السؤال الذي طرحه الأستاذ الزاوي الأمين عن واقع الكسل الذي يميز المثقف الجزائري المعرّب، بالمقارنة مع المثقف الجزائري المفرنس، سؤال وجيه، لا يمكن أن يطرحه إلا من كان في قامة واستقلالية مدير المكتبة الوطنية السابق وصاحب الإصدارات الإبداعية العديدة باللغتين العربية والفرنسية، كما لا يمكن أن يصدر هذا السؤال "الجارح" إلا من مثقف غيور على اللغة العربية، بقدر تمسكه بالفرنسية كلغة إبداع ووسيلة انفتاح على الآخر هنا وهناك? وبداية يمكن الجزم بأن الملاحظة "الجارحة" من قبل الأستاذ الزاوي لا يمكن أن تثير أي رد فعل سلبي لدى المثقف الجزائري المعرب، لكون المصدر لا يعاني عقدة نقص تجاه المعربين ولا المفرنسين، كما أنه، كما هو معروف عنه، يجيد العلاقات العامة بالقدر الذي يسمح له السمو فوق الفروقات الإيديولوجية، فضلا عن اللغوية، وهو من هذه الناحية فوق الشبهات والظنون? وإذا كان من غير الممكن الإجابة على الإشكالات التي طرحها الأستاذ في هذه العجالة، فإنه من الجائز مناقشة بعضها وتقديم بعض الاقتراحات للفهم والمقاربة لإدراك الوضعية السلبية التي يوجد عليها المثقف الجزائري المعرب، رغم وجود "القاريء" المعرب كما يتبين من مقروئية الصحف، كما يمكن أيضا تلمس بعض الأسباب والمبررات أو الحوافز التي تجعل المثقف الجزائري المفرنس يبادر، بينما زميله أو نظيره في "المجتمع الآخر" يركن إلى الكسل وينظر إلى "القطار يمر أمامه" كالبقرة، حسب التعبير الفرنسي. وإذ نقر مع الدكتور الزاوي بنظرية الأستاذ الدكتور جمال غريد بأن الجزائر يعيش فيها مجتمعان متجاوران، مجتمع مفرنس ومجتمع معرّب ينموان ويتطوران بالتوازي، فإننا نسجل أيضا أنه بينما يزداد المجتمع الأ تمكنا وتحكما وانحسارا عدديا، فإن الثاني يزداد تضخما وتأخرا واستقالة، ولعل الأستاذ الزاوي لم تغب عنه وهو المتابع، رواية الصحفي المعرب عبد العزيز غرمول "الأقلية الساحقة" على الأقل كما قرأتها أنا وكما قرأها قراء العربية. الفعالية والجراءة كما هو معروف عبر التاريخ شكلت دائما وأبدا ميزة من ميزات الأقليات، وهي بقدر ما تعبر عن رد فعل طبيعي لحماية "الهوية والذات"، فإنها مدعاة وحافز لبذل جهود مضاعفة للتعويض عن النقص العددي، ويكفي في هذا الباب الإشارة إلى اليهود الذين نبغوا في كل المجتمعات التي عاشوا فيها (الإسلامية، الغرب، السلافية??)? كما لا يفوتني في هذا الإطار التنبيه إلى سقف التآزر والتضامن العالي بين الأقليات كوسيلة من وسائل الدفاع عن الذات وتجاوز واقع الأقلية? إن حقيقة المقروئية في الصحافة العربية، إنما تعبر في الواقع عن صحة نظرية الرئيس بومدين رحمة الله عليه حينما رفض الدخول في صراع مكشوف مع "المجتمع الجزائري المفرنس" واكتفى بزرع القنبلة الموقوتة في المدرسة، وهي الثمار التي بدأنا نجنيها وبدأت تتجلى من خلال أرقام السحب التي تعرفها الصحافة المعربة، وتقلص مثيلتها في الصحافة المفرنسة، لكنها ما تزال هي المؤثرة والفاعلة بحكم انتمائها إلى مجتمع "الأقلية الساحقة" بحسب عبد العزيز غرمول? الرئيس بومدين والدولة الجزائرية راهنا على زراعة أفقية عبر مدن وقرى ومداشر الجزائر كلها بالاعتماد فقط على ما تجود به الطبيعة من ماء وشمس وهواء الجزائر دون اللجوء إلى المخصبات والمنشطات والأسمدة الصناعية، فجاءت الغلة كثيرة وعلى مساحات شاسعة، بينما "المجتمع الآخر" راهن على زراعة بلاستيكية مكثفة تنمو على السماد الصناعي والمبيدات الحشرية، فجاءت الغلة غزيرة ومكثفة ولكنها محدودة واصطناعية ومعرضة للكثير من الأمراض والأوبئة، كما أن استهلاكها المكثف ليس آمنا وتتهمه الكثير من المخابر الطبية