في صيف 1977 كان ناحوم غولدمان رئيس المجلس اليهودي العالمي يحس بأن هناك أفكارا جديدة من الاعتدال تهب على المنطقة، وتصور إمكانية حدوث معجزة في العلاقات العربية الإسرائيلية، فأخذ ينشط مركزا على كل من الرباط وبوخارست، حيث كان يعرف أن لرومانيا خيوطا من الصلات والاتصالات، وكان رأيه أن بيغين قد يستطيع أن يلعب دور شارل دوغول في الجزائر، وقد يُثبت التاريخ بأنه الرجل القوي الذي يستطيع تقديم تنازلات لا يجسر أحدٌ على اتهامه بالضعف عند تقديمها )هيكل – حديث المبادرة – ص 38( والمهم هنا أن غولدمان اعترف بأن الجنرال قدم تنازلات لثورة الجزائر، وهو ما لا يعترف به قوم يدعون بأن استقلالنا كان منحة من دوغول. ولعل هيكل، وهو يتحدث عن المغرب، لم يريد الإشارة هنا إلى نظرية تزاوج العبقريات، والتي كان العاهل المغربي الراحل قد نادى بها، وتتحدث عن خلق تكامل بين المال العربي والعبقرية الإسرائيلية، وهو ما فسّره كثيرون بأنها محاولة لضمان ولاء اليهود ذوي الأصل المغربي في إسرائيل، ومنهم كثيرون هاجروا إليها بدون أن يقطعوا صلتهم نهائيا بالمغرب الذي استقبل أجدادهم المطرودين من الأندلس. وقد كان ذلك، للأمانة، عملا ذكيا ضمن به الملك الحسن وجود )لوبي مغربي( له تأثيره داخل الكيان العبري، ولعلها كانت محاولة للتلويح لليهود بإمكانية تشجيع الاستثمار المالي العربي في مشاريع يهودية. وأسمح لنفسي بالقول أن الحديث عن العبقرية اليهودية بشكل مُطلق هو أسطورة، لأن ما يُسمّى بعبقرية يهودية نتاج للمجتمع الذي يعيش فيه اليهود، فأينشتاين برز لأنه نشأ في ألمانيا وعاش في أمريكا، وشارلي شابلن ولد في بريطانيا وتألق في أمريكا، وليس هناك عبقري برز من يهود اليمن أو من فلاشا إثيوبيا. وينجح الزعيم اليهودي في ترتيب اجتماعات بين مسؤولين في المغرب ووزراء لبيغين )ص 39( وأرسل السادات في سبتمبر من نفس العام مساعده حسن التهامي إلى الرباط ليلتقى موشيه دايان، استكمالا للرسالة التي كان قد حملها له الكولونيل الدليمي. وكان التهامي، وهو واحد ممن ارتبطوا بثورة يوليو، يحمل لعبد الناصر كرها كبيرا، تماما ككل من يهمشهم نظام ما في مكان ما لسبب ما، وكان يتردد أنه مختل العقل، حيث كان يفاجأ الجالسين معه عندما يلتفت منتفضا وقائلا بصوت مرتفع: وعليكم السلام ورحمة الله، وعندما يُسأل عن السبب يقول أن سيدنا الخضر عليه السلام كان مارا وأقرأه السلام فردّ عليه تحيته. ويقول هيكل أن اختيار التهامي سوف يظل إلى زمان طويل موضعا للدهشة )عواصف -ص 344( خصوصا بعد أن تكشفت حقائق كثيرة )..( ومن بينها أن مدير المخابرات العامة اللواء كمال حسن علي كلف بالانضمام إليه في الرباط، لكنه، بأمر من الرئيس، لم يحضر الاجتماع مع دايان، ولم يعرف حتى اسم المسؤول الإسرائيلي الذي قابله التهامي. وكان المهم في الاتصالات إصرار إسرائيل على ألا تعرف بها واشنطون، وبالطبع فقد كان السادات قد أمر بها من وراء ظهر حلفائه العرب، ربما لأنه كان يدرك أنهم سيقفون ضد أي تسوية منفردة، ولأنهم، في