وأنا أعيد قراءة رواية مالك بن نبي (1905 - 1973) "لبيك" المكتوبة بالفرنسية كبقية مؤلفاته الأخرى والمنشورة سنة 1947 تساءلت لماذا الرواية جنس أدبي مغر ومورط؟ فلا أحد من كبار المثقفين والمفكرين استطاع أن ينفذ من شركها، من مالك بن نبي مرورا بعبد الله العروي وهشام شرابي وعبد الكبير الخطيبي وإدوارد سعيد، وقبلهم طه حسين والعقاد وغيرهم، وكأن الكتابة النقدية العقلانية الباردة قاصرة على إيفاء المعنى حقه وإرواء العطش.. * * (الحلقة ال: 5 من "الكتاب الأبيض للثقافة في الجزائر) * * عطش القارئ والكاتب في الوقت نفسه. إعادة قراءة هذه الرواية التي لا يعرف عنها كثير شيء من قبل القراء أو المتخصصين في مالك بن نبي وهم كثر، ولست واحدا منهم، هو أمر جرني إلى طرح إشكالية أخرى خاصة بالمثقفين وبالفضاءات الثقافية وبعطب تأسيس الرمزية الثقافية في بلادنا. * * وأنا أعيد قراءتها استعدت قليلا من شخصية هذا المثقف الذي وإن كان لنا اعتراض على بعض أفكاره السياسية فإن المثقف والأديب في مالك بن نبي يفرض عليك احتراما كبيرا. * * ما هو نموذجي واستثنائي في شخصية مالك بن نبي ليست أفكاره فقط إنما سلوكاته ومسلكيته وطريقة تعامله مع الحياة ومع الفكر ومع الثقافة والمثقفين. حين شعر مالك بن نبي بالحصار والاختناق من محيط لم يكن يقاسمه همومه الفكرية والحضارية انسحب وتقاعد وأعطى نفسه ووقته للعمل الفكري. * * عاد مالك بن نبي إلى بيته وفتح ندوته الأسبوعية للأدباء والمثقفين والسياسيين والطلبة. وعلينا أن نتصور مقدار شجاعة هذا المثقف وفي تلك الظروف السياسية الواحدية، وهو يجعل من بيته ومن أسرته امتدادا طبيعيا للمجتمع الثقافي وللعمل الجماعي. بذلك كانت حياته الأسرية وحياته الثقافية الفكرية متواصلتين ومتكاملتين. لم يكن فيه نفاق المثقف الذي يكون ثوريا في الشارع ويخلع نعلي الثورية بمجرد تجاوز عتبة البيت نحو الداخل. * * كان مالك بن نبي وهو ينظم ندوته في بيته يناقش فيها أمور الحضارة واللغة والدين واللائكية و التاريخ والعلم والوقت والديمقراطية والثقافة والعولمة والتخلف والاستعمار والعدالة والكرامة والإنسان والموت والحياة والأسرة وإلخ... كانت هذه الندوة تقام في بيته مرتين في الأسبوع، مرة باللغة الفرنسية حيث يلتقي المثقفون ورجالات الفكر والساسة لمناقشة أمور لها علاقة بالتاريخ أو السياسة أو الفلسفة أو الدين، وفيها يكون الحديث والحوار باللغة الفرنسية، ومرة ثانية تقام باللغة العربية إذ يجيئها المعربون لتدارس ومناقشة ذات القضايا وبنفس العمق والهم والاهتمام. * * ماذا يمكن أن نتعلم من هذا السلوك، وكيف يمكن قراءة ما كان يقوم به مالك بن نبي في الستينيات؟ * * إن مثل هذه الندوة لها دلالات عدة: * * استعمال اللغتين: إن استعمال اللغتين (العربية والفرنسية) مع تناول المواضيع نفسها وبذات المقاربات وفي المكان نفسه ومع المنشط نفسه مع اختلاف الحاضرين يسعى إلى خلق مجتمع ثقافي وفكري متوازن لا يفضل فيه مثقف يستعمل لغة على مثقف آخر يستعمل لغة أخرى. وكأن الندوة كانت تريد أن تقول لنا ليس هناك مثقف من الدرجة الأولى (حال المثقف بالفرنسية) ومثقف ينتمي إلى (بيرو عرب) (من الدرجة الثانية حال المثقف بالعربية). كما أن الندوة كانت تريد أن تقول إن ليس هناك فضل للغة على أخرى فجميع اللغات قادرة على أن تكون حاملة للعلم والإبداع والحوار الفكري العالي. كما أن الندوة تريد أن تقول إنه على المثقف الحقيقي أن يتعلم لغة تستعمل في بلده، لأن ذلك هو الذي يجعل هذا المثقف قادرا على التواصل الحقيقي غير الكاذب