شهد الأسبوع الأسود من يونيو 1967 عدة مواقف للرئيس هواري بو مدين سجلها التاريخ للجزائر بحروف من ذهب، ومنها عندما اتصل سفيرنا في مصر لاخضر الإبراهيمي بالرئاسة في الجزائر ليبلغ الرئيس بأن مصر قررت قطع علاقاتها مع الولاياتالمتحدة احتجاجا على دعمها المطلق للعدوان الإسرائيلي، وأبلِغ الرئيس بالأمر، فأصدر تعليمات بأن يُخطر السفير الأمريكي في الجزائر بقطع العلاقات الجزائرية مع واشنطن في نفس اليوم والدقيقة التي يُبلّغ فيها السفير الأمريكي في القاهرة بالأمر. وكان موقف الشعب الجزائري كله رائعا في التضامن مع الشعب المصري على وجه الخصوص، ولا يمكن أن أنسى موقفه عشية التاسع من جوان، عندما ألقى الرئيس المصري خطابه الشهير الذي أعلن فيه تحمله للمسؤولية المطلقة عن النكسة، طبقا للتعبير الذي صاغه الأستاذ هيكل، وعزمه على التنحي من رئاسة الجمهورية والعودة إلى صفوف الجماهير. كنت خلال ذلك الأسبوع قد أغلقت عيادتي في شارع أول نوفمبر لأتفرغ، بطلب ملحّ من أحد من الرفقاء في الإذاعة، لكتابة تعليقات كنت أحملها إلى شارع الشهداء، خلال الأيام الساخنة التي ارتفعت فيها أصوات قرقعة السلاح، ووصل عدد التعليقات التي كنت أكتبها يوميا إلى أكثر من عشر تعليقات، كان منها ما يلقى به في سلة المهملات لأن الأحداث تجاوزته. وتابعت الخطاب الحزين في العيادة المغلقة، رفقة وزير الأوقاف الأسبق الأستاذ العربي سعدوني الذي زارني ليستمع معي إليه، ثم انزوى بعيدا وهو يسمع تعبير عبد الناصر عن التنحي لكيلا ألحظ دموعه. وبدأنا إثر انتهاء الخطاب نسمع أصوات جماهير قادمة من باب الوادي ومتجهة إلى ساحة الشهداء وهي تصرخ رافضة استقالة عبد الناصر وتطالبه بتحمل مسؤولياته التاريخية هاتفة : عبد الناصر .. تقدّم أو مُتْ )Nasser ..marche ou crève( وكان ذلك الموقف التلقائي النبيل استمرارا للمظاهرات التي اتجهت في بداية الشهر إلى الرئاسة في المرادية لتستنفر خطابا وموقفا من الرئيس بو مدين. وأعطت السودان للرئيس المصري فرصة استرجاع حجم كبير من تألقه الجهوي والدولي بفضل الاستقبال الشعبي الكبير له في الخرطوم، التي احتضنت قمة عربية عرفت بقمة اللاءات الثلاث، وكان الاستقبال السوداني والقمة العربية جرعة من الأوكسجين النقي أعطت لعبد الناصر فرصة استعادة سيطرته على الأمور في مصر نفسها، التي عرفت انطلاقة جديدة حررتها من حكم أجهزة مخابرات جعلت الرئيس المصري في المرحلة السابقة رهينة لها. وانطلقت مرحلة جديدة من التعامل بين مصر وقيادات الدول العربية المؤثرة، بعد أن تم الوئام بين الرئيس المصري والعاهل السعودي الملك فيصل بن عبد العزيز بإغلاق ملف اليمن، واتسمت العلاقات الجزائرية المصرية بمزيج من التقدير المتبادل والتفهم الحذر، وإن كانت السنوات الثلاث التي تلت الأسبوع الأسود شهدت أحيانا وضعية توتر مكتوم كان سببها الحقيقي انعدام المعلومات التي توضح خلفيات المواقف المصرية لدى الطرف الجزائري، وكان للكتابات الصحفية المصرية دور كبير في استثارة قلق القيادة الجزائرية فيما يتعلق بتلك المواقف. يومها كان عبد الناصر يخوض حرب