عودة الهدوء إلى الشارع بعد تراجع حدة الإضطرابات الإجتماعية العنيفة لم يدم طويلا حتى دوت الإنفجارات الإرهابية مجددا بالعاصمة وبومرداس، ويبدو أن هناك إرادة لإبقاء الجزائر رهينة اللاأمن واللاإستقرار، واقعة بين سندان الإرهاب ومطرقة التعفين السياسي والاجتماعي• عاد مسلسل الاعتداءات الإرهابية إلى العاصمة نهاية الأسبوع المنصرم إثر التفجيرين اللذين كانت برج الكيفان بالضاحية الشرقية للعاصمة مسرحا لهما، وبحسب ما أعلن عنه رسميا كانت نتيجة هذه الجريمة جرح عدد من الأشخاص ومقتل منفذ العملية فضلا عن توقيف شخص آخر يشتبه في ضلوعه في الاعتداء أو في التحضير لتفجير آخر بنفس المكان• وأفادت المعلومات أن شخصا في الثلاثين من عمره كان يحمل حزاما ناسفا حاول اقتحام ثكنة للحرس الجمهوري، قوبل بوابل من الرصاص من طرف حراس الثكنة، وأن قنبلة انفجرت قبيل ذلك بوقت قصير بمقهى غير بعيد عن الثكنة استعملها الإرهابيون، على ما يبدو للتمويه على الاعتداء ضد عناصر الحرس الجمهوري• ويبدو واضحا أن لجوء ما يسمى ب "تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي" مجددا إلى هذا الأسلوب يعود إلى تضييق قوات الأمن على الخلايا الانتحارية التي وجدت نفسها عاجزة عن إدخال سيارات مفخخة إلى العاصمة ومدن وسط البلاد، فالعمل اليومي الذي تقوم به فرق متخصصة من مختلف أجهزة الأمن، والاعتماد الكبير على المعلومات الإستخباراتية في تعقب وملاحقة هذه الخلايا سمح بتوقيف العديد من العناصر الذين كانوا يعدون لتنفيذ اعتداءات، فضلا عن حجز عربات كانت محملة بالمتفجرات ومعدة لتنفيذ عمليات ببومرداس والعاصمة• عملية برج الكيفان سوف تضع مصالح الأمن أمام تحد آخر وهو مواجهة خطى القنابل البشرية، وهو تحد يفوق بكثير ذلك الذي تفرضه العمليات الانتحارية من النوع الذي شهدناه من قبل، حتى وإن كانت هذه العملية قد تفسر على أنها فشل للخلايا الانتحارية، يضاف إلى الانتكاسات المتتالية التي مني بها الإرهاب في مختلف جهات الوطن خلال الأشهر الأخيرة• لكن ومن وجهة نظر أخرى تعتبر كدليل أن الهاجس الإرهابي هو حقيقي، ولا يزال يشكل خطرا داهما، مما يبرر ربما التصريحات الأخيرة لوزير خارجية دانمارك بارستيغ هولار الذي قال بأن التهديد الإرهابي ما يزال قائما ضد سفارة بلده بالجزائر• وبالرغم من تصريحات ساسة الغرب وفظاعة العمليات الإرهابية، والتحامل الرسمي وشبه الرسمي على الجزائر تحت غطاء حقوق الإنسان، فإن الجزائر تواصل حربها على رؤوس الجريمة ضمن إطار القانون، حسب التصريح الأخير لمستشار رئيس الجمهورية المكلف بقضايا حقوق الإنسان عبد الرزاق بارة الذي أكد أن كل الأنشطة المتعلقة بمكافحة الإرهاب على المستوى الميداني والقضائي تتم تحت مراقبة المنظمات الدولية واللجنة الدولية لحقوق الإنسان، وحتى لا يتهم بارة بالتمويه على المؤسسات الرسمية، اعترف القاضي البلجيكي المختص في مكافحة الإرهاب فوندر أس خلال ملتقى تحت عنوان "مكافحة الإرهاب ودولة القانون" بأن الجزائر قد وفقت بين حالة الطوارئ واحترام مبادئ وقيم حقوق الإنسان• وهكذا يتبين أن الجزائر إنما تقوم بحرب عادلة ضد أخطر آفة يشهدها العالم وهي آفة الإرهاب، وقد اكتسبت تجربة أضحت تمثل نموذجا حتى بالنسبة للدول المتقدمة، ناهيك عن بعض بلدان العالم الثالث التي بدأ وباء الإرهاب يزحف عليها في السنوات الأخيرة• لقد حط وزير دفاع دولة مالي الرحال بالجزائر منتصف الأسبوع المنصرم وكان هذا المسؤول العسكري مرفوقا بوفد هام مشكل من ضباط استخبارات وكانت له محادثات وصفت بالهامة مع السلطات الجزائرية بدءا من الوزير المنتدب لدى وزير الدفاع الوطني عبد المالك فنايزية، وبحسب ما أعلن عنه من مصادر مختلفة تناول الطرفان بالنقاش ثلاث مسائل أساسية هي: التمرد في شمال مالي الذي يقوده إبراهيم آغ باهنقا وتأمين الحدود بين البلدين ضد مخاطر التهريب والإرهاب، وأخيرا التنسيق الأمني لملاحقة خلايا تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي• الجانب المالي يسعى إلى ضمان تكوين متقدم لضباطه في مجال