والباهت مع الانتلجاسيا الوطنية والعامة من الشعب على السواء. لنعرف أن مالك بن نبي كان ينظم هذه الندوة على يومين وبلغتين وهو المثقف المفرنس الذي لم يستسلم لعجزه اللغوي. * * كانت ندوات مالك بن نبي أيضا صورة للقاء وتلاقي المثقفين الجزائريين باللغتين العربية والفرنسية، وأعتقد أن هذه المسألة لا تزال قائمة حتى الآن. إن مجتمعا ثقافيا مزدوج الواقع اللغوي، وهذه حقيقة لا بد من إقرارها والتسليم بها، مجتمع كهذا علينا أن نبحث بقدر الإمكان على ممرات الحوار المشترك والنقاش المباشر وإلا سقطنا في مرض ثقافي لغوي يتشكل من ورائه مجتمعان متمايزان وغير متعارفين، وسلفا على خصومة وعداء من باب الجهل والتجاهل، مجتمع فرنكفوني ومجتمع عربوفوني. لذا فإن المجتمع الثقافي الجزائري اليوم يحتاج إلى منشطين ثقافيين من قامة مالك بن نبي سلوكا (بغض النظر عن أفكاره) كي يجمع الجميع في نقاش جديد لجزائر جديدة ومتطلعة إلى الأمام. * لعل أخطر ما نعيشه اليوم في الجزائر الثقافية هو غياب جسور الحوار بين المبدعين مع صعود جيل جديد من الكتاب بالعربية وجيل يفاجئنا باللغة الفرنسية متميز وجاد في كل مرة نعتقد فيها بأن الكتابة الإبداعية باللغة الفرنسية قد انتهت وأنها مسألة أجيال، وأن موت الكتابة باللغة الفرنسية في الجزائر قضية قائمة ولا مرد لها. أمام هذا الصعود في المجالين الثقافيين والإبداعيين باللغتين العربية والفرنسية وتنوع وغنى كل فصيل، نحتاج إلى جسر بين الضفتين حتى لا تتسع الهوة، وهي في طور التوسع، لتصبح ذات صباح بحورا مليئة بالحيتان والأمواج العاتية المغرقة. إن ما نلاحظه اليوم على مستوى بعض ما يقدم في الإعلام الجزائري من حصص تلفزيونية في الثقافة والأدب والفنون يعطي صورة عن هذه الجزائر الثقافية المكونة من شعبين، شعب بمرجعيات غربية وبسلوكات معينة وبإرادة حازمة وحاسمة، وشعب آخر بمثقف معرب بئيس ومنكسر ومكسور وذليل وبمرجعيات تنم عن هزيمة وانهزامية. ولأقرب الحديث أكثر لنلاحظ مستوى النقاشات التي تقع في بلادنا، خاصة في وسائل الإعلام العمومية، بين حلقات نقاش بالعربية وتلك التي تجري باللغة الفرنسية ندرك البون والفرق الشاسعين بين الحلقتين وبين المقاربتين، ومادة بناء الملاحظة ترتكز على ما يقدم، مثلا، في بعض الحصص الثقافية أو الأدبية في شاشتنا العمومية بين ما يقدم في القناة بالعربية والقناة بالفرنسية، تقف أنت المتمعن في الظاهرة وكأنك في بلد بشعبين متباعدين في الحضارة وفي السلوك، شعبين لا يجمع بينهما سوى صوت رفع الآذان إذا ما حصل وجاء موعده في هذه الحصة أو تلك. تشعر وأنت تتابع وكأن بلادنا الثقافية تعيش زمنين حضاريين لا تفصل بينهما اللغة المختلفة وفقط بل يفصل بينهما الفارق الحضاري الشاسع والذي يقاس بالقرون. * لننتبه جيدا إلى هذا الواقع الثقافي الذي يواصل شرذمة وتقسيم المثقفين ويجعلهم في كانتونات ثقافية ولغوية مريضة ستجر، مستقبلا، كثيرا من التعب والتراجع على الأمة بأسرها. * وأنا أعيد قراءة رواية "مالك بن نبي" وأستعيد ندواته التي نقلها معه حين رحل إلى دمشق بحيث لم ينقطع عنها بل واصلها هناك بين مثقفي الشام الذين لا يزالون يكنون له الاحترام الثقافي والفكري الكبير، لست أدري لماذا تذكرت كيف أن المثقفين في سوريا لم يتنازلوا في ظروف كانت صعبة سياسيا مع نظام أحادي قمعي، لم يتنازلوا عن حقهم في فضاءاتهم التي تمثل جزءا من ذاكرتهم. الذين قرأوا أو عرفوا قليلا أو كثيرا تاريخ الفضاءات الثقافية في العالم العربي وخاصة في بلاد الشام يدركون أهمية "مقهى الروضة" و"مقهى