الاستنزاف التي سُمّيت بالحرب العربية الإسرائيلية الرابعة، بعد أن استرجع سيطرته على القوات المسلحة التي سجلت عددا من العمليات الرائعة كان من بينها إغراق المدمرة الإسرائيلية »إيلات«، وعاشت القيادة المصرية مأساة انتحار المشير عبد الحكيم عامر بعد أن عجز عن تقبل ضياع سلطته، التي تجاوزت في السنوات الأخيرة سلطة الرئيس نفسه. وأصيب جمال عبد الناصر بذبحة قلبية وتزايدت عليه آلام التهاب الساق التي استفحلت بفعل مرض السكر البرونزي، الذي قيل أنه من أسوأ أنواع المرض، ولكنه كان يأمل ، كما روى هيكل، في فتح قنوات حوار مع القيادة الأمريكية برغم العلاقات الديبلوماسية المقطوعة. وكانت الجزائر تتابع ما يحدث على الساحة المشرقية بنوع من القلق. وأعترف أن سطوري في تلك المرحلة كانت من أشد ما كتبته انتقادا للسياسة المصرية، ولم يكن أمامي غير ذلك وأنا أقرأ لأحمد حمروش مثلا في »روز اليوسف« قوله بأن السياسة المصرية : »لم تنهض أبدا على أساس تدمير إسرائيل وإزالة حدودها«. وكان الأستاذ هيكل هدفا دائما لكتاباتي آنذاك، حيث سفهت مقولاته من أن وضعية الأرض في مصر لا تسمح بالحرب الشعبية )وكان المقصود هنا اللمز والغمز من المواقف الجزائرية والسورية( وأتذكر أنني كتبت آنذاك، وقبل أن ينتهي العام، أقول بأنه : »كان من الممكن أن يتغير الوضع في سيناء لو أقيمت فيها مستعمرات ذاتية الاكتفاء وبنفس الطريقة التي استعملتها إسرائيل، فهناك مناطق جبلية كانت على مر التاريخ مقرا للمهربين، وفشلت كل المحاولات للقضاء عليهم، فلم لا تكون هذه الجبال مقرا للفدائيين ومركزا للمقاومة الشعبية«. وطرحتُ يومها في مجلة الجيش لشهر فبراير 1968 الفكرة التي تقول بأن " القضية هي فلسطينية أولا وعربية ثانيا، وكل محاولة لعكس هذا الترتيب سيُنظر لها كمحاولة لسلب الشعب الفلسطيني حقه في تقرير مصيره وكإرادة لفرض الوصاية عليه"، وأطلقت يومها (جوان 1968) فكرة "إقامة دولة فلسطينية تجمع المسمين والمسيحيين واليهود، الأصليين بالطبع، داخل إطار الحبة والإخاء، ولعل هذه الفكرة التي صدرت من الجزائر استقطبت في المرحلة الأولى اهتمام قيادات فلسطينية، لعلها تصورت أنها من وحي قيادات عُليا، ولعل تلك السطور هي أصل فكرة إسراطين التي سمعنا عنها في الألفية الجديدة. وكانت مصر قد عرفت آنذاك محاكمات قادة الطيران المصري الذين فشلوا في التصدي للغزو الإسرائيلي، وعرفت المحاكمة مرحلتين، اتسمت أولاهما بالأحكام البسيطة انطلاقا من أن التهمة كانت »سوء التقدير«، مما دفع شباب الجامعات المصرية، وخصوصا جامعة الإسكندرية، إلى القيام بتظاهرات عنيفة للمطالبة بإعادة المحاكمات، وكان هذا دليلا على حيوية الشباب الجامعي والشارع المصري بوجه عام. وكنت كتبتُ في مجلة الجيش بتاريخ أبريل 1968 أقول: »إذا كان الشعب العربي في مصر قد أثبت وعيه وإدراكه في ختام الأسبوع الأسود، بحيث قام بتغيير الخاتمة فلم تعد كما أرادها العدو ) أي إسقاط عبد الناصر( وجعل منها بداية لعهد جديد، فإن الشارع المصري أثبت أنه، وقد ملّ طوال خمسة عشر من حكم ما أسماه الرئيس المصري نفسه..