توقفت طويلا في الحديث الماضي عند قضية التعامل مع الإسلام لأنني أتصور بأن البلد العربي الوحيد الذي كان قادرا على التحرك إسلاميا في أوروبا وفي فرنسا على وجه التحديد لم يكن مصر ولا غير مصر، مهما كانت الأموال المرصودة والنوايا الصادقة وحجم الإطارات المتوفر، ولكنه الجزائر، وخصوصا إذا تحقق الانسجام في المواقف مع جيراننا في المغرب العربي، والذين يملكون جاليات منضبطة ومنظمة في المهجر، وإذا كانت هناك إرادة مخلصة بين المرجعيات السنية في الوطن العربي كله، وبعيدا عن حسابات البقالين ومناورات المخابرات وعناصرها، وإذا أمكن خلق التكامل مع المؤسسات الدينية في المشرق العربي ، وعلى رأسها الأزهر، بعيدا عن روح الاستعلاء الممقوت وإدعاءات الفوقية، وبشرط أن تكون تلك المؤسسات أكثر عالمية وأقل إقليمية وأبعد بقدر الإمكان عن إرادة السلطات التنفيذية في البلدان المعنية. ولعلي أذكر بالنسبة للعلاقات مع مصر باستقبال الجزائر في الثمانينيات للشيخ محمد الغزالي، المغضوب عليه آنذاك من النظام المصري، وبرغم أن مشاكسة السلطة المصرية كانت أبعد ما تكون عن ذهن صانع القرار الجزائري فيبدو أنه اعتبر كذلك في القاهرة، ولأنني كنت من المساعدين المقربين للرئيس الجزائري فقد تحدث البعض عن دور لي يتجاوز حقيقة ما حدث، والذي يعود الفضل فيه أساسا للرئيس الشاذلي بن جديد وحسن تفهمه وحزم قراره، ولتوصية وزير الشؤون الدينية الشيخ عبد الرحمن شيبان. ولقد أشرت إلى هذا هنا لأنه قد يكون من مجموع العناصر التي تخصصت في جمعها مصالح خاصة تولت تحريض النظام المصري ضد الجزائر. والمهم فيما يتعلق بفرنسا أن الأزهر دخل إلى الساحة تحت عنوان جديد تم اختياره خارج جدرانه وهو //حوار الأديان// بدلا من العنوان السابق وهو الحوار الإسلامي المسيحي، ويقول هيكل تعليقا على ذلك بأن التجربة العملية أظهرت أن الحوار //المستجد// يقترب أكثر من اليهودية، ويتضح أن المشروع يومئ إلى أن القضية ربما لا تكون فرنسا ونبيذها القديم في قوارير جديدة، وإنما هو على الأرجح نبيذ جديد في قوارير قديمة توحي بأنه لا اختلاف، في حين أنه في الواقع أكثر من اختلاف (العربي التائه- ص 129). وسيكون الأزهر القوة الدينية المدافعة عن الاختيار الإسرائيلي للنظم العربية، وخصوصا عندما تولى مشيخته رجل عرف باندفاعه وسلاطة لسانه وانبطاحه أمام قرار السلطة، وهو ما بدا خلال استقباله للحاخام يهودي لم تعرف عنه مواقف مساندة للحق العربي، ومن بياناته المنسجمة مع القرار الفرنسي في قضية الحجاب، وتبريره لمصافحة شيمون بيريز من أنه لم يكن يعرفه، وكل هذه وغيرها كثير كان لها أثرها على الشارع الجزائري الذي تهاوت لديه صورة الأزهر القديم، بكل شموخها ومرجعيتها المتميزة. ومن هنا قال البعض بأن مصر اليوم ليست هي مصر الأمس، وبأن شيخ الأزهر هو مرجعية محلية لا مجال لقبولها على الساحة العربية بشكل مطلق، وبأن أي تفكير في إعطاء دور عربي إسلامي شامل للأزهر يجب أن يرتبط بأمرين أولهما أن يكون منصب شيخ الأزهر بالانتخاب من مجموع علماء المسلمين، لتكون مواقفه معبرة