قبل توجهي لسوريا للمشاركة في عيد الجلاء الرابع والستين )وليس السادس والأربعين كما جاء خطأ في المقال الأول( حرصت على أن أطلع على العديد من الوثائق التي تستدرك ثغرات الذاكرة وقصور المعرفة، وكان من بينها كتاب للدكتور رياض أغا بعنوان :»العرب وتحديات القرن الحادي والعشرين«، جاء فيه قوله بأنه : "كان من الغزو الفكري البشع الذي عرفناه منذ مطلع القرن العشرين ورأيناه يعود اليوم، هذه الدعوات المستجدة إلى إلغاء الهُوية العربية والإسلامية في بلاد العرب والمسلمين، بدعوى أن مقومات العروبة وهْم، وأن الإسلام ثقافة تاريخية لا تشكل رابطا للأمة". وهكذا فإن منديلا تلف به سيدة مسلمة وجهها أصبح وكأنه أسلحة الدمار الشامل التي اتهمت بلدان عربية بتملكها، وهكذا يرتجف مجتمع بأكمله ذعرا من خرقة على الرأس أو مئذنة ترتفع إلى السماء أو نداء إلى الصلاة، حتى ولو كان أقل إزعاجا من رنين الأجراس. وأرجو أن يكون واضحا هنا أنني أفرق بين الحجاب والنقاب والتشادور، ولست ممن يرون في النقاب إرادة إلهية، لكن التشادور في إيران لم يمنع طهران من أن تفرض إرادتها على الكبار وتحقق ما فشل فيه العرب من المحيط إلى المحيط، كما أن السفور ليس هو الذي أعطى تركيا فرصة التألق كطرف إقليمي فاعل ومؤثر. القضية قضية حضارة، وتكامل بين الفكر القومي والإيمان الديني، وهنا أعود ثانية لكتاب الدكتور رياض، الذي تناول الحديث عن الدين والقومية بذكاء وبوضوح. فهو يُذكر بأن العرب لم يجدوا حرجا في التغني ببطولات يوسف بن تاشفين البربري وصلاح الدين الكردي وقطز وبيبرس المملوكين، ولعلي أضيف إلى هذا أن الجزائريين، وهم يخوضون غمار الجهاد ضد الأسبان الذين كانوا ينتقمون من أحفاد فاتح الأندلس طارق بن زياد، ابن المدية، قاموا بدعوة الإخوة بارباروس الأتراك لقيادة الأسطول الجزائري في بدايات القرن السادس عشر، وهو ما سُجل تاريخيا كموقف يجعل الوطنية تجسيدا لتكامل العروبة والإسلام، ويؤكد ما ذهب له الوزير السوري من أن القومية العربية هي اللسان ثقافة وتاريخا، وهي وعاء حضاري وإرادة عيش مشترك وليس شوفينية أو عرقية. وأنا ممن يقولون بأن تألق تركيا ونهضة إيران وتقدم اندونيسيا وديموقراطية ماليزيا كل ذلك كان بفض تمسكها بقومياتها في إطار الإسلام، تماما كما جاء في بلاغ أول نوفمبر، وهو ما يُفسر الهزال العربي الذي الناتج عن التصادم المفتعل بين الدين والقومية، عندما أضعنا الرباط القومي لصالح شوفينيات بلهاء، ورفعنا مفاهيما مغلوطة لعبارات الجزأرة والتونسة والسعودة، كانت صيحات حق أريد بها غير الحق، وفي الوقت نفسه فقدنا وحدة المرجعية الدينية بين الأمة الإسلامية، فأصبح هناك إسلام سوري وإسلام جزائري وإسلام مصري، وكان المؤسف أن أكبر المرجعيات السنية دخلت أو أدخلت في اللعبة، فكان ذلك وبالا على الجميع، ومبررا للإدعاء بوجود الإسلام الفرنسي والبريطاني، والتغني بإسلام معتدل هادئ وآخر متعصب دموي، واستثارة السنة ضد الشيعة ليحدث العكس. ولعلي أنتهز الفرصة لأرفض محاولات الغرب المتواصلة لتشويه جهاد البحر الإسلامي، والتي جعلت مؤرخا غربيا يقول بمرارة في القرن الأسبق: لا يمكن