معظمهم، كانوا يتابعون بقلق كبير تنازلاته المتواصلة عن مصادر قوته، ويؤسفهم اضطرارهم لمعرفة التطورات عبر تسريبات من هنا وهناك. ويبدو أن الجانب الإسرائيلي، الذي كان يهدف إلى تحقيق اللقاء المباشر مع الرئيس المصري، كان يرى أن في اللقاء وسيلة لتخريب مؤتمر جنيف، حيث كان رئيس الوزراء مناحم بيغين، الإرهابي القديم المعروف، يعارض مفهوم تسوية شاملة يتم التوصل إليها مع اشتراك كافة الدول العربية والقوتين الأعظم. ويقول التهامي عن لقائه بدايان أنه : بادرني بالسلام مادّا يده للمصافحة فلم أصافحه )..( وقلت له إنني لم أكن أتوقع في حياتي أن أقابلك إلا في ميدان المعركة )ولم يُعرف للرجل إنجاز عسكري متميز( وتساءل دايان مندهشا : لماذا أوقفتم الحرب في اليوم الرابع وكنا على استعداد لكي نستسلم لكم مقابل أن تبقونا أحياء )ولست أدري لماذا أتذكر الآن قصة سيدنا الخضر الوهمية( ثم يقول دايان عن لقائه مع التهامي )ص8/346( أن ))محاوره لم يكن يعرف الكثير من الحقائق )..( وبشكل ما فقد أحسست أن إلحاحه على السرية يعكس أزمة كبرياء لديه، لا يعرف كيف يُعبّر عنها ولا كيف يُداريها )..( فقد ركز بصره عليّ وسألني: قل لي بصراحة، ألم يكن جمال عبد الناصر متآمرا معكم سنة 1967 ؟ )..( إنه رجل مجنون وسأكتب عنه كتابا(( ويقول دايان عن الملك الحسن الثاني )..( وعلى مائدة العشاء )..( أبدى الملك تقديرا للسادات على حساب سلفه جمال عبد الناصر، فقال أن عبد الناصر لم يكن رجلا صادقا، وقد خدع أصدقاءه وأعداءه على السواء، ولكن السادات رجل مختلف )وواضح هنا أن العاهل المغربي لم ينس تضامن عبد الناصر المُطلق مع الجزائر إثر غزو القوات الملكية للحدود الجزائرية في أكتوبر 1963(. وعرض الرئيس المصري على المكتب السياسي نتائج لقاء التهامي الذي أبلغه بأن إسرائيل مستعدة للانسحاب من الأراضي المصرية بدون تأخير، ومستعدة بعد ذلك للتفاوض حول كل شيء، وأنهم يقبلون الانسحاب من بقية الأرض المحتلة على أساس تعديلات طفيفة ويقول السادات : ))أنا الآن واثق من النجاح، وأتذكر ما قاله لي كيسنجر من أن القضية هي نفسية قبل كل شيء((. ولقد اطلعتُ أنا على رواية كل من التهامي ودايان عن لقائهما في المغرب، ولم أجد حرفا واحدا مما قاله الرئيس المصري، والسؤال المطروح: من كذب على من؟ وهكذا سار السادات في لعبة بيغين لمجرد أن كراهيته للعرب أصبحت، ولعلها كانت، متجذرة في نفسه، حيث لم ينسَ أنهم عرفوه بجانب ناصر، وكان رأيهم أنه إمّعة لا موقف له ولا رأي إلا ما يراه »المعلّم« مرددا تعبيره الشهير »تمام يا ريس« وقيل أنه كان مُعقدا مما تسرب بأنه كان يتلقى راتبا ماليا من بعض الدول الخليجية. وبالتالي فإن الرئيس كان يتصرف وكأنه يُعدّ لتصفية الحساب مع العرب ككُلّ، والانفراد بالشعب المصري بفضل القواعد الشوفينية التي يرتفع بناؤها يوما بعد يوم وراء أسوار الإعلام. والثابت أنه، وقبل الاتصال المصري الإسرائيلي المباشر، لم يكن الموقف في الشرق الأوسط قد وصل إلى حالة جمود ميئوس منها، وإنما