يقوم الفريق سعد الدين الشاذلي بزيارة رسمية إلى الجزائر في مطلع 1972، ويكتب عن الزيارة في مذكراته قائلا: قابلت الرئيس بو مدين صباح 7 فبراير، وأخبرته بطبيعة مهمتي وأفكاري بخصوص تعبئة الموارد العربية للمعركة، تطبيقا لشعار »قومية المعركة«. وأنصت الرئيس إلى ما كنت أقوله، وعبّر عن تحمسه للاشتراك بكل جندي وبكل قطعة سلاح تستطيع الجزائر تقديمها، ولكنه أعرب عن شكوكه بأن تكون هناك نوايا جدية لاستئناف القتال (..) وقلت للرئيس : أنا أتفهم شكوكك (..) ولكن عندما تقع الحرب فلن يكون هناك وقت كافٍ لإرسال القوات الجزائرية إلى الجبهة والاستفادة منها في المعركة، وبالإضافة إلى ذلك لا يمكننا إدخال القوات الصديقة في الخطة الهجومية ما لم تكن هذه القوات موجودة فعلا (..) وأبدى الرئيس اقتناعه برأيي، ولكنه لفت نظري إلى المشاكل المعنوية والإدارية والاجتماعية التي تترتب على إرسال قوات جزائرية إلى مصر تبقى سنة أو أكثر في انتظار حرب قد تقوم وقد لا تقوم، وعلق قائلا :»نحن الجزائريين دماؤنا ساخنة جدا، إذا كانت هناك حرب سنقاتل (..) فإذا طالت المدة بدون حرب فقد يثيرون المشاكل لكم ولنا، وهذه المشاكل يمكن تلافيها إذا نحن أرسلنا الدعم العسكري بعد أن يتحدد موعد المعركة (..)« وكحلٍّ وسط اتفقنا على أن ترسل الإمدادات الجزائرية إلى الجبهة بناء على طلبنا، بحيث نضمن أن الحرب سوف تشتعل في أي وقت، وبحد أقصاه 90 يوما من تاريخ طلب هذه القوات. ثم يقول الفريق الشاذلي : »أثناء لقائي مع الرئيس بو مدين تحدث لي بمرارة عن القيادة السياسية المصرية بدون أن يذكر اسم السادات، وكان يقول : أنتم في مصر تهاجمونني باستمرار وتقولون أنني أريد أن أنصب نفسي زعيما على العرب بعد موت عبد الناصر(..) إنني أريد أن تفهموا أنني لا أفكر في ذلك مطلقا، إنني أريد أن أضع يدي في أيديكم بنية صادقة لطرد الإسرائيليين من أراضينا المحتلة«. وعندما قدم الشاذلي عرضه عن المهمة إلى الرئيس السادات قال له الرئيس : "الشروط التي يضعها بو مدين غير مقبولة، كيف نقول له أن الحرب ستقوم بعد ثلاثة أشهر؟". ويكشف هيكل بعد ذلك ما سمعه من الرئيس السادات بأنه : »من بين إخواننا العرب ، فإن الملك فيصل هو الوحيد الذي يتم إخطاره مقدما، بدون تحديد اليوم والساعة، أما معمر القذافي فلا إخطار مسبق، ويسمع من الإذاعات (السلاح والسياسة ص 306) ويُشير هيكل في موقع آخر من نفس الكتاب إلى لقاءات بين الرئيس السادات والسيد كمال أدهم، مدير المخابرات السعودية، موضحا علاقات السيد أدهم بالمخابرات المركزية الأمريكية، وتاركا لنا الاستنتاج«. ويقول السادات لبومدين في لقاء جمعهما في 1973 بأنه قرر أن يدخل الحرب لأنه فقد الثقة بأي حل سلمي، ويجيبه بومدين : »لست أريد منك تواريخا محددة، كل ما أريد معرفته هو ما الذي تريد منا تقديمه بالضبط، ومتى تريد ذلك لتكون له فعاليته المطلوبة؟