لدولة أوربية أن تضع خشبة في البحر بدون رضا الجزائر. فالغرب يُسمّي مجاهدي البحر قراصنة، في حين أن القرصان (Pirate) يعمل لنفسه ولعصابته وولاؤه هو لغريزته، أما مجاهد البحر (Corsaire) فيعمل لبلده ولمجتمعه، وولاؤه لدينه ولأمته، وأجدادنا رفاق الرايس حميدو لم يكونوا قراصنة. وكانت فرصة لأذكر في محاضرتي بما كنت ناديت به منذ عدة سنوات وهو اختيار يوم معين من كل بلد عربي يكون مناسبة تلتف حولها قلوب العرب، كل العرب، ويحتفل بها الجميع من المحيط إلى المحيط، واقترحت أن يكون من هذه الأيام أول نوفمبر، يوم الثورة الجزائرية، ويوم 17 أبريل، عيد الجلاء السوري، ويوم 23 يوليو يوم الثورة المصرية، و 16 سبتمبر، يوم إعدام الشهيد الليبي عمر المختار، وأول نوفمبر، يوم انطلاقة الثورة الجزائرية، وقد يكون من بينها تواريخ أخرى لعل هناك من هو أقدر مني على اقتراحها. وكررت ذلك عند عودتي إلى دمشق خلال حوارين مطولين اصطادني فيهما كل من السيدة ناهد عرقسوسي في برنامجها المميز "حوار الأيام" ثم الأستاذ نضال زغبور في برنامجه الشهري المخصص للفكر والذي يحمل عنوان مدارات، وكان تمسكهما باللقاء معي صورة لإرادة نجمين تيليفيزيونين سوريين لا يتصوران أن تفلت شخصية زائرة لسوريا من براثن استضافتهما الكريمة في برامج القناة الأرضية والفضائية )ولا أقصد هنا غمزا ولا لمزا بجماعتنا(. وسوريا دولة يحكمها حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي لا يشكل بأي حال من الأحوال ما يمكن أن يُسمّى حزب الدولة، وهي دولة الحزب برغم وجود أحزاب هامشية، وللبعث علم خاص يشبه علم فلسطين، وكان له امتدادات في أقطار عربية كثيرة باستثناء الجزائر الثورة، حيث قال لي المجاهد السوري الكبير الدكتور إبراهيم ماخوس أن قيادة البعث اتخذت قرارا باحترام خصوصية جبهة التحرير الوطني ومنعت محاولات التأثير على الجزائريين للانضمام للحزب. وأحسست في دمشق، تماما كما أحسست في مدينة طرطوس، بأن سوريا مؤهلة لمنافسة أقطار مشرقية كثيرة في ميدان السياحة، فبالإضافة إلى وجود فنادق ذات مستوى عالمي فإن الخدمة متميزة وفعالة ورصينة، ولن ترد عليك عاملة الهاتف بروتين الذي ينتظر انتهاء ساعات العمل ليتخلص من »سماطة« أمثالك، بل سترد عليك غالبا بصوت رقيق يصلك بمن تحب وهو يقول : تكرم، على عيوني. ولن تجد عند دخولك إلى دورة المياه في لوبي الفندق عملاقا يقظا يبدو وكأنه يحرس قبر نابليون، ينتظر انتهاءك من مهمتك النبيلة العاجلة ليفهمك ضمنيا بأدب مصطنع ومبالغ فيه بأن دخول الدورة ليس كالخروج منها، وهو ما يحدث في بلدان مشرقية تدعي أنها تعمل على اجتذاب السائحين، الذين يتعرضون لعملية سلب بقشيشي متواصل من المطار إلى المطار. وعندما زرت المسجد الأموي مع مرافقي النشط غزوان عرفت أن البابا يوحنا الثاني قام بزيارة المسجد وتوجه إلى حيث ضريح النبي يحيى الموجود على بعد أمتار من المحراب، ولكنه لم يقم بزيارة ضريح صلاح الدين الأيوبي على بعد أمتار من المسجد، ولم يزر بالطبع دار الأمير عبد القادر ومرقده السابق بجوار محيي الدين بن العربي. وكان أهم ما زرته في دمشق »بانوراما« حرب أكتوبر