راح كيسنجر في لقائه بالرئيس المصري يمطره مديحا وهو يسأله، بخبثه المعروف، كيف فاجأتنا بتلك الحرب؟ ويلتقط السادات الفرصة لكي يستعرض عظمته، ولا يُشير بكلمة واحدة إلى أبطال الجيش المصري الذين أعدوا خطة العبور، محمد فوزي وسعد الدين الشاذلي وعبد المنعم رياض وعشرات آخرون، بل ولا يذكر، حتى من باب الطرفة، ضابط الهندسة الحربية المصرية، الذي ألهمته رؤية ابنه على شاطئ البحر وهو يتبول على كوم من الرمال فكرة استعمال آلات ضخ مائي صغيرة لفتح ثغرات في خط بارلييف الرملي، الذي لا يمكن نسفه بالمتفجرات. وربما كان هذا ما أوحى فيما بعد بالأسطورة التي رددها الإعلام المصري من أن السادات ضحك على بيغين، بينما تؤكد التطورات أن الرئيس المصري هو الذي خدع، حيث مارس عليه الإرهابيُّ الصهيوني القديمُ كل ألاعيب الماكيافيلية السياسية، لكن ذلك تم التعتيم عليه من قبل إعلام مُرتزق ومُوجّه كان همّه أن يُسوّق السادات لدى شعبه، ليمكن تحقيق الالتفاف الجماهيري حوله والتحمس له بما يقترب من التعصب أو يتجاوزه غالبا، مما يحقق هدفا رئيسيا آخر هو تشويه المرحلة الناصرية، التي لا نملك مهما كانت عثراتها إلا أن نعترف بأنها كانت سدّا في وجه الإمبريالية العالمية والتعصب الصهيوني، لكن تلك كانت عقدة السادات الرئيسية تجاه رئيسه السابق، أو المعلم كما كان يخاطبه. وسنجد صورة من بعض الخلفيات الساداتية في رواية كيسنجر التي يوردها هيكل (ص – 678) قائلا على لسان الرئيس المصري : ((إن الجيش الثالث (المحاصر من قبل إسرائيل نتيجة لأخطاء قيادته) ليس هو لب المشكل، فأنا أريد أن أفرغ من مشكلة لأتحول إلى مهام أكبر، فإنا مصمم على إنهاء تركة عبد الناصر)) (end Nasser's legacy To). وراجت في مصر آنذاك نكتة تقول على لسان الرئيس الجديد أنه سيسير على خط عبد الناصر.. وتضيف: ببمحاة، وهي لم تكن نكتة، بل جسدت تعبيرا لاذعا عن ذكاء شعب استعمل النكتة دائما للتعبير عن موقف سياسي، فهم الأمر قبل أن يسمعه كيسينجر، الذي راح يقول بأن الرئيس : ((يشكو لي من إخوانه العرب الذي لا يفهمون رؤيته الإستراتيجية الواسعة" !!!، وقال بأنه : ليس مُستعدا لقبول ابتزازهم)). والواقع يقول أن السادات هو الذي ابتز العرب، وكنت أشرت لبعض تصريحاته عن الأموال التي كان يخطط للحصول عليها، وما قاله فيما بعد في حديث للبرلمان المصري على الهواء مباشرة، وجاء فيه أن عشرات المليارات سوف تصب على مصر من العالم العربي. ويواصل كيسنجر بأن السادات وعده برفع الحصار عن باب المندب تدريجيا (وهو مدخل البحر الأحمر الجنوبي المواجه لليمن) وتعهد بالعمل على إخراج البترول العربي بالكامل من الأزمة (وللتاريخ، فإن الملك فيصل أصر على أن يكون طلب السادات رفع الحظر البترولي مكتوبا وموقعا من الرئيس، ويبدو أنه كان يعرف السادات أكثر مما كنا نعرفه). وكان مما رواه كيسنجر أن السادات عبّر له عن اتجاهه لإجراء تغييرات أساسية في السياسة المصرية، محورها علاقة إستراتيجية جديدة مع الولاياتالمتحدة تكفل تنسيقا مصريا أمريكيا كاملا في الشرق الأوسط وإفريقيا (..) وهو يريد من الولاياتالمتحدة تعهدات بحماية نظامه وحماية شخصه في فترة يتوقعها حافلة بالمشاكل (ص 680) وبالفعل، يرسل له الوزير الأمريكي فيما بعد رسالة يشير فيها إلى قضية الأمن الشخصي للرئيس، ويعرض أن يرسل إلى القاهرة الخبراء الآتية أسماؤهم ( عواصف الحرب والسلام – ص 236): - جورج ك.