الهافانا" بالنسبة للمثقفين السوريين و للدمشقيين على وجه الخصوص، وما يمثله هذان المقهيان من رمزية لدى المثقفين في دمشق وسائر بلاد الشام. والحكاية أن أحد التجار اشترى من "ماله الخاص" مقهى الهافانا وحول نشاطه من مقهى المثقفين إلى محل لبيع الملابس. وهذا من الناحية التجارية أربح وأكثر مردودية مقارنة مع مقهى ثقافي بزبائن نصفهم لا يملك ما يدفعه ليعيش إلى نهاية الشهر. ولكن المثقفين آنذاك وقفوا وقفة واحدة صلبة ضد الإساءة إلى فضاء رمزي كان يجلس فيه المبدعون والمفكرون والسياسيون من أمثال: زكي الأرسوزي ونزار قباني وحيدر حيدر وممدوح عدوان وبدوي الجبل والجواهري وسليمان العيسى وعلي الجندي وأحمد الجندي وهاني الراهب و... لم يتنازلوا عن حقهم في مكان كان لهم، فيه يتناقشون ويتخاصمون ويتمادحون ويتذامون وتلك خاصية الأدباء والمثقفين، ولم يقبلوا أن يصادر المال منهم مقهاهم ولو كان ذلك خاصا ونظاميا من الناحية القانونية، فاجتمع المثقفون وأرسلوا خطابا إلى رئيس الجمهورية آنذاك. وقامت حركة ثقافية وحوارات جادة عن مفهوم الحرية والمال والثقافة والمثقف، حوارات كان سببها الظاهر المقهى ولكنه في عمقه كان دفاعا عن الرمز والرمزي. إذ لا توجد ثقافة دون صناعة الرمز. ولعل ما يخيف الأنظمة الاستبدادية هو ظهور رمز في السياسة أو الثقافة أو الفكر. وبعد نقاش حاد وطويل كان دون شك مثمرا للثقافة والفكر وللمثقفين والمبدعين تم التراجع عن بيع المقهى وعاود الفضاء نشاطه الأصلي. وبذلك استعاد مقهى الهافانا رائحة القهوة بالهيل والشاي الممزوج بحرارة النقاشات واستعاد المثقف والمبدع حقه في فضاء رمزي في مدينته. * وأما عندنا فقد كان فضاء مقهى "اللوتس" رمزا من رموز فضاءات الثقافة ومكانا يحمل كثيرا من تاريخ المثقفين في الجزائر العاصمة والمثقفين القادمين إليها سواء من المدن الداخلية أو القادمين من البلدان العربية والأجنبية. وكما حصل لمقهى "الهافانا" بدمشق حصل لمقهى اللوتس بالجزائر العاصمة، ولكن ما حصل في سوريا من دفاع المثقفين عن ذاكرتهم وأماكنهم الرمزية لم يحصل في بلادنا، وإذا كانت الهافانا قد عادت إلى المثقفين فإن اللوتس حتى اليوم لا تزال تبيع الألبسة وقد فقدت ألقها، وفي فقدانها فقدنا جزءا كبيرا من ذاكرة الثقافة الجزائرية. هذا المثل يؤكد لنا بأن القوة ليست هي المال ولا فيه حين تكون هناك انتلجانسيا قادرة ومتفهمة وناقدة، ويعلمنا أيضا بأنه وبقدر ما يكون للمثقف حضور في الفضاءات العامة وبسلوك فاعل فإن استعمال المال يكون خاضعا للحضارة ويساهم في بنائها. البلد الذي فيه وجود حقيقي وفاعل للمثقف فيه وجود حقيقي للمثقف يأخذ المال فيه تجليات تخضع للذوق للثقافي. * وأعود إلى مالك بن نبي وإلى ندوته التي كان يقيمها في بيته لأتساءل: * من هو المثقف اليوم في بلادنا الذي يستطيع أن يفتح صالونا أدبيا في بيته كما فعل ذلك مالك بن نبي قبل أربعين سنة؟ من يتجرأ من مثقفينا الذين يدعون أن لهم كسرا في الثقافة والإبداع ولهم المال ولهم بيوت وفيلات واسعة فيحول ركنا منها إلى ندوة مفتوحة للنقاش الحر؟ لا أعتقد أن المشكل يكمن في الجانب المادي لكن العطب كامن في ذهنية المثقف نفسه وفي شكه في سلطته وفي قوته. فالمثقف الجزائري غير قادر على ذلك لشيئين اثنين يتمثل أولهما في كونه ما زال لم يفهم بعد معنى الرمزية، رمزية الفرد المبدع، ودوره في تاريخ الرأسمال المثقفي، أما ثانيهما فيتمثل، وهذا هو الأدهى، في كون المثقف الجزائري لم يتخلص بعد من التفكير الرعوي بحيث أنه يعيش زمنا جديدا بعقلية قروسطية.