هل من مقارنة، بين هؤلاء الشبان الذين يحملون الجزائر في قلوبهم، وبين أولئك الذين يضعونها في جيوبهم؟•• أولئك الذين يرفعون هامتها عاليا، وهؤلاء الذين يمرغون سمعتها في الوحل؟ الحالة الأولى هي الجزائر، بكل تراثها وعظمتها وكبريائها، هذا الاسم وهذا الموقع وهذه الرقعة التي كانت دوما إما في قلب الأحداث أو صانعة لها••• ومع أن الأمر يتعلق بمجرد لعبة أو رياضة، إلان أن هذه اللعبة وهذه الرياضة كانت دوما ومنذ عهد الإغريق أصدق تعبير عن حيوية أمة وعنفوان شبابها• وبقدر ما كانت الحالة الأولى تعبيرا عن الأمل الذي أحياه في نفوس الملايين أولئك الشباب أعضاء الفريق الوطني لكرة القدم••• فإن الحالة الثانية وأعني بها - رغم ضحالة المعلومات - تلك الأخبار المتسربة عن الاختلاسات والتلاعب بالمال العام في قطاعات اقتصادية حساسة، وفي مشاريع ذات أولوية وتستهلك ميزانيات ضخمة تأتي رائحتها الكريهة لتزكم الأنوف وتكاد تقتل البسمة، وفي كل الأحوال فإن الفرحة تنغصها أخبار الاعتقالات والتحقيقات والمتابعات القضائية تجاه مسؤولين تحولوا إلى غربان، تنهش جسد هذه الدولة التي وضعت فيهم ثقتها وبوأتهم مكانة ومناصب ثبت أنهم لا يستحقونها، وأنهم ليسوا أهلا لها•• مجموعات تعيش في الظل منظمة وكأنها جمعيات ماسونية، أو كأنها نوادي الروتاري، تعبث في المال العام وبه، تنفقه حسب مقياس "الأقربون أولى بالمعروف"، وحسب منطق الذهب ومنطق استغلال الفرصة لتحقيق ثراء ليس فاحشا فحسب، بل غير مشروع وغير مبرر•• وحين يشعر الجزائريون بمثل هذه الممارسات فإن الإحباط الذي يصيبهم يتحول إلى تشكيك في كل شيء ويأس من كل شيء، ذلك أن الأمر لم يعد مجرد ظاهرة معزولة أو تصرف شاذ قد يحدث هنا وهناك، إنما أمسى تصرفا يعبر عن الاستهتار بالمال العام الذي يمكن أن نسميه هنا "تحويشة العمر" أو طفرة ظرفية لثروة زائلة هي المحروقات، تستوجب الاستفادة منها لخلق ثروة دائمة هي دوران العجلة الاقتصادية والإنتاجية•• ويبدو أن "جبل الثلج" هذا يخبئ تحته ما هو أفظع وأخطر ومصيبة أعظم•• وذوبانه التدريجي قد يكشف لنا ليس فقط سوءات هذه الأسماء المتداولة التي يضع القانون بعضها في خانة المتهمين وبعضها في خانة المتحفظ عليهم•• إنما سوءات أخرى في بعض الزوايا المظلمة التي كثيرا ما تتخذ منها الخفافيش أمكنة للتخفي - وأستخدم هنا عن قصد وصف "الخفافيش" لأنها تتغذى بالدم، دم ضحاياها دون أن يشعروا وهي نفس ممارسات هؤلاء الذين يتصرفون بسلوك العائلة وبسلوك العشيرة وسلوك الزمرة•• هل يذوب جبل الثلج هذا ليظهر ذلك البركان المخفي كما يحدث في الطبيعة؟ لسنوات كان هذا الوباء "تبذير المال العام" بألوانه المتعددة رشوة، عقود تفاضلية، تفضيل شركات على أخرى، المحاباة، شركات وهمية تخلق لصفقة معينة، ثم تختفي إما بالإفلاس أو بوقف النشاط نهائيا، كل هذه وغيرها أساليب لنهب المال العام ولسوء الحظ أو لحسن الحظ عرفت الجزائر منذ عقد تقريبا بحبوحة مالية إن أعادت الأمل للانطلاق في عملية تنمية تعوض السنوات العجاف، فهي كذلك فتحت الشهية أمام أسماك القرش إن صح التشبيه وأمام خفافيش الظلام لتمتص دم الجزائريين•• حتى يلتئم الجرح أو بالأحرى الجراح لابد من فقع الدملة المتقيحة وعدم