تراجع النشاط الإرهابي في الأسابيع الأخيرة بشكل لافت للانتباه، وبالتوازي مع التحسن المسجل برزت مؤشرات قوية وغير مسبوقة على حالة الضعف والتشتت التي أصابت "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، بسبب الضربات المتتالية التي تلقاها على أيدي مصالح الأمن، أو بسبب نزاعات داخلية بين أمراء الحرب، وأخيرا بسبب النزيف الحاد الذي أصاب هذا التنظيم الإرهابي بفعل مواصلة السلطات في تطبيق تدابير ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، وهو ما يطرح سؤالا محوريا وجديا ولأول مرة ربما: هل بدأ العد التنازلي لنهاية ظاهرة الإرهاب في الجزائر؟ يفضل أغلب المتتبعين للملف الأمني، إعلاميين كانوا أو منشغلين بأمور السياسة خاصة في المعارضة حصر قراءاتهم وتحاليلهم للوضع الأمني في راهنه وتجلياته الحالية في الزاوية الأمنية البحتة، ويبالغ البعض بشكل غير بريء في غالب الأحيان في الحديث عن النجاحات الأمنية لتي تحققها قوات الجيش ومختلف الأسلاك الأمنية الأخرى ضد السرايا الإرهابية من دون ربط هذه النجاحات بأبعادها الأخرى، خاصة البعد السياسي، أي المسار السلمي وتدابير ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، وما يقال عادة لا يتعدى وصف الجماعات الإرهابية بالضعف من دون الإشارة إلى تراجع الإرهاب كظاهرة في الجزائر، مع أنه في حال التصعيد وحصول موجة من العمليات الإرهابية والتفجيرات كما حصل منذ نهاية 2006 على غاية أواخر 2007 نجد الكثير من يهول ويطرح الأسئلة حول ما سمي بفشل الخيار السلمي أو على الأقل تعثر المصالحة الوطنية . لقد فقدت الجماعة السلفية للدعوة والقتال، التي تسمي نفسها منذ نهاية 2006 ب "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" ثلاثة أمراء خلال أسبوع واحد فقط،، بينهم أميرين لأهم كتيبتين دمويتين في المنطقة الثانية حسب تقسيم المناطق عسكريا المعتمد من قبل التنظيم الإرهابي، ومؤخرا فقط تمكنت قوات الأمن في مدينة بومرداس من القضاء على أمير كتيبة الفتح في "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" عمار بن تيتراوي المكنى حركيا ب "يحيى أبو خيثمة"، وقبله سلم أمير كتيبة الأنصار، بن تواتي علي الملقب أبو تميم يوم الأربعاء 28 جانفي المنصرم نفسه لقوات الأمن بنواحي عزازقة بولاية تيزي وزو، ويعتبر أبو تميم الذي خلف سعداوي الذي قضت عليه قوات الأمن بتيزي وزو في سنة 2007، من بين القيادات المقربة من الأمير الوطني للتنظيم عبد الملك درودكال المكنى ابومصعب عبد الودود، دخل في خلافات معه حول العمليات الانتحارية وانتهى به المطاف بربط الاتصال مع السلطات الأمنية التي يبدو أنها قد استفادت من معلومات قيمة قدمها الأمير التائب. وتكفي مراجعة خاطفة للأحداث الأمنية خلال الفترة الأخيرة للتأكد من النجاحات المحققة على صعيد مكافحة الإرهاب، فتراجع النشاط الإرهابي الذي كشفت عنه أخر حصيلة أمنية خلال جانفي المنصرم بحيث سجل سقوط 15 شخصا، منهم 13 عنصرا تابعين للتنظيم الإرهابي، كان ثمرة عمل أمني فعال ودقيق وتنسيق استخباراتي عالي الأداء مكن مصالح الأمن بمختلف فروعها من رصد تحركات العناصر الإرهابية خاصة القيادات والقضاء عليها فضلا عن تفكيك العديد خلايا الرصد والإسناد ووضع حد لأهم الخلايا الانتحارية التي كانت تشكل التحدي رقم واحد بالنسبة لأجهزة الاستعلامات بمختلف أسلاك الأمن. وبطبيعة الحال لا يمكن الاكتفاء بهذا المعطى المتعلق بكفاءة قوات الأمن في مجال مكافحة الإرهاب لتفسير تقلص النشاط الإرهابي وتراجع خطر "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، فهناك عوامل أخرى