مكافحة الإرهاب في الجزائر، فضلا عن تسيير وحدات أمنية مشتركة على الحدود بين البلدين، ويرغب في المقابل بأن تفصل الجزائر وساطتها بين باماكو والمتمردين التوارق، بعدما أفسدت وساطة جارنا العقيد كل ما أنجز على طريق عودة الاستقرار، ومن هذا المنطلق ترتقب المصادر أن ينزل إبراهيم آغ باهنغا زعيم حركة التغيير في شمال مالي ضيفا على الجزائر بحثا عما لم يجده في طرابلس• وكانت وزيرة خارجية النمسا أورسولا بلانسيك قد قامت بزيارة للجزائر الاثنين المنصرم بعد زيارة قادتها الأحد الماضي إلى باماكو في إطار البحث عن مخرج لقضية السائحين النمساويين أنري كلوبير وولف غانغ إيبنر المحتجزين لدى عناصر إرهابية تابعة لتنظيم عبد المالك درودكال، وأفادت المصادر أن المسؤولة النمساوية التقت بمسؤولين بالخارجية الجزائرية وأجهزة الأمن المتخصصين في مكافحة الإرهاب• واللافت للانتباه أن التصعيد الإرهابي وعودة الملف الأمني إلى الواجهة قد تزامن هذه المرة مع الجدل المتواصل حول خلفية أحداث العنف الاجتماعي الأخيرة، التي يبدو أنها قد وفرت فرصة سانحة لألوية الموت كي تحاول العودة إلى الظهور مجددا على مسرح الأحداث، فرغم تراجع حدة الغضب وحركة الشارع بعد أسبوع أسود عاشته وهران وقبلها بريان والشلف•• إلخ، لا يزال التساؤل قائما عن أسباب "ثورة الشارع"، وخلفياتها، وتراوحت التحاليل بين من يرجح العوامل الاجتماعية والسياسية ومن يغلب أطروحة التآمر والتحريك• فبالنسبة لرئيس الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان فإن المشكل يكمن في جسور الاتصال والحوار المكسورة بين الحكام والمحكومين، ويراه رئيس الحكومة الأسبق أحمد بن بيتور في إصرار السلطة على رفض التغيير، محذرا أن هذه الحركات الشعبية سوف تفرض التغيير بالقوة، وأوضح المحامي محند إيسعد الذي ترأس سابقا لجنة إصلاح العدالة بأن العنف والاحتجاجات أضحت لغة الحوار الوحيدة بين المواطنين والسلطة، ورغم التسليم بصحة بعض هذه المبررات يبقى الخطاب الرسمي متشبثا بأطروحة التآمر، فهذا الوزير المنتدب المكلف بالجماعات المحلية يشدد على أن "انتفاضة" الشلف ليس لها علاقة "بحكاية" البنايات الجاهزة التي يقبعون فيها منذ أكثر من عقدين من الزمن، مع هذا أعلن الوزير أن الحكومة قد اتخذت قرارا يقضي بمنح إعانات لأصحاب "الشاليهات" وما على قاطني شاليهات بومرداس والعاصمة، على ما يبدو إلا الإنتظار ثلاثين سنة للحصول على نفس هذه التعويضات أو الخروج إلى الشارع؟! ولا يزال موضوع الحدود المغلقة بين الجزائر والمغرب يثير ردود الفعل من مختلف الأطراف، ويبدو أن الرباط تراهن أكثر على الدعم الخارجي لفك العقدة التي ربطتها بأيديها منذ 1994، وتحاول تحميل الجزائر مسؤولية الانتكاسة التي يواجهها البناء المغاربي، ولما يفتقد موقف المغرب إلى النوايا الحسنة، فما على الجزائر إلا العمل مع باقي شركائها المغاربيين لتحريك عجلة الاتحاد المغاربي، كما أكد عبد القادر مساهل الوزير المكلف بالملف المغاربي والإفريقي، مع العلم أن الجزائر تبقى حسب ما صرح به رئيس الحكومة عبد العزيز بلخادم متمسكة بالإتحاد المغاربي، وتدعو إلى ضرورة إزاحة كل العراقيل التي تعترض هذا الحلم، وأما موضوع الحدود فهو خاضع لإرادة الرباط في معالجة أسباب غلقها، ذلك أن التسيب الذي قد يحصل في حالة فتحها تدفع ضريبتها الجزائر، حتى وإن أكد وزير الخارجية مراد مدلسي أن هناك تنسيقا أمنيا بين الجزائر والمغرب لتأمين الحدود• سفير ألمانيا جوهانس وسترهون يقول صراحة أن الإتحاد المتوسطي لا مستقبل له دون الجزائر وكأن برلين تعول على موقف الجزائر المتحفظ من هذا الموضوع لنسف مشروع ساركوزي. والظاهر أن الضغوطات الممارسة على الجزائر من قبل قوى خارجية تدعي اضطهاد المسيحيين قد تحول إلى مسلسل ممل رغم أن وزير الداخلية أكد مجددا بأن القانون هو واحد يسري على الكنائس كما يسري على المساجد، وجعل رئيس المجلس الإسلامي الأعلى يقتحم هو الآخر النقاش ويعلن بأن قانون 2006 يلزم المسيحيين شأنهم شأن المسلمين بممارسة شعائرهم في ظل الشفافية.