بين الأحياء والقرى والمدن على مستوى البلد الواحد، كما تربط المباريات أيضا بين الشعوب وتقارب بينها وبين ثقافاتها ولغاتها. بل إن كرة القدم ساهمت في تخفيف التوتر بين شعوب أدمنت العداوة والبغضاء لعقود طويلة، ولعل آخر مثال هو تلك المباراة الودية التي جمعت فريقي كل من أرمينيا وتركيا بحضور رئيسي الدولتين اللتين بدأتا مؤخرا تطبيع العلاقات بعد قرابة القرن من العداء والتشاحن المؤسس على خلافات وادعاءات تاريخية متبادلة.. لقد أذابت الكثير من مباريات كرة القدم الجليد بين دول وشعوب كانت تعيش فترات من الفتور الدبلوماسي وأعادت الدفء إلى علاقاتها فأثمر ذلك مبادلات ثقافية واقتصادية وسياحية. هذه هي كرة القدم تلك القطعة الجلدية المنفوخة، التي تدور وتدور وعندما تتوقف عن الدوران يكون أحد الفريقين قد رفع راية الفوز، بينما يبادر الفريق الخصم إلى تقديم التهاني والاعتراف بالفوز، وحاديه في ذلك تلك الروح الرياضية العالية التي تميّز كرة القدم وجميع أنواع الرياضات والمسابقات. مباريات الذهاب والإياب في التصفيات والبطولات الدولية فرصة لتبادل الثقافات والتعارف والتقارب بين الشعوب، وتشجيع وترويج السياحة وحتى الاقتصاد.. هكذا ما كنت أعتقد أنه الهدف من مباريات كرة القدم أو جزء منها على الأقل، حتى ونحن نعيش مرحلة محاولات نقل كرة القدم من كونها لعبة شعبية بريئة إلى ذلك »المقلب« الذي يجني من ورائه بارونات الإعلام والإعلان الملايين تلو الملايين. كنت أعتقد ذلك وأظن أن بعض تلك الروح الرياضية العريقة بين الرياضيين والمناصرين ما زالت حاضرة رغم ما حدث لهذه الكرة المستديرة ورغم حجم التهور والسخافات التي صدرت عن البعض في المساجلات الدائرة حول تنافس الفريقين المصري والجزائري.. ذلك الاعتقاد والظن الحسن نسفته العناوين الصحفية الرياضية في بعض صحافتنا المكتوبة.. عناوين كثيرة تصور المباراة على أنها معركة حقيقية ربما تستعمل فيها جميع أنواع الأسلحة.. ويمكن القول بكل بساطة أن ما شهدته الساحة الإعلامية الجزائرية في الشهور الأخيرة كان فوق حجم الحدث الكروي، وأكثر بكثير من المناصرة والتعبئة المطلوبة للجماهير، والنتيجة أن الفوز في مباراة كرة قدم صار مسألة حياة أو موت وقضية مقدمة على جميع الأولويات وقادرة على التغطية حتى على أكبر حدث في تاريخ الجزائر الحديثة وهو انطلاق شرارة الثورة التحريرية. ولا يعني ذلك أن الشقيق المصري، يعيش في أعلى درجات الوعي والروح الرياضية، فلديهم ما لدينا، وربما أكثر في بعض جوانبه، خاصة تلك المهارات الإعلامية الفضائية السخيفة، ولو سمحنا لأنفسنا بالإغراق في نظرية المؤامرة لقلنا إن الجهات المستفيدة هنا وهناك على وفاق تام، بل تنسق بينها وتتبادل الخبرات والمعلومات. إنها مباراة مثيرة وحساسة، وعلينا أن نعترف أنها »تاريخية« كما دأبت بعض الأقلام الصحفية على وصفها.. تاريخية من خلال هذا التوتر الحادث بين شعبين شقيقين، وهذه التعبئة التي تجاوزت جميع الحدود المعقولة حتى أسدلت ستارا كثيفا معتما على أكبر القضايا الوطنية والعربية حساسية وارتباطا بالماضي والحاضر والمستقبل. إن المفارقة في هذه المباراة الأخيرة التي تجمع الفريقين الشقيقين الجزائري والمصري، أن عدد اللاعبين فيها أكثر بكثير من أولئك الذين يتواجدون على أرض الميدان ولا يزيد عددهم عن الاثنين وعشرين لاعبا.. إن عددا كبيرا يلعب المباراة فعلا بطريقته الخاصة خارج جدران الملعب.. كلٌ يلعبها بما يناسب مخططاته ومشاريعه وأجندته الحاضرة والمستقبلية. على أرضية الملعب، ورغم كل الألم من هذه البهرجة والشحن المشبوه، نتمنى أن يفوز فريقنا الوطني الجزائري، وهي مشاعر طبيعية جدا، فكل مواطن يتمنى لفريق بلاده الفوز ودون ذلك تظل المنافسات بلا طعم ولا لون ولا رائحة، أما خارج الميدان فنسأل الله أن يهزم جميع الانتهازيين والوصوليين والمخربين والنفعيين ويجعل مخططاتهم وبالا عليهم.. وخارج الملعب أيضا نرفع أكفّ الدعاء أن يفوز الفريق الذي يكلله العقل والمنطق والتاريخ والأخوة والروح الرياضية.