«. ولم يكن بو مدين آنذاك على علم بما سمعه أو سوف يسمعه كل من الفريق الشاذلي والأستاذ هيكل من الرئيس السادات، ولكنه كان قد تفهم عقلية الرئيس المصري، ربما من خلال متابعته الدقيقة لما يحدث في مصر عبر ما كان يُقدم له من تقارير ومن خلال الحوار مع بعض الإعلاميين المصريين وكذلك مع الفريق الشاذلي، وكان اهتمامه الأكبر بالشعب المصري نفسه. ولعلي هنا أستبق الأحداث لأعطى واحدا من التفسيرات للفتور الذي أصاب علاقات القيادة الجزائرية بعد ذاك بالصحفي المصري لطفي الخولي، الذي كان قد أجرى حوارات مع الرئيس حول قضية حرب أكتوبر، وسمع منه حرفيا أنه كان على »علم« بأن السادات سيخوض حربا، وكتبها الخولي في صحيفة الأهرام في القاهرة والنهار في بيروت بتغيير كلمة غيّر من مفهوم الجملة، حيث قال عن لسان الرئيس : كنت على "ثقة" من أن الرئيس السادات سيخوض حربا. وقمت أنا، وقد حضرت الحوار مع الرئيس، بنشر نص الحوار في الصحافة الجزائرية مستعملا الكلمة الأصلية وهو ما لاحظه الرئيس نفسه، كان قد اطمئن، بمكالمة هاتفية، أنني أنا أيضا لاحظتها، مما يعطي صورة عن دقة الرئيس في استعمال الكلمات. لكن كان هناك شيئا آخر أتصور أن الرئيس بو مدين لم يكن على علم به آنذاك، وسمعت به شخصيا خلال زيارة برلمانية قمت بها إلى مدينة ليل الفرنسية بعد ذلك بنحو ثلاثين سنة، فقد قال لي السيد بيير موروا، أول رئيس وزراء في حكومة الرئيس فرانسوا متران، أنه ذهب إلى إسرائيل في يوليو 1973 ليطرح على رئيسة الوزراء الإسرائيلية، وبطلب من الرئيس المصري أنور السادات وجّهه للأمين العام للحزب الاشتراكي الفرنسي آنذاك، إمكانية تحقيق حل سلمي بين مصر وإسرائيل، ولكن غولدا مائير رفضت العرض، وأتذكر أن بيير موروا قال عن مائير تعبيرا لا ينسى، وهو أنها كانت مثالا للجمال القبيح أو للقبح الجميل (La belle laideur) ولا أعرف ما إذا كان الرئيس السادات قد أسرّ للرئيس بومدين بمحاولته إيجاد الحل السلمي عن طريق متران. ويستقبل الرئيس بو مدين مرة أخرى الفريق سعد الدين الشاذلي الذي وصل إلى الجزائر في زيارة سرية يوم 16 سبتمبر 1973، وكانت مهمته إخطار الرئيس بأن العد التنازلي قد بدأ، وباتفاق مشترك بين القيادة المصرية والسورية (وبتعبير أكثر وضوحا للقارئ : الحرب ستندلع في حدود ثلاثة أشهر، وقد تكون غدا وقد تكون بعد 89 يوما)ونعرف فيما بعد أن الرئيس السادات أبلغ هيكل بقرار الحرب يوم 5 سبتمبر 1973. لكن كان واضحا أن السادات يريد القيام بعمل فردي يتحكم فيه وحده، وهو ما ثبت عبر حوار أورده الفريق الشاذلي في مذكراته، عندما ردّ على سؤال للفريق عن مجالات التنسيق العربي، فقال: »ستكون المعركة مصرية أساسا، وسوف يقف العرب موقف المتفرج في البداية، ولكنهم سوف يجدون أنفسهم في موقف صعب أمام شعوبهم فيضطرون في النهاية إلى أن يُغيّروا من موقفهم«. هكذا كانت نظرة الرئيس المصري لحلفائه الإستراتيجيين، وباستنتاج بسيط، كان واضحا أن السادات يريد القيام بعملية عسكرية تتوجه قائدا مظفرا لا للشعب المصري فحسب، وإنما للشعوب العربية كلها، حيث سيكون هو صاحب قرار الحرب وصاحب قرار السلم. وسيقول السادات منتشيا لهيكل قبل أن ينتهي الأسبوع الأول من الحرب : »حكمتك يا رب، كلّ الناس في العالم العربي اليوم بياخدوا مني أوامر، أقول أي شيء يقولوا حاضر يا فندم (..) شوف يا محمد .