الاكتفاء بالمراهم والعلاجات السطحية التي قد تكون مسكنة مؤقتا، لكنها لا تزيل العفونة، وأعتقد أن الفرصة مواتية لتوفر الإرادة السياسية التي عادة ما ينسب لها كل تردد في الذهاب بعيدا في مثل هذه القضايا، والإرادة السياسية هنا تتمثل في عزم رئيس الجمهورية مواصلة استئصال هذا الوباء المعدي ومحاربته دون هوادة•• ذلك أن الأمر هنا لا يتعلق فقط بالضرر المادي الذي يلحق البلاد جراء هذه الممارسات المافيوزية، إنما سمعتها ومصداقيتها على الصعيد الدولي، ذلك أن بلادنا وهي تخصص جزءا كبيرا من انشغالاتها في مواجهة المجموعات الإرهابية، ومجموعة الجريمة المنظمة ومجموعات التهريب والمخدرات تتعرض من خلال هذه الممارسات إلى جبهة أخرى تتعدى مؤشر الرشوة وتبذير المال العام لتندرج ضمن مخطط للتفقير، تفقير كل الأمة وجعل مؤسساتها مجرد قربة مثقوبة• في سنوات الستينات، وبالأحرى وسطها مرورا بالسبعينات وحتى الثمانينات كان هناك في الجزائر ما يصطلح على تسميته تشريع مكافحة الجرائم الاقتصادية، وهي قوانين استثنائية سال حولها حبر كثير، لكنها كانت ضرورية لمواجهة وضع باعتبار أن التعامل مع مثل هذه الظاهرة يستوجب أساسا الوقاية ثم القمع، وأعتقد أنه رغم الانتقادات الكثيرة التي وجهت لذلك الأسلوب، إلا أنه شكل نوعا من الكبح إن لم يزل الظاهرة نهائيا•• فإنه قلل من وتيرة سرعتها•• وفي ذلك الوقت كانت الظاهرة معزولة أو تكاد، مجرد اختلاس فردي، أو رشوة فردية••• لكن الأمر الآن جد معقد، فهناك شبكات أخطبوطية متشعبة خيوطها تشمل دواليب متعددة، إدارية اقتصادية، مالية داخليا وخارجيا، إنها شبكات عنكبوتية مترابطة تستوجب الكثير من الصبر والذكاء والحيلة، بالإضافة للخبرة حتى يتم، ليس القضاء عليها، إنما التقليل من آثارها المدمرة••• حتى صفتها تدل عليها، أقصد "الصفقات"•• ومع أنها إجراء عالمي للتعامل، إلا أن أساليب تسييرها وتسريبها والتحايل في منحها وتفضيل هذا الطرف على ذاك وتسريب بعض أسرارها، شكلت دوما ممارسة تفتح الباب أمام كل أشكال الانحراف والتحريف والاختلاس والرشوة والمحاباة، وهي ليست مقصورة على الشركات والمؤسسات الكبرى، إنما عمت كل أساليب تسيير المال العام، وحتى في مشاريع المجموعات المحلية ولائيا وبلديا، ذلك أن التحايل على التنظيمات والنصوص واللوائح والقوانين، أمست سمة عامة، وعدد الفضائح في هذا المجال تنقله كل يوم وسائل الإعلام••• حين ذكرت بمحاكم قمع الجرائم الاقتصادية التي ألغيت بعد دستور 1989•• فيما سمي حينئذ بحكومة الإصلاحات، فلأن في ذهني الصين التي هي اليوم ثاني اقتصاد عالمي، لا تتسامح أبدا مع هذا النوع من الجرائم التي تمس المال العام، فالحكم دائما هو الإعدام•• ومع أن القاعدة هي أن المتهم دوما بريء حتى تثبت إدانته، إلا أن الأمر في كثير من الحالات يتعدى مجرد الشكوك، لأن الوقائع تؤكد الممارسات• كما بدأت هذه العجالة، أنهيها بين ذلك الأمل الذي جعل الجزائريين باختلاف ميولاتهم ومشاربهم وقناعاتهم واختلافاتهم يجتمعون حوله وراء فريق لكرة القدم شاب وحيوي، وبين هذه العتمة السوداء التي بدأ ضوء خافت يخترق مجاهلها وظلماتها، فإنني أومن أن النور سيسود ذات يوم ويزيل عنا هذا السديم الذي يكاد يخنقنا•••