ساهمت من جهتها في هذا التراجع، ومن بين هذه العوامل تراجع القدرة التجنيدية للتنظيم الإرهابي بسبب الوصفات الاجتماعية لظاهرة الإرهاب وبسبب فقدان تنظيم عبد الملك درودكال لمصداقيته وسط المجموعات الشبابية الإسلامية التي كانت متحمسة للجهاد في العراق، والمعروف أن العديد من هؤلاء الشباب وجد نفسه رهينة الجماعات الإرهابية التي كثيرا ما توجههم إلى التفجيرات الانتحارية بدلا من تسهيل سفرهم إلى بلاد الرافدين. و فضلا عن العوامل الخارجية التي تفسر هذا التراجع خاصة بعد تقلص نشاط "القاعدة" الأم في العالم،شكلت الخلافات الفقهية بين القيادات الإرهابية عاملا مهما خلق صراعات حادة داخل التنظيم الإرهابي ووصل إلى محيط الأمير الوطني للتنظيم عبد الملك درودكال، فتحكم غلاة "الجيا" في دواليب القرار داخل "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" واعتماد هذه النواة الدموية على فتوى "التترس" لتبرير استهدافها للأبرياء عبر التفجيرات الانتحارية دفع العديد من العناصر المسلحة وحتى بعض الأمراء إلى التمرد ومن ثمة تسليم بعضهم لأنفسهم إلى قوات الأمن كما كان الشأن مع المدعو "أبو تميم". ويبدو أن الجيل الجديد من علماء السلفية قد ساهم بشكل كبير جدا في تراجع النشاط الإرهابي وفي موجة التوبة الجديدة، بحيث أفتى الكثير من هؤلاء العلماء الذي يعرف عنهم مصداقيتهم وسط ما يسمى ب "السلفية الجهادية" بعدم جواز "الجهاد" في الجزائر واعتبروا أفعال عناصر الجماعة السلفية فسادا واستباحة لدماء المسلمين. والواضح أن أي تحليل موضوعي وجاد لظاهرة تقلص النشاط الإرهابي في الجزائر يجب أن تتناول البعد السياسي، أو بمعنى أخر دور المسار السلمي وخيار المصالحة الوطنية في التفكيك التدريجي لمعضلة الإرهاب في الجزائر، فمكافحة الإرهاب ينبغي أن تبقى بعيدة عن الحسابات السياسية والحزبية، ومن غير المعقول أن يصمت دعاة التهويل الإعلامي والسياسي لظاهرة الإرهاب في هذه المرحلة ولا يعترفون بالنجاحات التي تحقق والتي أفسدت على البعض توقعاته السوداوية. فما تحقق من إنجازات على الصعيد الأمني يعتبر بمثابة حصاد للمسار الأمني الذي اعتمد منذ إقرار قانون الوئام المدني في سنة 2000، وقد تبين بما لا يدع مجالا للشك أن توفر النية الصادقة والإرادة السياسية لمعالجة ظاهرة الإرهاب بصفة جادة كفيل بأن يوصل البلاد إلى بر الأمان وإلى الاستقرار المنشود، وإصرار المسؤول الأول في البلاد على إبقاء باب التوبة مفتوحا أمام العناصر الإرهابية وعدم حصر المصالحة الوطنية ضمن الإطار القانوني الضيق شجع العديد من العناصر المسلحة على العودة إلى المجتمع ، ذلك أن الإرهابي الذي يرى بأن كل جسور العودة مقطوعة وكل منافذ التوبة مسدودة لن يجد أمامه إلا سبيلا واحد وهو مواصلة دروب القتل والتدمير. وما من شك أن الإجراءات التي حملها ميثاق السلم والمصالحة الوطنية سواء في الجانب المتعلق بالتكفل بضحايا المأساة الوطنية وتعويض أولياء المفقودين، فضلا عن المعالجة النفسية لأثار الإرهاب ساهمت كلها في التضييق على الجماعات المسلحة المتطرفة وسوف يتواصل هذا التضييق في المستقبل خاصة إذا ما لجأ بوتفليقة إلى جرعة جديدة لتطعيم المسار السلمي. وهكذا يتجلى أن المصالحة الوطنية التي حاول البعض رميها بالقصور وبالفشل لا تزال تشكل الرهان الأساسي لطي الملف الأمني بشكل نهائي، والمؤكد أن النتائج المحققة في مجال معالجة الإرهاب كظاهرة في الجزائر سوف تحرج بقايا التيار الاستئصالي المتواجد في صفوف المعارضة وحتى داخل مؤسسات الدولة، بل سوف يضايق حتى المنتقدين للمصالحة من دعاة الاكتفاء بالوصفة السياسية لحل الأزمة الأمنية.