كان يتحرك نحو سلام شامل لم تكن إسرائيل يوما من أنصاره، لأن السلام يُفسد مخططاتها التوسعية، وكل ذلك يسقط كل المبررات التي قدمها السادات لينطلق في مبادرات منفردة. ويتساءل إسماعيل فهمي في مذكراته : إذا كان كل شيء يسير في الاتجاه الصحيح لعقد مؤتمر جنيف للسلام في نهاية 1977 فلماذا اختار السادات خطوة من جانب واحد ستؤدي تلقائيا إلى وضع نهاية لكل الجهود الجماعية، وإحباط كل الآمال في أن يُعقد مؤتمر السلام ؟ هل كان السادات يتواطأ مع إسرائيل لمنع إنجاح المفاوضات الجماعية؟ )..( ولماذا يُخفي السادات عن كارتر، بطلب من بيغين، الاتصالات المباشرة التي كانت تجري بين مصر وإسرائيل )..( أم أنهما كان يخشيان أنه سيعترض )..( خوفا من تخريب الجهود الأمريكية الداعية للسلام )..( والسادات كان يعلم بلا شك، أو يتوقع، أن أشقاءه العرب سيرفضون قراره الذي اتخذه من جانب واحد. )ص 293(. ويِؤكد وزير خارجية مصر الأسبق أن الرئيس كارتر وإدارته كانا ملتزمين التزاما كاملا بعقد مؤتمر جنيف بهدف التوصل إلى تسوية شاملة، وأن ورقة عملٍ تتضمن النقاط الإجرائية قد تمت صياغتها، ولم تكن الإدارة الأمريكية تخشى أي عرقلة من الجانب السوفيتي، كما أنها كانت حريصة للغاية على تفادي أي تطورات جديدة من شأنها زيادة صعوبة الموقف، ومن الخطأ الزعم بأن موسكو كانت تتصرف على نحو مُخالف. هنا نلاحظ أن بطل الحرب سيضيّع الفرصة الحقيقية ليكون أيضا بطلا حقيقيا للسلام، بإضاعة إمكانية الوصول إلى إحلال سلام عادل وكريم، وهي فرصة مؤتمر جنيف، وسيضع نفسه تماما بين براثن إرهابي »الإرغون زفاي لئومي« السابق، ليحصل على شبح سلام زائف، سيكون من بعض نتائجه تدمير التضامن العربي والتخريب الكامل للمجتمع المصري. ويزعم كثيرون، ممن يعرفون طبيعة السادات، أنه فعل ذلك عندما أحس بأنه سيكون في جنيف مجرد واحد من مجموعة قيادات دولية، من بينها كارتر وبريجنيف وربما قيادات أوربية أخرى لها وزنها، وقد يأتي الصينيون للمشاركة في العرس الكبير، وهكذا سيكون مجرد واحد من الحضور، ولن يكون أبرزهم بأي حال من الأحوال. ولن أدخل في تفاصيل التصرف الذي أصاب العلاقات العربية بشرخ لن يلتئم أبدا، وهي الزيارة التي قام بها الرئيس أنور السادات للقدس المحتلة، فالتفاصيل معروفة في معظمها، لكنني سأتوقف، باختصار، عند معطيات تندرج في إطار الهدف من هذه السطور. وابدأ محاولا استكشاف الخلفيات باستعراض الدول التي زارها السادات قبل أن يتخذ قراره، وكانت رومانيا يوم 30 أكتوبر، وكنت أشرتُ لموقف تشاوشيسكو، الذي أراد، كما يقول فهمي، أن يكون همزة وصل بين مصر وإسرائيل، متأثرا برأي غولدمان عن دوغول. ثم جاءت إيران بعدها، وكان لشاه إيران رأيه بأن مصر ليست عربية، وأنها، مثل إيران، مجرد جارٍ للعرب، وكان يردد بأن الصراع العربي الإسرائيلي كلّف مصر فوق ما تطيق. ثم كانت الرياض حيث يقال أن الملك خالد لم يسمع من الرئيس المصري شيئا عن نواياه مع ملاحظة أن العاهل السعودي كان يترك مقاليد الحكم بين يدي ولي العهد.