الدكتور فاضلي ادريس إن قناعة حزب جبهة التحرير بفضيلة الديمقراطية كوسيلة لتحقيق العدالة تبقى من الثوابت في مرحلة التعددية، ومن هذا المنطلق تكون نضالات الحزب متواصلة على مستوى هياكل الحزب لتكريسها من اجل اختيار مسئولي الهيئات القاعدية مع الأخذ بعين الاعتبار ما يتطلبه المقام من وجوب استجماع الشروط الموضوعية لإنجاح العملية والاختيار النزيه المبني على قدرة وفاعلية والتزام المرشحين لهذه المناصب، وان ذلك ليس بالأمر الهين، أما على المستوى العام وبالنسبة لتولي المسؤوليات المختلفة على مستوى المجالس المنتخبة، ومؤسسات الدولة فان فلسفة الحزب كما هو معروف قائمة على وجوب احترام إرادة الشعب السيدة في الاختيار، وان الاختيار لا يكون ديمقراطيا إلا إذا استجمع أيضا شروطه العامة والخاصة،وفيها ما يعود إلى مسؤولية الدولة واختصاصها،وهذا الظرف أمره في تحسن مستمر وقطع أشواطا بعيدة مقارنة بأول انتخابات محلية وتشريعية مع بداية التسعينات، وكذلك ما حصل أثناء الانتخابات التشريعية والمحلية التي جرت أيضا عام 1997، وحولهما بقيت تصاغ القصص والنّكت ونتيجتها خدش في سلطة الدولة ووظيفتها من خلال تجريبيتين مختلفتين...أما ما يعود فيها إلى الأحزاب المتنافسة، أو الى المرشحين كيفما كان مركزهم، والى المحيط السياسي بصفة عامة، فبسهولة يمكن حصره في ضعف الأحزاب بصفة أساسية في أحسن الأحوال، إن لم نقل عدم وجود أكثريتها على الإطلاق على المستوى الشعبي، ويقترن ظهورها بمناسبة الاستحقاقات المحلية أو الوطنية، يضاف إليها ما أصبحت تعانيه من فساد وتفسخ قد نخر أسسها وقوض أركانها، ويضاف إلى ذلك ما أصبحت تعانيه من انقسامات بسبب غياب الحياة الفكرية والروح الديمقراطية في قمتها وقواعدها، وكثيرا ما يبقى وجودها مرتبطا بشخصية الفرد والأمثلة كثيرة وماثلة أمامنا بالنسبة لما هو قائم من أحزاب معروفة، ويستثنى من الوضع الرديء مسار حزب جبهة التحرير الوطني على وجه العموم ولو أن بعض السلوكات الشاذة التي تدعو إلى التشرذم وزعزعة استقرار الحزب اغلب إبطالها كما معروف من المناضلين الرحل، وجدت من بعض الصحف من يغذيها ويروج لها بدون جدوى. ومحصلة هذا وذاك أن هذه الأحزاب الناشئة فقدت الصلة بالشعب، إلى درجة أنها لم تعد تستحق، لا احترامه ولا دعمه، وفي هذا الخضم المغشوش الذي لا يمكن أن يعتمد عليه في تقديم البديل، ويوفر للدولة السند الشرعي والديمقراطي والإطار السياسي والفكري للحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أمام هذا الوضع الكاريثي »ترتفع نواعق وأبواق من أفراد لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد، أعمت أصحابها المصالح الخاصة والأنانية، والروح العدوانية والجهل بواقع وتطور الأوضاع، وبنفخ من بعض الصحف التي بنت مجدها على التفنّن في التهويل والافتزاز وخلق الفتن، وخلط الأوراق والأوضاع لحاجة في نفس يعقوب. إن ما أنجزه حزب جبهة التحرير الوطني منذ عام 1962، من حق مناضليه المتواجدين على الدوام في هياكله، أما نشاز الأصوات.. من اجل الضغط للحصول على منصب أو تحقيق مأرب، أوالى المطالبة بوضع حزب جبهة التحرير في المتحف فهذه البلادة كل البلادة، ومنتهى القبح... ومن السلبيات المسجلة ما أصبحت تتقاسمه معظم الصحف في إطار المنافسة حتى على ما هو غير منطقي وغير مفيد للديمقراطية الناشئة في بلادنا، ذاك أن بعض الصحف الهوجاء وللرفع من مبيعات أ وراقها راحت تطعن في الحياة