التي أقامها السوريون بالتعاون مع مهندسين وفنانين من كوريا الشمالية، وهي بناء دائري على الطراز العربي غير بعيد عن وسط العاصمة، تحيط به حديقة كبرى وضع في جانب منها بعض أسلحة حرب أكتوبر وفي الجانب الآخر بعض الأسلحة الإسرائيلية التي عثر عليها في ميدان المعركة بعد انتهاء الحرب. وبداية يُعرض على الحاضرين، وكان من بينهم عندما زرت المكان رفقة الملحق العسكري الجزائري، وفود من طلبة مدارس ابتدائية كانت زيارتهم تكريما لتفوقهم، فيلم تسجيلي يستعرض وقائع الحرب. وفي الدور العلوي لوحة دائرية عن معركة القنيطرة عبر الحائط كله، ويوجد في الوسط دائرة متحركة لجلوس المتفرجين الذين يتابعون أحداث المعركة على لوحة لا يفرق المرء بين المعدات الحربية الملقاة أمامها وتلك المرسومة عليها، من دقة الرسم وروعته. وتذكرت والمقاعد تدور بنا أمام اللوحة كم بحّ صوتي وأنا أقول لقيادات عليا بأن علينا الاستفادة من فناني كوريا الشمالية الذين سنأخذ منهم، مقابل لا شيئ تقريبا، خيرا مما أخذناه من الفنانين الإيطاليين الذين سلبونا الكثير وأعطونا عملا متوسط الجمال، في حين أن الكوريين الشماليين، وبعد أن وضعت تحت تصرفهم كل المعطيات التاريخية، أعطوا سوريا في وقت قياسي مركزا رائعا يخلد كفاحها بشكل تتكامل المصداقية فيه مع روعة التنفيذ. ولعلي أكرر مرة أخرى كتابيا بأن ترميم اللوحات الفنية في قصر الشعب ومجلس الأمة وغيرهما يجب أن يعهد به إلى أبناء بيونغ يانغ، ومعهم جزائريون يتعلمون أصول الفن وأساليبه، لكي نستريح من التلوث الفني الذي فرضته على مواقع كثيرة في بلادنا لوحات مُقرفة اشتريت، وغالبا في ظروف مشبوهة، بأثمان باهظة، ارتكبها رسامون من بينهم من يقول بأنه صنع نفسه بنفسه، ولا نعرف ما إذا كان يتفاخر بذلك أم يعتذر عنه. ولقد عشنا تجربة مماثلة عندما استدعى الرئيس أحمد بن بله أطال الله عمره في منتصف الستينيات المهندس المصري مصطفى موسى لبناء قصر الأمم وفيلات نادي الصنوبر وفندق الأوراسي، وقام الجزائريون الذي تعلموا "الصنعة" على يده ببناء مسجد الأمير عبد القادر بعد ذلك، ثم قصر الثقافة بالعاصمة والتوسعة الجديدة لرئاسة الجمهورية، وانتهى الأمر بالمؤسسة التي حافظ عليها نظام الرئيسين بو مدين والشاذلي إلى قبر كتب عليه : »كنيراتا«. وأعود إلى الجزائر محملا ببعض العسل السوري الذي أهداه لي الرفيق نور الله إبراهيم الماغوط، الذي حملني بسيارته مشكورا بين طرطوس والشيخ بدر، مؤكدا لي أن ما أعود به هو، كالعسل اليمني، من أهم مقويات العزيمة النضالية والإرادة الثورية !!!. وعدت قبل كل شيء بذكريات عذبة عن ضيافة كريمة حظيت بها من قبل كل من التقيتهم، بدءا بالدكتور رياض أغا ومساعديه وعلى رأسهم الأستاذ نزيه خوري، والدكتور حافظ نداف محافظ طرطوس ومعاونوه، وقيادات حزب البعث في المنطقة، ومجموعة الشيخ بدر وفي مقدمتهم الأخ خالد صقر والأخ شاهين شاهين والمئات الذين تحملوا ثرثرتي في محاضرة عيد الجلاء. ويبقى أن أذكر أن سوريا لا تحتاج إلى تأشيرة، وبأن جزائريين كثيرين سيسعدون بزيارتها، على الأقل حتى لا ينفرد بها باعة الترابندو ودلالات الأسواق. انتهى