دأبت فئة من الجزائريين المتعلمين باللغة العربية، وصاحب هذه الكلمات منهم، على عدم المس بمصر وبسمعتها وبمثقفيها وبفنانيها. الاعتقاد الذي كان سائدا، في هذه الأوساط، ولمدة طويلة من الزمن، أن التعرض لمصر هو تعرض للعروبة، وإن المساس بسمعة هذه الدولة هو مساس بالانتماء العربي للجزائر. بلغ الأمر بالبعض حد نصب العداء ومواجهة من يسمون، هنا في الجزائر، بالفرانكوفيليين، أي متعصبي اللغة الفرنسية والمدافعين عن سيادتها في الجزائر. نظرة الجزائريين، خاصة المتمسكين بالعروبة، لمصر كانت نظرة الأخ الأصغر للشقيقة الكبرى، ورغم كل ما بدر من هذه الأخت الناشز عبر العقود الماضية من تصرفات لا يمكن أبدا أن تصدر عن أخت شقيقة إلا أن القوم عندنا كانوا يغضون البصر ويعتبرون شتمها وسبها للجزائر وللجزائريين من باب حق الأخت على الأخ أو من باب دلال و »دلع« من تسمي نفسها »أم الدنيا«. لما قطعت العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر ومصر على إثر اتفاقيات كامب ديفيد، ورغم الحملة الدعائية المشينة التي خاضتها مصر ضد الجزائر، ورغم المظاهرات الشعبية العارمة التي أمر بها نظام أنور السادات وقتها في مختلف المدن المصرية للتنديد بموقف الجزائر وغيرها من الدول العربية التي رأت في انبطاح مصر أمام الإسرائيليين وقبولها بالسيادة الناقصة على سيناء أكبر إهانة توجه للأمة العربية، يومها شعر الكثير من الجزائريين بألم القطيعة، ورغم كل ما قاله »الإعلاميون« المصريون ضد الجزائر فلا أحد، في الجزائر، بادر وشتم مصر أو شعب مصر أو قلل من نضالات هذا البلد العربي. للتاريخ نسجل أن السلطة في الجزائر، وكل الصحفيين الجزائريين يعرفون ذلك، كانت تمنع المساس بسمعة مصر وقيمتها في العالم العربي. وقتها، كانت الصحافة الجزائرية في مجموعها ملكا للدولة وقد كانت التعليمات الحكومية والحزبية جد واضحة: يحرم على الصحفيين الجزائريين توجيه النقد اللاذع لمصر أو المساس برموزها. أثناء حرب الخليج الأولى، شاركت مصر بوحدات من جيشها ضمن القوات التي ذهبت لتدمير العراق، ورغم الضغط الكبير الذي مارسه الشارع على السلطة السياسية الجزائرية إلا أنها لم تنقاد للحملة التي استهدفت مصر تاركة المجال للأحزاب السياسية التي لم تتوقف عن الضغط من أجل ضرب مصالح مصر والبلدان الغربية التي أرسلت جيوشها إلى العراق. أجهزة الأمن الجزائري عانت الأمرين من أجل حماية الممثليات الدبلوماسية المصرية ومصالح هذا البلد بالجزائر، ولم تسجل أية إصابة بين المصريين. في نفس الوقت، كان »الإعلام« المصري يخوض حربا دعائية لم تبق رمزا من رموز الجزائر إلا وذكرته بسوء؛ ومع ذلك كان موقف الغالبية من الجزائريين هو المناداة بعدم الخلط بين السلطة المصرية وشعب مصر وتاريخها ورموزها. هكذا كان موقف المتعلمين والمثقفين الجزائريين من مصر، منذ استعادة الجزائر لسيادتها. لم يحصل أن تعرض أي أحد في الجزائر لمصر بالشتم