السياسية في بلادنا ولم تسلم منها كل الأحزاب ومسؤولياتها وحريتها في المشاركة وفي التنافس الانتخابي من خلال وضع شروطها واختيار مرشحيها، فراحت ترسم لهم صورا بذيئة وترميهم بأوصاف منفّرة ومثبّطة لعزيمة الشعب في الإدلاء بصوته والمشاركة في عملية الاختيار بصفة عامة وهذا احد الأسباب التي أدت الى عزوف المواطنين في كثير من الأحيان إلى ما كان يقال ويوصف به المرشحون والعملية الانتخابية في عمومها، ونتيجة هذه الحملة المغرضة ما ترتب عليها هو التقليل من حظوظ إنضاج العملية الديمقراطية في بلادنا، أما المأمول وما يسعى حزب جبهة التحرير الوصول إليه بطريق سلمي وبالتوعية المطلوبة هو تخليص المسار الديمقراطي من كان أنواع الطفيليات والعابثين والمستهترين والمعارضين والمفسدين للقيم الديمقراطية تحت برنوس حرية الصحافة والحق في الإعلام كمشجب تعلق به كل الاختراقات والاعتداءات على استقلالية وسيادة الأحزاب، إن مصلحة الشعب تقتضي أن يلعب الإعلام الدور الإيجابي في التحسيس لكل مشروع وطني والشرح الموضوعي النزيه لمواضيعه وأهميته لما يخدم الصالح العام ووظيفة الدولة التقليدية ومؤسساتها. لقد ذكرت في إحدى الحلقات السابقة أن الديمقراطية أصبحت تعاني من مرض في البلدان القوية صناعيا والعريقة ديمقراطيا، وذلك من خلال نقص الدعم للأحزاب القائمة، وثبط عزيمة الشعب في المشاركة في نشاطاتها، والعزوف في المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية التي نظمتها، وبهذا الشأن سجل تدني مزعج في نسبة المشاركة لدى هذه الدول، فراحت على التو تبحث عن السباب الخلل وعلاجه بما يخدم المحافظة على الأسلوب الديمقراطي ،ويعزز تطور الأحزاب نحو الأفضل لخدمة شعوبها وبما يعيد الثقة الشعبية للأحزاب والعملية الديمقراطية بصفة عامة وهي مبادرة مدعّمة بالدراسات والبحوث وبمشاركة المؤسسات الدولية المتخصصة وبما يقوم به إعلامها الجاد بكل موضوعية وحيوية، وليس بلغة التشفي والطعن في الشرعية الانتخابية ومصداقية المؤسسات المنتخبة.... إن حزب جبهة التحرير يرى في الديمقراطية أهمية فسوى، وذلك بوضع الثقة في الجماهير الشعبية باعتبارها الحارس الأمين لمصالح البلاد، وعلى هذا التصور تقوم فلسفة الحزب وتخطط إستراتيجيته، وان هذه العلاقة يجب أن تحظى بالعناية والدراسة والتطور، فلا هي مرتبطة بمرحلة أو زمن معين،بل هي تلك التي نشأت أثناء ثورة التحرير، واستمرت أثناء ثورة البناء والتشييد وإقامة المؤسسات والمجالس، وهي العلاقة والثقة المتبادلة نفسها بعد الدخول في زمن التعددية الحزبية والسياسية. إن الديمقراطية المأمولة هي التي تبقي على العلاقة مع الجماهير في روحها وجوهر مطالبها وانشغالاتها مما يتحقق معه الاتصال الوثيق، ومن هذه الصلة المتينة مع الشعب يستمد الحزب قوته، وفي المقابل يبقى حزبا قائما على التنظيم التدرجي المحكم والمنهج المدروس في العلاقات، والالتزام الواضح لمناضليه على مختلف الأصعدة في كيفية النظر إلى المواضيع والانشغالات التي تهم الشعب، وفي تصور حلولها، والى من توكل إليه مهمة التكفل بها في إطار شفاف ومسئول، إن هذا التصور للديمقراطية الجديدة إذا ما طبق ووفرت له الوسائل المادية والمعنوية، من شأنه أن يسمح بتجديد الأجهزة الحزبية بصورة لا حدود لها، كما يسمح بالتلاؤم والانسجام مع الوضعيات الجديدة، وبفضل هذه المرونة نضمن وباستمرار أن يبقى مناضلو حزب جبهة التحرير الوطني خداما لمصالح الشعب