الطبقة العسكرية التي تظن أنها ورثت الثورة، انتهز الفرصة )..( لكي يلعن الذين تسببوا في الهزيمة الرخيصة التي أصابته (..) ولقد تحدث الأستاذ هيكل عن رأيه في عدم جدوى إعادة المحاكمات، وعن خوفه من أن يؤثر هذا على عقلية ونفسية القادة العسكريين المصريين (..) وانتهى إلى أن الشارع لا يجب أن يفرض إرهابا فكريا على مجرى الأحداث" (متناقضا تماما مع تحليله لما حدث، عندما فرض الشارع رأيه لعودة عبد الناصر عن قراره بالتنحي) وواصلت أقول في نفس المقال : »برغم ما يقوله السيد هيكل في كل مناسبة من أنه لا يُعبّر عن وجهة نظر رسمية، فإن وضعه وكتاباته تؤكد أنه من أقرب الصحفيين العرب إلى مصادر الأنباء في بلده، ولست أحاول هنا أن أدفع بالقارئ إلى الاستنتاج بأن ما كتبه لم يكن أكثر من محاولة لتبرئة الجهاز السياسي من دم قادة الطيران، ووضع مسؤولية إعادة المحاكمة، بكل احتمالاتها القاسية، على عاتق الجماهير الشعبية )المهم( أن هيكل لا يكتب عن هوى، والذي يعنينا هو أن نحاول تحليل حديثه وإبراز تناقضاته بدون أن نأخذ افتراضاته قضية مسلما بها، كما كان يفعل البعض قبل التاسع عشر من جوان، وقبل أن نقرأ له عن الركام الذي يملأ شوارع الجزائر«. وأذكّر من جديد بأن كلّ هذه الكتابات كانت بدافع شخصي وبدون أي توجيهات من أي مستوى كان، لكنني كنت أدرك أن مجرد عدم إيقافها، وهي تصدر في مجلة الجيش التي يتابعها الرئيس بو مدين باهتمام كبير، هو ضوء أخضر يؤكد أنني كنت على الطريق الصحيح. وأعود إلى مناقشة مقال هيكل وأقول : »عندما يقول سي هيكل أن ضباطا في الحرب العالمية لم يحاكموا لأنهم، على حد وصفه لما حدث، أساءوا التقدير، أقول له ..نعم .. ذلك صحيح ولسبب بسيط، لأن هؤلاء الضباط وضعوا حدّا لحياتهم بالهاراكيري، لأنهم انتحروا، أي أنهم حاكموا أنفسهم وأصدروا بأنفسهم الحكم على أنفسهم«. )..( والنقطة الحساسة التالية هي ما قاله عن: عدم وجود التنسيق مع بقية الجبهات العربية )..( والسؤال الذي يفرض نفسه : من استشار بقية الجبهات العربية قبل القيام بالتحركات السياسية والعسكرية التي اعتبرها العدوّ إعلانا جديدا لحالة الحرب، أو احتراما لرودس ومعاهداتها..إعلانا عن استئناف الحرب؟ )..( مضحكٌ إذن أن يقول هيكل أنه لو كان هناك تنسيق كافٍ وفعّال بين الجبهات العربية لاستغِلّت فترة الضربة الجوية الأولى ضد مصر في ضرب المطارات الإسرائيلية )وهذا إذا تناسينا ما قيل يومها من أن طائرات الأسطول الأمريكي السادس كانت تغطي سماء إسرائيل( ولن أقول: من كان مشرفا على الجبهات العربية المجاورة لإسرائيل ؟ )ولقد اختار الملك حسين الفريق المصري عبد المنعم رياض لإدارة العمليات المشتركة وعرف فيما بعد أن الضابط المصري المتميز كان في وضعية شاهد الزور( ولن أتساءل : أين كان قادة الجوّ المصريين الذين أخطأوا التقدير (طبقا لتعبير هيكل) في صباح الخامس من جوان؟ )..( وأين ذهب تحذير عبد الناصر قبل ذلك بساعات؟ )حيث نبّه إلى إمكانية هجوم جوي إسرائيلي كاسح صباح يوم الغزو، وهو ما حدث بالضبط( وبالطبع، ونتيجة لهذه الكتابات وغيرها وُضع أخوكم في القائمة السوداء.