كيثان – خبير في أصول الحماية الشخصية. - بول لويس –خبير في شؤون مقاومة التنصت. - هيو وارد – متخصص في تدريب المسؤولين.v - ألان د. وولف – متخصص في شؤون المخابرات (على رأس فريق) وهذا بالإضافة إلى خبير في الأمن والمتفجرات سوف يلحق بالفريق. وأستبق الحديث لأتساءل: كيف قتل السادات إذن وهو يحظى بحماية هائلة تتكفل بها واشنطن، اللهم إلا إذا كان ذلك تصفية لرجل انتهى دوره، وأصبح ضروريا أن يجري التخلص منه ليواصل المسيرة من هو متخفف من أعباء سلفه وبريء من المآخذ المسجلة عليه؟. ويروي كيسنجر أن السادات قال له: (( إذا جاءتكم فكرة أو مبادرة فأعطوها لي وأنا أقوم بطرحها باعتبارها اقتراحا أو مبادرة مصرية (..) فشعوب المنطقة ترسب لديها شك كبير في أي شيء تتقدمون به، وعندما تعلنون عن قبولكم اقتراحي، الذي هو اقتراحكم، فإن هذا يُعطي المصريين نوعا من الرضا لأن رأينا هو الذي ساد، وهذا كفيل بتهدئة المشاعر وتجاوز الشكوك)). ولقد مللت من التعليق على مواقف بطل الحرب. ويستنتج الوزير الأمريكي من زيارته إلى القاهرة أن : ((مصر في طريقها إلى سلام مع إسرائيل، وأن إمكانية الحرب في المنطقة قد انتهت (ومن هنا نعرف من يقف وراء الشعار الذي أخذ السادات يتغنى به وهو أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب، والذي يُفقد الجانب العربي أهم أسلحة المناورة، أي إمكانية استئناف العمليات العسكرية) والرئيس السادات قام باختيار إستراتيجي رئيسي وعلق مصيره الآن بالولاياتالمتحدة (..) وهذا سوف تتبعه بالضرورة خيارات داخلية في مصر (..) وبداية التحرك نحو السلام سوف تجعل استعمال سلاح البترول إجراء لا معنى له (..) وإذا انتهى سلاح البترول الآن فإنه سوف يختفي إلى الأبد (..) وإسرائيل حصلت على أهم ما كانت تريده (وبدون العودة إلى خطوط 22 أكتوبر ) وهو استعادة أسراها من مصر بدون انتظار لفك الاشتباك أو لمؤتمر السلام)). وكان واضحا قبل ذلك أن الجزائر غير راضية عمّا يحدث. وأتوجه إلى مطار العاصمة لاستقبال الدكتور أشرف مروان الذي وصل إلى الجزائر مبعوثا خاصا من الرئيس السادات على متن الطائرة المصرية الخاصة من نوع بوينغ 707، التي ألف المجيء بها وكان فيها دائما وحده، ولا أنفي أنني شعرت أحيانا ببعض الغيرة. وأرافقه إلى مكتب الرئيس بومدين، الذي كان رد فعله وهو يستقبل المبعوث المصري: * - الدهشة من عودة العلاقات مع أمريكا بهذه السرعة، ويرى الرئيس بو مدين أن في هذا إحراج للجزائر (التي قطعت علاقاتها مع واشنطن في 1967 بعد أن أبلغتها مصر بأن الولاياتالمتحدة مشاركة في العدوان، وصمم الرئيس بو مدين آنذاك على أن