الجزائري، والحزب صماما للأمن والآمان لجزائر الشهداء، فالنضال والحالة هذه ليس امتيازا اجتماعيا، ولا فائدة اقتصادية كما تروج بعض الأحزاب إلى ذلك بقصد الإساءة، أو كما تشتهي الأنفس، ولا منزلة شرفية أيضا، إنما هو مسؤولية وطنية عظيمة لمن يعطي للمسؤولية حق قدرها، وفي الأخير فالنضال هو وظيفة واقعة باستمرار تحت رقابة الشعب. لقد يتوهم ألقارئي من خلال الطرح النظري لطبيعة الديمقراطية الجاري العمل بها منذ دستور 1989 إلى يومنا هذا أننا أصبحنا قلبا وقالبا وفي نفس المقام والندية من الديمقراطية الغربية إنه وهم وكذب على النفس، صحيح أن شحّ المفردات الدقيقة التي نفتقدها في بعض الأحيان للتعبير عن حقائق وواقع معين تحمّلنا مسؤولية الخلط والوهم بين بعض المفاهيم، لكن عذري قد أجده في تغير مجريات الحياة الدنيا بسرعة حيث لا تستطيع الكلمات متابعتها والتعبير عليها أحيانا، لذلك قد استنجد بما يقترب تشبيها من الصورة التصويرية التي ذكرتها فيما سبق من أننا بالفعل بعد أن تحطم بنا الكرسي المختار الذي كنا نجلس عليه بجدارة واستحقاق وثقة في النفس، أصبحنا في موقع الواقف خلف الجالس على الكرسي الباقي والذي يشغله صاحبه منذ مدة فهو صانعه ومالكه، أما الوافدين الجدد من الذين غيّروا كراسيهم آو من تحطمت احدي ركائزه فاستحال استمرار الجلوس عليه من أمثالنا، فان المواصفات اللازمة لملء الكرسي الديمقراطي لا يمكن استجماعها غدا، وإذا كان وضع الديمقراطيات الناشئة في كثير من الدول السائرة في طريق النمو لم تسلم من العيوب والنقص كما هو الوضع في: اندونيسيا وعلى ما هو مسجل في وثائق المعهد الديمقراطي الوطني للشؤون الدولية بان الأحزاب فيها قد فشلت في تمثيل الذين دعموها انتخابيا تمثيلا مناسبا، ذلك أن التحول إلى الديمقراطية تعتبر مرحلة دقيقة جدا في اندونيسيا لم تتحقق شروطه، وفي الباكستان حيث فقدت الأحزاب السياسية في رحاب الديمقراطية التوكيل الذي يخولها ممارسة نفوذها فخضعت لمزاج آخر الخ...وفي فنزويلا تم تسجيل غياب نظام حزبي مقنع الخ...والقائمة طويلة، فأين مكاننا من هذا وذاك؟ ومتى تستقر تجربتنا؟ ومتى تقوم الأحزاب الناشئة بتصحيح أوضاعها؟ وان تسعى إلى تطبيق الديمقراطية بادئ ذي بدء في ديارها، كترويض للنفس في البداية..؟ ومتى تتصالح مع نفسها ومع محيطها؟ ومن الغرابة ونظرا لاختلاف المحيط والظروف التاريخية، فانه من النتائج العكسية التي ستؤول إليها الديمقراطية العرجاء في بلادنا هو أننا سنمهد إلى خلق طبقة أصحاب الأموال والمصالح المادية باسم الديمقراطية، ثمّ نجعل بين أيديهم أداة الحماية والمحافظة على النفوذ والامتيازات، كما تقررها نظم الديمقراطية الليبرالية، التي تجعل من امتلاك الثروة ومن الإنتاج ووسائل الإنتاج المنطلق والشرط، بل والأساس للوصول إلى سدة الحكم والمبرر المعقول والمقبول للوصول إلى السلطة، أما أن نصل إلى الحكم من اجل التملك أو رهن الحكم لمن يقوم بتبييض مال له، فذلك منطق مقلوب وغيرا خلاقي وتلك الغباوة بعينها..