عنهم، والثاني بأن تكون ميزانية الأزهر من أوقافه لكي يكون متحررا من ضغوط السلطة، أي سلطة. ولم يكن غريبا بالتالي أن يكون بعض خريجي الأزهر من غير المصريين صورة مكررة لشيخ الأزهر، وهو ما شاهدناه من مفتي لبنان، الذي لم يكن في مستوى عظمة الشيخ حسن خالد وراح يسوّق لتيار سياسي بعينه ترضى عنه دول غنية شقيقة، وهو ما عشناه مؤخرا في تصرفات مسؤول الأوقاف الفلسطيني، الذي راح يدعو المسلمين إلى الصلاة في المسجد الأقصى بمناسبة الإسراء والمعراج، مستغلا المناسبة الدينية لاستجداء التأييد الإسلامي للسلطة الفلسطينية، وهو ما رفضه شيخ الأزهر ويُحسب له، وإن كان بطريرك الأقباط المصريين البابا أنبا شنوده رفض التوجه للقدس قائلا بأنه لن يطلب تأشيرة من السفارة الإسرائيلية، وهو موقف سياسي. ولن أتوقف كثيرا عند قضية الفرانكوفونية فموقف الجزائر منها معروف، ولم يكن سعي مصر للحصول على موقع متميز في إطارها مما يمكن أن يستثيرها أو يقلقها لمجرد أنها تعرف وزنها الحقيقي ومدى مساهمتها في نشر اللغة الفرنسية مع الحرص بألا يكون ذلك جزءا من تأكيد الوجود الفرنسي، وهو ما لم ننجح فيه دائما كما نريد، لأسباب أترك لغيري مهمة التعمق فيها. ولقد كان هدفنا في تدعيم الفرنسية، وليس على حساب العربية بالطبع، أن تكون الجزائر واجهة الثقافة الفرنسية في المشرق وواجهة الثقافة العربية للغرب، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يُدركه، خصوصا عندما تغيب النظرة الإستراتيجية للأمور ويُوكل الأمر إلى غير أهله. وحدث هو أن بعض الأشقاء في مصر كانوا يتصورون أننا نهيم عشقا بالفرانكوفونية حبا في سواد عيون السياسة الفرنسية وشقراوات باريس، وإلى درجة أنهم تصوروا بأننا أقمنا مناحة عندما قررت فرنسا بعد ذلك فتح جامعة في الإسكندرية، على غرار الجامعة الأمريكية في القاهرة، وكان واقع الأمر أننا لم نتوقف إطلاقا عند ذلك. وتتواصل الأحداث إلى أن تعرف مصر أحداث سبتمبر 1981 ثم يجري اغتيال الرئيس يوم 6 أكتوبر عند لحظة مرور الطائرات في العرض العسكري الذي أقيم احتفالا بذكرى حرب أكتوبر، وتتردد أقاويل كثيرة عن ظروف الاغتيال والتي كانت كلها تشير إلى أنه كان عملية إعدام لزعيم //انتهى// دوره، فتحا للمجال أمام زعيم جديد //جاء// دوره، وأذكّر هنا بما قاله السفير الأمريكي للسادات عند محاولته تعيين رئيس جديد للوزراء. ولن أتوقف كثيرا عند أمر يتجاوز مقدرتي على استجلاء كل جوانبه ولا يدخل في إطار هذه الأحاديث، لكن هناك أمرا رئيسيا يستوقف الانتباه وهو أن السادات، وطبقا لما سبق أن أشرت له، كان يحظى بحماية خاصة يشرف عليها الأمن الأمريكي، ويُقال أنه حدثت تغييرات في يوم الاغتيال كان من بينها استبعاد وجود أفراد الحراسة أمام المنصة التي يوجد فيها الرئيس وكبار المدعوين. ولعلي أضيف إلى ذلك ما ذكره شوقي خالد، محامي المتهم الثاني في قضية الاغتيال، والذي يقول بوضوح وبعد استعراض كل الوثائق المتعلقة بالقضية، أن الطلقات التي قتل بها الرئيس المصري هي من عيار 38 سميث & ويسون (SMITH&WESSON-38 Sp.)