صحفي الشروق رفقة الشيخ رائد صلاح رائد صلاح للشروق: "قبل هجوم الكموندوس.. سنرى غزة قريبا مهما فعلوا فينا" الحلقة الثانية قيل أن أجمل حبّ هو ذلك الذي نعثر عليه عندما نكون بصدد البحث عن شيء آخر ولعل أجمل البطولات هي تلك التي نحصل عليها عندما نكون بصدد إنجاز مهمة أخرى نظنها في البداية شبه عادية، قبل أن نكتشف بأنها ستكون بطولتنا الأولى والأخيرة؟! هكذا كان شعوري وأنا بصدد انتظار المعركة التي تحولت إلى مذبحة، والمواجهة التي انقلبت إلى مجزرة، وذلك كان إحساس جميع الذين شاركوا في أسطول الحرية الذي أضحى معبرا لفك الحصار لا يعترف بقرارات الغلق أو المنع لأسباب سياسية وسلطوية مهما علا شأنها أو زادت قيمتها؟! حين صلى المسلمون المتواجدون على ظهر سفينة مرمرة، صلاة العشاء مساء الأحد30 ماي، لم يكن أحد يعتقد أنها ستكون الصلاة الأخيرة التي سيستمعون فيها إلى الشيخ رائد صلاح وهو يخطب فيهم، جالسا على كرسي في المقدمة، بعدما تعودوا على سماعه طيلة الأيام الأربعة الماضية، كان الشيخ صلاح، خطيبا متمرسا، ومقاوما باسلا، رجلا لا تفارقه الابتسامة، وشيخا يتمرد على سنواته عمره الطويلة، لينقلب شابا ينطق لسانه بالحق، وتقفز ملامح وجهه لتنير الجميع بأضواء ساطعة، تناقض الضوء الخافت الذي كنا نعيشه مساء كل يوم على ظهر السفينة كان كل هذا وأكثر، هكذا أخذت انطباعي عنه وبقية الجزائريين وكل العرب والغربيين على ظهر السفينة! هذا ما قاله لي الشيخ رائد صلاح قبل محاولة اغتياله! التقيت الشيخ رائد للمرة الأولى في قاعة الرياضة بمدينة أنطاليا، رأيته في البداية يتوجه نحو مكان تواجد الوفد الجزائري خلال الكلمة الافتتاحية التي ألقاها بولاند يلدرييم، مرحبا بالمشاركين في أسطول الحرية كان الشيخ صلاح، يقبّل هذا ويسلّم على ذاك، يرد التحية بأحسن منها، ويجيب على كل مادح له ولنضاله، بالقول مختصرا وبتواضع وزهد شديدين: "أستغفر الله" عندما اقتربت منه، كان يرحب به رئيس بلدية أنطاليا، وهو يقول له: "نحن في خدمتك يا شيخ، اطلب منا ما تريد وسيصلك حالا" تخيلت لحظتها ماذا لو أن هذا الرجل الذي يعد من أبرز الرجال المدافعين عن الأقصى في معركته الوجودية من أجل البقاء، قد يترك مكانه لعالم آخر، من علماء السلاطين الذين باعوا آخرتهم للحصول على دنيا فانية، ماذا كان سيطلب من الحاكم الأول في مدينة أنطاليا السياحية، ربما كان سيطلب خدما وحشما وصولجانا وهيلمانا لكن الشيخ رائد ابتسم، وقال: "الله المستعان" اقتربت من زعيم الحركة الإسلامية لعرب 48، عرّفت بنفسي قائلا إنني صحفي من الشروق الجزائرية، قال: "مرحبا"، وابتسم وكأنه ينتظر ماذا سأقول، أو ماذا سأسأل، لكنني ارتبكت، توقفت لحظات وأنا أنظر إلى هذا الحامل للجنسية الإسرائيلية الذي نعشق نضاله، وإلى هذا الشيخ السبعيني الذي يفوقنا شبابا وحيوية، أخبرته عن شعبيته الكبيرة في الجزائر، فحرك رأسه، فرحا وكأنه مطلع على ما قلته له، وردّ: "إن شاء الله سأزور الجزائر لأقول شكرا للجزائريين على حبهم" ابتسم مرة أخرى، واستدار إلى محبيه الكثر الذين التقطوا معه صورا كثيرة صادرتها إسرائيل فيما بعد، آه يا إسرائيل صادرت أرضنا وهتكت عرضنا، وحرمتنا حتى أن نحفظ أحباءنا في مجرّد صور! بعدها كانت لي لقاءات كثيرة مع رائد صلاح، لكن أهمها على الإطلاق، اللقاء الذي تم قبل الهجوم، بساعة واحدة فقط، لا، بل إنها كانت مجرد دقائق معدودة، وجدته في مؤخرة السفينة، منهمك بشرب كوب من الشاي التركي، وحوله شباب منتمون لمنظمة "اهاها" التركية يُقبّلون رأسه ويطلبون منه الدعاء لهم بالنصر الليلة، هم العراة الذين لا سلاح لهم غير حبّ القضية، ولا دافع أمامهم إلا التقدير والاحترام لنضال رائد صلاح وأمثاله، ولا نصير لهم إلا الله فنعم المولى ونعم النصير! سألت الشيخ رائد وأنا أصوّر بالكاميرا الرقمية: "يا شيخ، هذه المشاعر الجهادية الكبيرة، ألا تجعلك متفائلا بوقوفك في غزة بعد ساعات من الآن؟ وأن الأمة بخير؟" كنت أدرك أن السؤال طويل عريض، يحتاج إلى ندوة للإجابة عليه، وليس الوقت ميّسرا إلا للحرب والاستعداد للمعركة في ساعات عصيبة على الجميع، لكن الشيخ رائد أجاب بهدوء وتواضع، بعدما ارتشف بعض الشاي "نراها اليوم أو غدا، ولكننا سنراها قريبا بإذن الله" وقبل أن يُكمل، اصطدم به شاب تركي، كان مع آخرين يهرولون لأخذ أماكنهم على ظهر السفينة، ابتسم الشيخ رائد، وقلت له مسرعا: "لعلها أهون الشرور الليلة يا شيخ" حرك رأسه موافقا، ثم لم أره بعدها إلا معتقلا في صباح اليوم التالي؟! علي الخلايلي ومقاطعة إسرائيل! أكثر الأشخاص في أسطول الحرية، تعلقا بالشيخ رائد صلاح كان شابا فلسطيني وسيما، اسمه علي، شاهدته للمرة الأولى في مطعم دعانا إليه رجل الأعمال الجزائري عبد الكريم رزقي رفقة بقية الوفود العربية من أجل تناول العشاء فيه بأنطاليا التركية، انتبهت لقميصه الأخضر الذي يرتديه، حاملا شعار "قاطعوا إسرائيل" فعرفت أن هذا الشاب من فلسطين، سألته فأكد لي مجيبا أنه من مدينة الخليل، وهو قد عمل المستحيل ليكون متواجدا على متن الأسطول، رفقة آخرين من بريطانيا، ينتمون لجمعية "غزة حرة"، علي كان أكثر الناس تعلقا برائد صلاح، ففي اللحظات الأخيرة قبل الهجوم، شاهدته يأخذ مكانا له وسط الشباب من أجل تقبيل رأسه ويديه، كان خجولا وهو يقترب منه، هكذا يحترم الشباب شيوخهم ورموزهم وتاريخهم، احترام القضية يتأتى من احترام المدافعين عنها، هكذا كان يؤمن وينفذ علي "حبه" و"احترامه" للشيخ رائد.. علي، اتخذ من مصور باكستاني يقيم في بريطانيا وفتاة من نفس البلد، صديقين دائمين له على متن السفينة، كان صعبا أن أخترق هذه العزلة الثلاثية الموحدة، لكنني طلبت منه في الكثير من المرات أن يتحدث لي أمام الكاميرا التي كنت أصور بها، عن شعوره بالإبحار نحو غزة، تلكأ وتمتم بينه وبين نفسه، ثم همس بحبّ رقيق وبرفق لا يوصف قائلا: "أتسألني عن شعوري بالسفر نحو بلدي، ما هو شعورك أنت بالابتعاد عن بلدك الجزائر؟!"وجدت أن عليّا أفحمني، قتلني، ردّ على سؤالي بسؤال آخر ضيعني، أنا الذي أضعت وطني "مؤقتا" منذ أسبوع، أسأل فلسطينيا عن وطن فقده منذ عقودا لغطرستي وكبريائي؟! الصلاة خير من النوم! معظم الشباب على ظهر سفينة مرمرة، كانوا يؤدون الصلاة في أوقاتها، حتى أولئك الذين لم يكونوا على صلة بها في "دنياهم المضطربة" التي سبقت ركوب سفينة الحرية، جزائريون وكويتيون وأردنيون وبحرينيون، وغيرهم من المسلمين، حتى من أندونيسيا وماليزيا، كانوا يتسارعون لأداء الصلاة بمجرد سماع صوت الآذان يصدح في السفينة، الوضع كان صعبا في دورات المياه، لكن الصبر كان متوفرا للجميع، من أجل إكمال المهمة، أتذكر هنا، الشيخ الإبراهيمي، من الوفد الجزائري، فهو كان يمتلك صبرا لا حدود له، قال لي في أكثر من مرة، "إن الصبر هو السلاح الوحيد في معركة فك الحصار"، صدقته وشكرته واعتبرته منذ البداية أباً لكل أعضاء