، أنا حاطلب من العرب بليون (مليار) دولار، وعايز أحجز منها مائة مليون لمطالب ما بعد المعركة«. ويحدث أنني تابعت بداية حرب أكتوبر في اللوج الأول، طبقا للتعبير المسرحي، فقد كنت في أواخر سبتمبر أقوم برحلة بدأتها بلبنان، والذي كان الواجهة الإعلامية المتميزة للإعلام العربي، ثم ثنيت بسوريا، وختمتها بالقاهرة التي كنت فيها في بداية أكتوبر 1973. وفوجئت وأنا أخرج من فندقي صباح يوم السادس من أكتوبر، الموافق للعاشر من رمضان، بالمناضل التونسي الكبير إبراهيم طوبال أمامي وهو يسألني بصوت اختلطت فيه الوحشة بالدهشة : »دكتور .. ماذا تفعل هنا ؟«، وأجبته بهدوء صائم يبدأ يومه: »إنني في رحلة سياحية«، ويسألني مستنكرا : »جزائري، في رحلة سياحية، في شهر رمضان؟ أنت تستغفلني« (وقال الكلمة بتعبير تونسي بذيء غير صالح للنشر) وزاد فضوله عندما عرف أنني كنت في سوريا، ولم يكن لديّ ما أطفئ به غليله، فرحت أسأله عن الأمور وكيف يراها فأجابني، وهو يتفحصني مليّاً ليعرف ما إذا كنت جادّاً في سؤالي أم هازلا : »الحرب على وشك أن تندلع«. وقمت بعدة اتصالات إعلامية في المدينة، من بينها اتصال مع حمدي الجمال رئيس تحرير الأهرام، ثم عدت إلى الفندق، ويهتف لي إبراهيم بعد الثانية ظهرا بدقائق ليقول لي ببهجة واضحة: »الحرب اندلعت ضد إسرائيل«. وهاتفت سفيرنا إبراهيم مزهودي والملحق العسكري رشيد بن إدريس، الذي كنت مدعوّا إلى مائدته، ثم ذهبت إلى السفارة حيث كان السفير في انتظاري، فاستأذنته في مكالمة الرئيس، وطلبت بداية الدكتور أمير، الأمين العام للرئاسة، وتبادلت معه كلمات استعملت فيها كودا معينا، رددت فيه اسم مصطفى كاتب، ولم يستعمل منا اسم الآخر في المحادثة التي كنت أناديه فيها بالحكيم، وبعد لحظات قال لي :»تحدث مع أخيك«، وكان المتحدث هو الرئيس الراحل الذي قال لي ضاحكا : »أنت اليوم تقوم بدور المراسل الحربي، ما الأخبار عندكم ؟«. ونقلت له الصورة كما أراها، وقلت له أنني أبلغت الحكيم ببعض المعطيات (وكنت تعمدتُ ذلك لأحشر اسما معيّنا) وأحسست به يغلق السماعة بيده ليسأل أمير، الذي اضطر إلى استرجاع بعض ما كنت قلته له واختلط فيه كل شيء بكل شيء، وعرفت أن الرئيس تلقى الرسالة واضحة عندما سألني عن الساعة في القاهرة، وقلت له إننا نسمع صوت أذان العشاء، فعاجلني بالسؤال، الذي كنت أريده، عن مستوى التعتيم الضوئي في العاصمة المصرية، وأجبته بأن الإضاءة شاملة وممتازة والشعب يرقص فرحا في الشوارع المزدحمة والنصر للعرب...الخ (أي أنه لم يكن هناك حالة تعتيم شامل Black out)