أحب أن أتوقف لحظات لأعلق على بعض ما وصلني من ملاحظات لبعض القراء في الداخل والخارج، حتى يطمئن الجميع إلى أنني أصغي لرأي القراء وأسعد بتعليقاتهم. وبداية أوضح أن هذه المقالات تكتب تباعا وأولا بأول، وهي ليست، كما تصور البعض، نقلا من كتاب موجود، وإن كان هذا لا يمنع أن أحولها إلى كتاب إذا أحسستُ أن حجمها ومضمونها يتطلب ذلك أو ينسجم معه، وإذا وجدتُ الناشر الذي يتحمل مسؤولية إصدار الكتاب. ولقد كنت، عندما بدأتُ كتابة المقالات في نهاية نوفمبر الماضي، أتوقع ألا يزيد حجم السلسلة عن أربع أو خمس مقالات، لكن بعض ردود الفعل التي وصلتني أكدت لي أن هناك فراغا كبيرا فيما يتعلق بمعلومات أساسية حول مسيرة الوطن العربي في العقود الأخيرة، أحيانا لأن غبار الزمن بالنسبة للبعض تراكم على ملامح الأحداث فغيّبها، وأحيانا لأننا نشكو من قلة المراجع المكتوبة للأحداث، والموجود منها ليس كله في متناول الشباب والأقل شبابا، وهكذا وجدت نفسي منساقا لسرد الكثير مما رأيته أو عشته أو تابعته، خدمة لشباب يتطلع إلى المعرفة ولجمهور الصحيفتين اللتان تنقلان السلسلة للقراء، صوت الأحرار والجمهورية. هذا بالنسبة للشكل، أما بالنسبة للمضمون وردّا على بعض التعليقات أحب أن أؤكد أنني أحترم الرئيس أنور السادات بصفته رئيسا لبلد شقيق، ولا أحملُ له ضغينة خاصة أو كره شخصي، لكنني أرى، وطبقا لمعطيات كثيرة موثقة، أنه يتحمل المسؤولية الأولى فيما وصل إليه الوضع في الوطن العربي، وليس في الاعتبارات السياسية مجال للعواطف. وحقيقي أنني اعتمدت كثيرا على كتابات وزيري الخارجية المصريين، إسماعيل فهمي ومحمد إبراهيم كامل، وكلاهما افترقت بهما الطريق عن الرئيس المصري، واعتمدت كذلك على مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي الذي استعمله السادات كبش فداء لأخطائه العسكرية، وكذلك محمد حسنين هيكل الذي يعرف الجميع موقفه من السادات، ووجدتُ نفس الموقف عند معظم من تعرضوا لسيرته ولمسيرته، ومن بينهم الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية السيد محمود رياض، وهو ضابط سابق في الجيش، وكان عضو الوفد المصري في مباحثات الهدنة الشهيرة في رودس عام 1949. ويقول رياض في مذكراته (ج -2. ص 413) أن السادات كان يحاول أولا تفادي المعركة (وهو ما كنت أشرتُ له عند استعراضي لما سمعته مباشرة من الوزير الأول الفرنسي الأسبق بيير موروا) ثم يقول بأن السادات بدأ يفكر في عملية عسكرية محدودة لتحريك القضية سياسيا (وقد أشرتُ لهذا ضمنيا عندما رويت قصة مكالمتي الهاتفية يوم 6 أكتوبر، وتناولت قضية التعتيم الضوئي التي استقطبت اهتمام الرئيس بو مدين) ويروي رياض ما سمعه من السادات بأن ((نجاح القوات المصرية في احتلال شبر واحد من سيناء كفيل بتحريك الموقف السياسي وتحقيق الحل الذي نرتضيه)) كما يشير إلى أن الخطة الأساسية لاسترجاع سيناء وضعت خطوطها الرئيسية في عهد جمال عبد الناصر في عام 1968، وكانت تقوم على أساس أن عبور القناة ليس هدفا في حد ذاته، فهي مجرد مانع مائي يجب