الوفد، حتى الذين يكبرونه سنا، فهو كان داعية لا يحصر نفسه في منبر، بل ينزل إلى الناس في بيوتهم، يقيم في قلوبهم، ويحرك كل شيء في داخلهم كما يشاء ووقتما يشاء! الصلاة كانت أيضا معركة لنائب يمني آخر، ظهر مختلفا ومميزا في أسطول الحرية منذ البداية، فقد كان يضع خنجره على خصره، ويمشي مترنحا بين الناس، وكأنه مستعد لاستعماله في حرب المواجهة مع اليهود، فالخنجر لم يعد للزينة فقط وإنما للحروب أيضا، هذا الشيخ اليمني، تسلم منذ البداية مهمة إيقاظ المسافرين في الفجر لأداء الصلاة، فكان يمشي بين النائمين رافعا صوته: "يا قوم، انهضوا حان وقت الصلاة، إسرائيل، عدوّ لا يمكن الانتصار عليه إلا بالصلاة" البعض كان يلعن اليوم الذي فكر فيه بالمجيء على ظهر هذه السفينة بمجرد سماع صوت اليمني وهو يجهر بالإقامة، خصوصا عندما يكون هؤلاء الذين يعتقد أنهم "نائمون" قد صلوا وهو الذي نهض متأخرا لا يعلم أن الجميع سبقه ووقت الصلاة قد ولّى!، لكن النائب اليمني لم يكن يأبه لأي أحد، وواصل تنفيذ لمهمته حتى اليوم الأخير من المواجهة.. حرب أخرى، اندلعت على ظهر السفينة بين المسلمين، سببها التقصير أو التخفيف في الصلوات الجماعية، حيث كانت أشد أيام الرحلة التي أطلت فيها حرب الفتاوى برأسها على الجميع، هو الجمعة، عندما استند البعض الى فتاوى المالكية وغيرهم التي تسقط فرض صلاة الجمعة عن المسافرين. شيخ بحريني، ضخم الجثة، استفز الجزائريين قائلا: "أيها الجزائريون ألسم مالكيين، فلماذا تريدون أداء صلاة الجمعة اليوم وأنتم مسافرون؟!" السؤال جعلني وغيري، نلتفت إلى الشيخ الإبراهيمي وكأننا نحمله مسؤولية الرد عن هذه الفتوى، فقال "إنها صحيحة ولكن..!" هكذا كان منسق الحملة الجزائرية دوما، يفتي ويترك جانبا للفكر الذاتي، يحترم العقول ولا يمارس عليهم سلطة الرأي الواحد، وهو الإمام الرئيسي في جامع المحمدية العتيق بالعاصمة، ولعل من أبرز المرات التي رأيت فيها الشيخ الإبراهيمي، متعصبا لرأيه، يتمسك فيها بفتواه، تلك التي رأى فيها أحد تلامذته، وهو مصطفى، نجل القيادي مقري، بصدد شرب "بيبسي كولا" في مطعم تركي، بأنطاليا، نهره بشدة قائلا: "نحن نستعد لمحاربتهم وأنت تريد مساعدتهم باستهلاك سلعهم!؟" حاول مصطفى، الشاب العشريني الذي يشبه أباه كثيرا، شكلا وصوتا ومضمونا، أن يقاوم فتوى شيخه ويدرجها في خانة الرأي الذي يؤخذ ويرد، لكنه لم يقاوم كثيرا، وما كان عليه إلا أن يذهب خارج المطعم ويشتري، عصيرا تركيا "مقاوما" أو ربما "جهاديا" حتى يريح شيخه من عذاب الإفتاء، وريقه من الجفاف والعطش؟! النصر، الكسر، الأسر أو الشهادة! حين أتى وقت صلاة الفجر ليوم الاثنين31 ماي، كان الجزائريون كغيرهم من العرب والمسلمين، لم يناموا ليلتها إلا قليلا، بل إنهم قاوموا شدة النعاس بالتفكير فيما سيأتي قريبا، حتى النواب الذين كثيرا ما نتهمهم بالنوم في جلسات المصادقة على القوانين ومناقشتها تحت قبة البرلمان، رأيت عيونهم مثلما لم أرها من قبل أبدا، مفتوحة، قلقلة، غير متوقعة لما سيأتي به ساعات الفجر الأولى! سمعت آذان الفجر، يصدح من مقدمة السفينة.. "الله أكبر الله أكبر" كان صوتا جميلا، يشعرك بأنك في جهاد، واكتشفت حينها أن هذه الأمة ما فقدت كرامتها وإحساسها بدينها ووجودها إلا لأنها أسقطت من أجندتها فريضة الجهاد! هل هؤلاء الذين معي مجاهدون أو ناشطون حقوقيون؟ مقاتلون أم إغاثيون!؟ يسعون للموت أم للحياة؟ كانت كل هذه الأسئلة تدور في رأسي قبل لحظات قليلة من بداية الهجوم، وكثير منها لم أجد لها إجابة حتى الآن، المسافرون معنا من الوفد الجزائري، كانوا جميعا من المصلين، والمؤمنين بالقضاء والقدر، عندما ترى الشيخ علي فضل الله أو محمد ذويبي أو السبتي جمال أو الشيخ العكاني، تتصور أنهم مقاتلون في جلد شيوخ مؤمنين.. آهٍ ما أروع الشيخ العكاني، هذا الرجل الهادئ بلحيته البيضاء، القادم من عاصمة الغرب وهران، وصاحب النضال الفكري والمسجدي الأطول في ذكر عداوة اليهود للمسلمين، ماذا ستفعل الليلة، حين تواجه اليهود الذين خصصت لهم حلقات وحلقات، وندوات وندوات، طيلة سنين وعقود؟! ماذا ستقول لهم وأنت الشيخ الذي تجاوز السبعين من العمر، عن وهران وعن الإيمان، عن الجهاد والبطولات والثورات؟! الشيخ العكاني، كان إمام الجزائريين في رحلتهم، خطيبهم الأساسي، وصاحب التدخلات الأولى والأخيرة، للدعاء بالنصرة للفلسطينيين، قبل وبعد كل حدث يقيمه الوفد الجزائري، لكن الشيخ الإبراهيمي كان له حضوره اللافت أيضا منذ البداية، أحسن الاتصال بالإعلاميين المتواجدين في الأسطول، وتمكن من تمرير عدة رسائل للجزائريين الذين خلفناهم وراءنا مثل دعوته للأئمة يوم الجمعة بأن ينصروا الوفد الجزائري وغيره من الوفود في سبيل تأدية مهمتهم بنجاح، قال لي: "أخبرهم على لساني، أدعوا لنا بالنصر أو فك الحصر أو الأسر، أو الشهادة" خيارات لا نملك غيرها، وليس أمامنا سواها، لكنها شكلت في الغالب مرتكزا أساسيا، استند عليه الجميع، حتى الصحفيُّون المشاركون. أنا وزملائي في بقية الجرائد، لم نكن نكتفي بدورنا كإعلاميين، لم نصدق في الحقيقة أن دورنا يقتصر على تغطية بسيطة، وإنما كان الكل يعلم أننا هنا، مثل الجميع، ليس أمامنا إلا النصر أو الكسر أو الأسر أو الشهادة؟! الجزائريون تحت وابل من الرصاص لم يكن سهلا البتة التفكير في الموت رغم أنه قريب منا، لكنه كان بالنسبة لجميع من هم على ظهر السفينة خيارا مستبعدا، إلا للذين اختبروا وحشية إسرائيل من الفلسطينيين، كانوا يعرفون جدا أن هذا الكيان الغاصب لا يعرف إلا لغة واحدة، ولا يتكلم بسواها.القتل ثم القتل ولا شيء غير القتل؟! عبد الرزاق مقري كان يقول لي ولغيري: "يا ودّي الدعوة ماراهيش ساهلة.. في وقت البلوط تموت شجاعة الرجال" كنا نبادل هذه الكلمات التي يرميها لنا "حيّة تسعى" في كل اجتماع نعقده نحن الجزائريين يوميا، بابتسامات، وأحيانا بضحكات عالية، وكأننا نسخر من الآتي إلينا أو كأننا نقول بيننا وبين أنفسنا، لابد أن إسرائيل لن تجرؤ على ارتكاب مزيد من الحماقات، ونحن بيننا برلمانيون غربيون وناشطون أمريكيون ويهود وملحدون من كل مكان. توحدوا مع المسلمين في مطلب واحد، هو نصرة غزة! ولعل من أكثر الأشياء التي سخرنا بها، هي عندما سمعنا أن إسرائيل حضرت لنا عملية خاصة ومعتقلا جديدا،العملية أسمتها "أجنحة السماء" والمعتقل يقع في بئر السبع، عز الدين زحوف من الوفد، الطالب المتخرج من معهد الإعلام بالعاصمة، رد ساخرا: "إذا حضروا لنا هم أجنحة السماء، فإننا سنسمي عمليتنا "أسماك القرش" ضحكنا معا، أنا وهو ومصطفى مقري، وصديقي أحمد جوامعي وحليم، لكننا كنا نعرف أن القادم أصعب، وبأن أجنحة السماء تحولت إلى حقيقة، وأن إسرائيل فعلا ستقودنا إلى معتقل جديد! في الحلقة القادمة هكذا أصيب النائب الجزائري بأول رصاصة لماذا طلب مقري من الجزائريين "العراة" الثبات أمام الكومندوس؟ رحلة التحقيق نحو المعتقل!