، ولا يتصور إلا في بلدان العالم الثالث التي جنت على نفسها التبعية، والتخلف والفقر والأزمات بانبهارها بالنموذج الغربي في خصوصياته وجزئياته والدفاع عليه كتعبير عن الكسل والخمول والعمالة الخ.. صحيح أن الواقع الاقتصادي والاجتماعي منذ الشروع في العمل بدستور 1989، قد تغير على ما كان عليه قبل هذا التاريخ بمفهوم تملك وسائل الإنتاج وتملك ناتجة وتملك الصحف، وصحيح أيضا أن من الأحزاب من اتخذ تسمية له توحي بتبنيه النظام ألليبراليي والحرية والمساواة، وكثير من الألفاظ يرددونها كأدبيات لهم، منبتها ومنشأها من بيئة أخرى. والحاصل لم يفلح لا هذا ولإذاك في كسب ثقة واطمئنان المواطن، ولا ودّ الهيئة الناخبة كهدف استراتيجي من اجل الفوز بمقاليد تسيير دواليب الدولة بمناسبة الاستحقاقات الانتخابية، وبجانبهم خاب أمل من بقوا متمسكين بتصورات وحلول لا تتناسب البتة مع الواقع الثقافي والاجتماعي لعموم الشعب، وهذا ما حدا يبعضهم إلى القول ذات يوم: أن الديمقراطية التي نتمناها، وصيغة الحكم التي نتصورها ونسعى إلى فرضها، لا تجد طريقها إلى عالم الحقيقة، إلا إذا اختفى حزب جبهة التحرير من الساحة السياسية...هذه المقولة لأنصار ديمقراطية الدبابات والمدافع، والتي لا يختلف فيها أحزاب ذات اليمين وذات اليسار على حد سواء، إن هذه المقولة إذا كانت تحمل دلالة وترمز إلى حقيقة قطعية ومعينة إنما تتمثل في تجذّر هذا الحزب شعبيا وبالتالي فلا خوف على مناضليه، ولا هم يحزنون إن استمروا على العهد سائرين، ومن أدبياته انه إذا وعد وفى، وإذا قال فعل، وانه حزب يقوم على فكر وسطي في الطرح والمعالجة، ويكفي حزب جبهة التحرير فخرا انه ومنذ قرابة عشرين سنة والمواطن والمواطنة لسان حاله: ما أجمل الحياة في عالم شبيه بالذي كان في الماضي قبل 1988...أي في بلد آمن، متضامن، ينعم بانجازات بلاده، ورخاء حياته، معتزا بإسلامه ومسجده، وأخلاقه، وحريته الحقيقية، وبكرامته، وعزته، وسعيدا بما قام به من تعاون على تحقيق هذه الثروة خلال هذه المسيرة... كان كل ذلك تحت عنوان واحد، وهدف واحد، ومستقبل واحد، قبل أن يحدث ما يشبه الصاعقة التي سقطت على الرؤؤس، أما اليوم ومما يؤسف له أن عدم الارتياح أصبح سيّد الموقف، وان الخوف والخشية من المستقبل أصبحت أكثر من الحبّ له..فماذا حدث؟ولماذا؟ والإجابة على مثل هذه التساؤلات مستبعدة الآن من ما نحن بصدد عرضه. ومع ذلك يبقى حزب جبهة التحرير دليل الدولة وخادمها الأمين، وهو الذي كان بالأمس عنوان ثورتها بحروف من نور ونار، انه قد جرّب فما خاب، وامتحن ففاز وما فشل، لأنه كان على الدوام متمسكا بالقضايا الحقيقية للمجتمع، وبالسعي إلى تحقيق العدالة الاجتماعية كهدف، والديمقراطية كوسيلة تنظيمية وعلامة تحضر وتمدن، ضد الجمود والخرافات والأصولية والدروشة،وسيبقى على الدرب سائرا، وقد يكمل العدة، إذا ما وفّق في اختيار الرجال الصادقين، والنساء الصادقات، على مستوى هياكل الحزب والمؤسسات، نضالهم من اجل خدمة الدولة الجزائرية، وحبّهم من اجل خدمة الشعب وإسعاده. فتلك هي البوصلة التي توجه مسيرة حزبنا بلا شك نحو حتمية التغيير من أجل تحقيق طموح شبابنا وانشغالات شعبنا، ومن اجل نظام حياة شبيه بالماضي، وأفضل منه... بهذا الأمل انهي عنوان حلقة: الأفلان بين د ديمقراطية المأمول والمعمول، ومحطاتها الخمسة والتي حاولت من خلالها توضيح ما يجب توضيحه بالنسبة لمفهومها السليم، ومن الاستعمال المغرض والخاطئ لمفهومها والابتزاز بها، بل ومحاولة السطو لمسك شرعية الحكم، بتنسيق وتناغم مع من كانوا ينفخون في بوق الدعاية والترويج لها من خلال صحفهم الموالية. أما الذين تمسكوا بالديمقراطية في أول خطوة كوسيلة شرعية للوصول الى السلطة ثم النكوص والرجوع عليها، بل والعمل على محوها من القاموس السياسي ومن الثقافة الجزائرية فذلك موضوعه سيكون محل الحلقات القادمة... وللحديث بقية