اجتيازه لتحقيق الهدف الأول وهو احتلال المضايق (..) وقد رفضت القيادة العسكرية فكرة التوقف بعد العبور لأنها لا تحقق هدفا سياسيا (..) إلا أن السادات ظلت تلح عليه فكرة المعركة المحدودة لتصوره أن الأمريكيين سوف يتحركون في هذه الحالة لحل القضية. ويؤكد رياض أن الثغرة حدثت عندما غيّر السادات رأيه وقرر في 13 أكتوبر دفع الاحتياطي المدرع للقيام بهجوم نحو المضايق (وهو ما تم في واقع الأمر، كما ذكرتُ، فجر 15 أكتوبر) متأخرا بذلك خمسة أيام (وسبعة أيام في الواقع) بعد صد الهجوم المضاد الذي قامت به إسرائيل يومي 8 و9، وخسرت فيه 250 دبابة، مما جعل غولدا مائير تتصل بكيسنجر لتطلب وقف إطلاق النار، ثم تراجعت عن ذلك يوم 13 أكتوبر بعد أن كشفت طائرة الاستطلاع الأمريكية عبور الفرقة المدرعة 21 لقناة السويس متجهة شرقا، واستعداد فرقة مدرعة أخرى للعبور (لعلها الفرقة الرابعة) ونتج عن هذا القرار الخاطئ أنه لم يبق في الاحتياط إلا لواء واحد مدرع لحماية الخط الدفاعي بطوله، وهكذا تخلت مصر عن احتياطيها المدرع، وهو ما كنت أشرت له عند استعراضي لموقف الشاذلي من الثغرة. ويقول رياض أنه ((مندهش من أن تهدر القيادة (السياسية) أحد مبادئ الحرب الأساسية (..) بعدم وجود قائد للجبهة، فالمعركة كانت تدار من القاهرة، وعدم وجود القائد حال دون اتخاذ قرار سريع باستغلال نجاح العبور العظيم واحتلال خط بارلييف، ودون استثمار فشل الهجوم الإسرائيلي المُضاد يومي 8 و 9، بالتحرك نحو المضايق مباشرة، بالإضافة إلى أن قائد الجبهة لم يكن ليحرم نفسه من وجود قوات احتياطية تحت أمره، وكان سيتصرف بسرعة لسدّ الثغرة (وهكذا) كان السادات قد أصدر أول قرار سياسي في المعركة بتحويل الخطة الهجومية لتحرير الأرض إلى مجرد عبور للقناة (..) وتصور أن ارتداءه بذلة الماريشالية يتيح له إصدار (..) تعليماته بعبور الفرق المدرعة الموجودة في الاحتياطي والتقدم شرقا في اتجاه المضايق لتواجه الفخاخ القاتلة التي أعدتها القوات الإسرائيلية وليتم تدمير 250 دبابة، مما أفسح المجال لإسرائيل لإحداث الثغرة بمجرد معرفتها بعبور القوات الاحتياطية عن طريق الاستكشاف الجوي الأمريكي (..و) الشاذلي عارض بشدة عبور الفرق المدرعة إلا أن القائد العام أبلغه أنه قرار سياسي)) كما سبق أن أوضحت (رياض ص 429) ويطلب السادات اجتماعا لمجلس الأمن لاتخاذ قرار بإرسال قوات سوفيتية أمريكية إلى الشرق الأوسط (للسهر على وقف إطلاق النار) فيرسل له كيسنجر مهددا بأنه سوف يلغي زيارته إلى القاهرة إذا تمسك بطلب إرسال القوات المشتركة، ويقول رياض بأن (( دعوة كيسنجر للقاهرة كانت خطأ سياسيا لأنها تضعف موقف الاتحاد السوفيتي، الذي يُساند مصر إلى درجة إعلان تعبئة قواته المسلحة (..) وبدلا من أن يتشدد السادات في موقفه يرسل إلى واشنطن ليسحب طلبه، ويقترح إرسال قوات دولية تستبعد منها الدول الكبرى (..) ويتنفس كيسنجر الصعداء)) وتعلق غولدا مائير قائلة (( إن الجيش (المصري) الثالث ليس في موقف يائس ولكن السادات وحده هو الذي في موقف