أو المهانة رغم أن الكثير من المصريين، وهو ما يكررونه باستمرار في »إعلامهم«، يعتقدون بأن الجزائريين لهم حساسية معينة من المصريين وأنهم يحملون الكثير من الحقد والكراهية للشعب المصري وأنهم يغيرون من مصر. مع أن الحساسية إن وجدت فهي من الطرف المصري الذي لم يدرك أبدا بأن الجزائري يختلف في سلوكه وتصرفاته عن المصري. الجزائري معروف، بشهادة كل الباحثين الغربيين الذين درسوا المجتمع الجزائري، بكونه إنسان »دغري« لا يعرف النفاق أو التقية أو الخبث. الجزائري يقول ما يفكر فيه، ويبدي على وجهه ما في قلبه. لم أصادف يوما أي جزائري يغير من المصريين بل كثيرا ما سمعت جزائريين يتأسفون لما آل إليه حال مصر التي أصبحت مجرد غفير بائس في المنطقة، كما قالت إحدى الصحفيات الجزائريات. الجزائري لا يكره مصر، بل يشفق على حالها، ويتألم للفقر المدقع الذي يعيش فيه المصري، ويتساءل أحيانا: أما آن لهذا الشعب الصبور أن يثور؟ كل هذا كان في السابق، لكن منذ واقعة القاهرة –هم يتحدثون عن واقعة الخرطوم- حيث أهينت الجزائر، تخلص المتعلمون والمثقفون الجزائريون من القيد الذي فرضوه على أنفسهم تجاه مصر، فهم لم يكتفوا بالاعتداء على اللاعبين الجزائريين بالحجارة، بل راحوا، عبر قنواتهم الإعلامية، يكررون أكذوبة لم يصدقها غيرهم والتي مفادها أن الحافلة ضربت من الداخل وأن اللاعبين ضربوا أنفسهم. صاحب هذه الكلمات لم يسبق له أن شاهد ولا مقابلة واحدة في كرة القدم ومع ذلك تفاعل مع الحدث لأنه كأستاذ متخصص في مجال الاتصال لم يكن يتصور أن يصل الكذب وعلى المباشر وأمام الملأ إلى هذا المستوى من الانحطاط. لو أنهم اعترفوا فقط بأن الذي حدث كان من صنع مجموعة من »الصُيَّع" المصريين لانتهى الأمر في هذا المستوى، لكنهم واصلوا الكذب الذي تلاه، بعد خسارة المقابلة بالسودان، الكثير والكثير جدا من السب والشتم في حق تاريخ وشهداء وشعب وحتى أمهات الجزائريين. ولأن الأمر لم يقتصر فقط على من يسمونهم عندهم بالإعلاميين المصريين بل شارك في سنفونية السب والشتم حتى ولدي الرئيس ورئيس مجلس الشعب ومجموعة من الوزراء والمثقفين، ولأن محاميهم الذين يفترض فيهم أنهم الأكثر معرفة واطلاعا على القانون وعلى أهمية الرموز بالنسبة للشعوب، ولأن العلم الجزائري هو أثقل وأقدس علم في سماء العرب قاطبة؛ لكل ذلك حطمنا القيد وقررنا أن نتحرر من واجب التحفظ تجاه هذا البلد. إننا نعلنها صراحة مدوية: سنواجهكم إعلاميا، وسنفضحكم في المحافل الدولية، وسنضغط على السلطة في الجزائر كي تحدد علاقاتها معكم إلى الحد الأدنى. سنفعل كل ذلك حتى يعود وعيكم ويزول دلالكم الذي تتدللون به على الأمة العربية، وعندما تدرك مصر أن لا فضل لها على أي عربي وأن لا سيادة لها على أي قرار عربي، يومها ستجدوننا نفتح لكم أبوابنا ونتعامل معكم بقلب مفتوح. ومع كل ذلك فأننا نقول: شكرا مصر .. لقد تحررنا من قيد نحن صنعناه لأنفسنا حتى لا نجرحك.