، وهي رصاصات تستعمل في السلاح الأمريكي ذي الطاحونة (Revolver) الذي تستخدمه أطقم الحراسة الشخصية وحدها ويحمل خمس مقذوفات رهيبة، وهو نفس السلاح الذي اغتيل به العقيد تونسي. ويكرر شوقي في كتابه //محاكمة فرعون// ما قاله في المحكمة من أن الرصاصات التي أطلقت من فوق ظهر الشاحنة في العملية، التي لم تستغرق سوى فترة زمنية خاطفة هي 35 ثانية، لم تصب أحدا من الموجودين بالمنصة، وهذا بالحساب الدقيق للارتفاعات والزوايا (..) وإصابة صدر رئيس الجمهورية الشديدة والكافية وحدها لإحداث الوفاة السريعة حدثت من أسفل إلى أعلى من ناحية القدمين إلى ناحية الرأس، كما يقطع بذلك مسار المقذوف في جثمان سيادته ( ص 173) وهكذا فإن السادات لم يُقتل بأسلحة المتهمين، والواضح أنهم أطلقوا النار على جثة هامدة (ص 177) ويبقى فقط أن أشير إلى شماتة يديعوت أحرنوت الحقيرة التي كتبت يوم 23 أكتوبر من أن : ((قبر السادات (والذي أحسن اختيار مكانه من قبل أرملة الراحل، حيث يقع بجوار قبر الجندي المجهول الذي يحتفل به سنويا) يحرسه الجنود الذين لم يستطيعوا الحفاظ على حياته)) وهذا القول ظلم واضح لأن العملية، في تصوري، لا تختلف عن اغتيال جون كينيدي في بداية الستينيات، أي أنها عملية مدبرة لا يمكن أن تعتبر دليلا على تهاون السلطات المصرية، والمؤكد أن المسؤولين المصريين حاولوا التحذير من احتمالات اغتيال الرئيس، ولكن التحذيرات طاشت في الهواء. ويواصل شوقي عرضه قائلا : أعلنت إسرائيل الحداد وهي التي أذاعت ليلة وفاة عبد الناصر أغاني الأعياد. ويبقى أن أقول بأن اغتيال السادات كان مأساة كبيرة، بغض النظر عن كل ما يُمكن أن يتهم به أو ينسب إليه أو يُحاسب عليه، لأن إنهاء حياة مسؤول سامٍ، وبهذا الشكل المأساوي، لا يمكن أن يسعد به أي إنسان سويّ. ووصلتنا في الجزائر أخبار إطلاق النار على الرئيس المصري خلال زيارة كان يقوم بها الرئيس الشاذلي لولاية قالمة، وراح أحد الوزراء الموجودين في الوفد الرئاسي، وقبل الإعلان عن وفاة السادات، يقفز هنا وهناك ووجهه يطفح بالبشر، ويقول لي على مسمع من الرئيس أنه سوف يهديني كبشا إذا مات السادات (وهو كبش لم أره قطّ) لكن الرئيس كان بالغ النبل متمسكا بأخلاقية الإسلام في التعامل مع المأساة، ولم يعبر عن أي شماتة أو تشفٍ عندما قمت بإبلاغه نبأ الوفاة، ولعلي أتذكر أنني تخيلته يتمتم قائلا بهدوء ... يرحمه الله. ويتولى نائب الرئيس حسني مبارك مسؤولية ملء الشغور ويتم انتخابه بعد ذلك لرئاسة الجمهورية، ويبدو من أول تحركاته أنه يريد أن يمحو سلبيات الرئيس الراحل، وهكذا يُطلق سراح الآلاف الذين شملتهم اعتقالات سبتمبر، وكان من بينهم محمد حسنين هيكل وفؤاد سراج الدين، ويستقبل المفرج عنهم فورا في قصر الرئاسة، ثم يأخذ قرارا يُسجّل له ويحسب لصالحه خصوصا وأنه لم يتراجع عنه إلى هذه اللحظة وهو عدم القيام بأي زيارة لإسرائيل. وتتصرف الجزائر في التعامل مع مصر بكرم الأخوة ونبل التصرفات، وكان كل هذا يتم بدون تعليمات مباشرة من السلطات العليا، لأن الأخلاقيات في الجزائر لا تحتاج إلى تعليمات.