يتم قطع العلاقات الجزائرية مع واشنطون في نفس اليوم والساعة بل والدقيقة التي تقطع فيها مع مصر، تأكيدا للتضامن مع الرئيس جمال عبد الناصر) وأن تتخذ مصر مبادرة إعادة العلاقات بدون التشاور مع الجزائر أمر يبحث على التساؤل بل والاستياء. * - تساؤل عن الضمانات الأمريكية التي قدمت لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه. * - يخشى أن يكون الاتفاق الذي تم فخ أمريكي / إسرائيلي. (..) * - التركيز على أهمية حضور الفلسطينيين منذ أول جلسة لمؤتمر السلام (وكانت إسرائيل ترفض مجرد الإشارة للفلسطينيين في مؤتمر جنيف المرتقب، وكان كيسنجر يقول أنه لا مكان للفلسطينيين في المؤتمر القادم) * - ضرورة أن يتم التنسيق مع سوريا في كل المجالات العسكرية والسياسية. (..) ويسارع الرئيس الجزائري فيقوم بزيارة سريعة لكل من مصر وسوريا للاطمئنان على سير الأمور عشية مؤتمر القمة الذي حدد له يوم 26 نوفمبر، وأتذكر أن الرئيس السادات استقبلنا في المطار بملابسه العسكرية، ويقول له الرئيس بو مدين وهو يمسكه من ياقة ((الأوفرول)) ويضحك ضحكة أحسستُ بأن لها معان أخرى (( أنت أوقفت النار فلماذا تواصل لبس البزة العسكرية؟))، والموقف مسجل في صورة أحسن المصور الجزائري التقاطها. ويلتقي كيسنجر بغولدا مائير في بداية ديسمبر 1973 ويقول لها بأن ميزة ما تم التوصل إليه أنه : ((يعطيكم وقتا ويعفيكم الآن من الحديث عن خطوط الحدود النهائية (..) أما بالنسبة لنا فهو بدء علاقة جديدة إستراتيجية مع مصر، ورفع حظر البترول عن الولاياتالمتحدة، وإنهاء التهديد بالبترول بالنسبة لأصدقائنا وحلفائنا في أوروبا الغربية (وسيكون الفضل كله لواشنطون) ولا ينبغي لأحد منكم في إسرائيل أن يراوده الشك في أن فشل محادثات فك الاشتباك سوف يؤدي إلى فتح خزانات هائلة للضغوط عليكم، ولن تكون هذه الضغوط من أجل انسحاب جزئي وإنما من أجل انسحاب كامل إلى خطوط يونيو)) (..) ولم يخف كيسنجر عن القيادة الإسرائيلية مشاعره التي ولدتها زيارته للقاهرة، ويقول : ((إنني مندهش من مسلك الرئيس المصري، الذي لا يبدو حتى الآن مستعدا لاستعمال قوته السياسية الكاملة التي تعطيها له حقائق موقفه، كما أنه لا يأخذ الموقف الدولي الجديد في اعتباراته وهو يتفاوض (..) وقد كان في استطاعته أن يستخدم ما لديه لتحقيق اتفاق كامل بانسحابكم على شروطه وإلى خطوط 4 يونيو 1967، وحتى إذا غامر بتجدد القتال فإن العالم كله سوف ينحى باللائمة على إسرائيل (..) والسبب في رأيي أن السادات وقع ضحية للضعف الإنساني، وهو في الحالة النفسية لسياسي يتشوق إلى أن يرى نفسه، وبسرعة، في موكب نصر في سيارة مكشوفة عبر مدينة السويس، وآلاف الناس على الجانبين يصفقون له كمنتصر)). ويكون تحليل دايان في نفس اللقاء أن ((السادات يريد اتفاقا بأي ثمن، لعدة أسباب، لأنه قلق من الحالة النفسية لجيشه، ولأنه يتوجس شرا من الاتحاد السوفيتي، ولأنه يريد أن تكون يداه طليقتان لمواجهة المتشددين العرب)) (وفي مقدمتهم بالطبع سوريا والجزائر)