يائس)) ويرسل نيكسون لإسرائيل إنذارا يطلب فيه ردّا سريعا حول إمدادات الجيش الثالث، ويقول أنه إذا لم يصله الردّ فسوف تؤيد واشنطن قرارا من مجلس الأمن يفرض تنفيذ القرارين 338 و 339 (..) ويتولى السادات نفسه، بطل الحرب، إجهاض جهد نيكسون، إذ يُبلغ كيسنجر بقبوله إجراء مفاوضات الكيلو 101 (..) وتفقد مصر بذلك تأثير أقوى إنذار يصدر لصالحه من القوتين الأعظم مجتمعتين، ولم يكتف بذلك بل حدث عندما قرر مجلس الأمن زيادة عدد مراقبي الأممالمتحدة، وتم الاتفاق بين واشنطن بطل الحرب عندما كان المقاتل المصري في الجيش الثالث ، كما اعترفت رئيسة وزراء إسرائيل، صامدا بكل بطولة أمام الهجمات الإسرائيلية. وهكذا لم أكن مخطئا عندما رفضتُ أن أعترف بلقب بطل الحرب الذي انتحله السادات، فأنا لا أستطيع أن أستهين بشهادة كل من أوردتُ رواياتهم عمّا حدث بالحرف الواحد تقريبا. ولعلي أضيف هنا أيضا، مؤكدا ما سبق أن أشرت له، من أن الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون أكد التزامه بتكريس الجهد لتحقيق السلام الشامل، حيث شعر بأن التزامه الأول هو خدمة مصالح بلده بعد أن لمس قوة التضامن العربي، هذا على عكس كيسنجر، الذي ألقى السادات بزمام تحركه بين يديه في حين أن التزامه الأول كان خدمة مصالح إسرائيل، وهو ما أعطِيَتْ عليه الأدلة للرئيس المصري من قبل مساعديه، وخصوصا إسماعيل فهمي. ولعلي أضيف إلى ذلك، وعلى ضوء ما ذكره رياض، أن نيكسون شعر بألاعيب كيسنجر، فأرسل له تعليمات صريحة بأنه ((على الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي أن يشتركا معاً في إيقاف هذه الحرب الدائرة وفرض تسوية شاملة في الشرق الأوسط (ص 424) والاعتبارات السياسية الداخلية (ضغوط اللوبي اليهودي) لن يكون لها مطلقا تأثير على قراراتنا في هذا الصدد، وأريدك أن تعرف أنني مستعد للضغط على الإسرائيليين إلى المدى المطلوب )) وندرك هنا بأن ووتر غيت لم تكن هي السبب المباشر في سقوط نيكسون، ولكنها كانت ((سبّة وملاقيتها حدور)) كما يُقال عندنا، وكان رفض التعنت الإسرائيلي وراء النهاية السياسية للرجل الذي فتح التضامن العربي عينيه على حقائق الأمور، وأحس بما يهدد بلاده من أخطار نتيجة انسياقها وراء الغلو والتعصب الإسرائيلي، وبغض النظر عن أن موقفه كان يخدم العرب حتى ولو لم يكن يقصد ذلك. ويتلقى نيكسون ضربة من القاهرة، ففي الوقت الذي كان يستعد فيه للضغط على إسرائيل من أجل التسوية الشاملة التي اقترحها بريجنيف بإصدار قرار من مجلس الأمن، يتم فيه ربط قرار وقف إطلاق النار بتنفيذ القرار 242 والانسحاب من الأراضي العربية إذ ببرقية تصله من كيسنجر يبلغه فيها أن السادات يرغب في فصل وقف إطلاق النار عن التسوية الشاملة (..) ويعلق الوزير قائلا بأنه ((يتوقع المزيد من التنازلات من السادات)) ويقول محمود رياض عن يوم 7 نوفمبر التي التقى فيه كيسنجر السادات أنه كان علامة سوداء في تاريخ السياسة المصرية، فقد كان بداية التنازلات التي أقرها السادات لمصلحة إسرائيل، واحدة بعد الأخرى.