في التسبب بأمراض السرطان، حفظكم الله? الاستثمار في الإنسان أفقيا كان هو الاختيار الاستراتيجي للدولة الجزائرية، وقد أعطى أكله كما نرى في مقروئية الصحافة المعربة الجزائرية، ولربما قد حان الوقت أن تشرع الجزائر في الاستثمار العمودي، وعندها سنكتشف أن الكاتب الجزائري المعرب والقاريء الجزائري المعرب بإمكانهما أن يرتقيا بالكتابة والقراءة إلى المستويات التي يرغب فيها الدكتور الزاوي، ورغبته مشروعة ولا تدل سوى على غيرة صادقة وهمّ وإدمان وانشغال بالشأن الثقافي الجزائري العربي. كنا نتمنى ونحب، أن يتم تتويج الصحافة الجزائرية المعربة من خلال طرق وأساليب أخرى، وأن يكون ذلك مرادفا للنوعية والاحترافية وأشياء أخرى كثيرة، ولكن هل كان ذلك ممكنا أولا، وهل بالإمكان ربح معركة الكم والكيف في ذات الوقت..هل بالإمكان صنع العجة دون كسر البيض، كما يقول الفرنسيون? لقد مرّ زمن على هذه الصحافة الجزائرية المعربة، كان السؤال المطروح، هو هل ستجد لها مكانا بعد العشرية السوداء، وهل سيبقى وجود للحرف العربي ولو بمضمون مناهض للعربية بعد أن حصل ما حصل للمعلقات العشر، وها هي الأيام في أقل من عشرية من الزمن تثبت أن المخاوف في غير محلها، وأن ما غرسه بن بلة وبومدين من بعده، لن يزول بزوال الرجال والحكومات، وأن ما يقوم به الرئيس بوتفليقة اليوم، من الاستثمار العمودي في مدارس الامتياز هو الخطوة الحاسمة التي ستخرج العفريت الجزائري المعرب من القمقم كما يقولون. تبقى قضية الحداثة التي أعرف أن الدكتور الأمين الزاوي من روادها في الجزائر وأنها تشغل حيزا هاما من تفكيره، وأقر بداية للدكتور أنني آسف مثله، أن تحقق الصحافة الجزائرية ما حققت في جانب منه إلى الشعوذة والتلاعب بأمور الدين، بل وأقول بإفساد الدين، وهو أمر خطير وخطير جدا على أمن البلد الثقافي والديني وعلى تماسك الوحدة الوطنية، وأود في هذا الباب أن أضم صوتي الضعيف المبحوح إلى صوته، ولكني بذات الوقت، لا أملك إلا أن أشير إلى أنه إذا كان "المجتمع الجزائري المعرب" قد بقي مغلقا ومستعصيا على الحداثة، فذلك لكون الذين تصدوا إلى عصرنة المجتمع ورفعوا شعار التحديث لم يكونوا أبدا خلال الفترة الأخيرة على الأقل، من "المجتمع الجزائري المعرب" وإنما من "المجتمع الجزائري المفرنس" وهو ما حال دون تقبل "الأغلبية" العددية المسحوقة لتلك المبادرات ولو كانت صادقة. "الجزائر العربية" لم يكتب لها عبر تاريخها أن تتوفر على جامع الزيتونة أو الأزهر أو حتى القرويين لتعرف تحديثيين عصرانيين من أمثال الطهطاوي ورشيد رضا وحسين عبد الرازق خريجي الأزهر، كما لم تتوفر على رئيس مثل الرئيس بورقيبة خريج الجامعة الفرنسية ومناضل الحركة الوطنية الذي حقق الإستقلال. منذ الداعية المصلح عبد الحميد بن باديس لم تعرف الجزائر رجل دين تثق به ويتوفر على المصداقية الكافية، وبذات الوقت يكون داعية للعصرنة والتطور، ولذلك فإن المجتمع الجزائري المعرب بقي متحفظا وفي موقف دفاعي تجاه كل محاولات التحديث المحتشمة التي يرى فيها رديفا للإختراق. كما لا أخال الأستاذ الزاوي يغيب عنه أن محتوى اللغة العربية كان ولا يزال مصبوغا بمحتوى ديني، مما يفسر جزئيا على الأقل الموقف المحافظ للمثقف الجزائري المعرب، ليس فقط للطبيعة المعرفية ذاتها، ولكن أيضا، بالنظر إلى ما رافق " الصحوة الاسلامية" من عنف وإرهاب، جعل المعرب متهما حتى تثبت براءته، على الأقل في نظر " الأقلية الساحقة". الشكر كل الشكر للدكتور أمين الزاوي على سؤاله "المحرج"، والشكر كل الشكر للأستاذ نذير بولقرون إن هو رأى أن هذه الوريقات جديرة بأن تظهر على صحيفة "صوت الأحرار".