هل يكفي أن نقول إن أمر الخريطة السياسية عجيب في هذه الدنيا؟ نحن نعرف حق المعرفة أنها ما انفكت تتقلب عبر الأزمنة والأمكنة، وقد نقوم بتحليل عناصرها طمعا منا في وضع أيدينا على حقائق نجهلها، غير أنها تفلت منا تماما مثلما تفلت السمكة في قاع البحر من أيد الغواصين المهرة. وبالفعل، فهناك شعوب تصغر وتتصاغر في هذه الدنيا، بينما تكبر شعوب أخرى حتى إن الظن ليذهب بنا إلى أن أمثال هذه الشعوب لا دخل لها في مصائرها. المغول والتتر وأهل القوقاز، بل واليونانيون، القدماء منهم والمعاصرون، طوحت بهم أمواج السياسة والتاريخ، وغاب معظمهم عن هذا الوجود. ولولا أننا نسمع بين الحين والآخر أن انتحاريا فجر نفسه في هذه الجهة أو تلك، لما بلغنا شيء عن بقايا تلك الشعوب. التتر جاؤوا من أعماق آسيا ودمروا الممالك والحضارات، ثم غيبهم التاريخ. وكذلك فعل المغول الذين قدموا من نفس القارة، فهم أيضا اندثروا، ولم يبق منهم سوى الاسم، أو اسم زعيمهم وقائدهم المبجل تيمورلنك. بل إن شعوب الشيشان، بما فيها أهل القوقاز، أولئك الذين كانوا الحرس القوى لقياصرة روسيا خلال القرون الماضية، غاب ذكرهم في زحمة التاريخ. أما عن اليونانيين القدماء فلا نحسب أن هناك صلة بينهم وبين الذين جاؤوا من بعدهم على نفس الأرض. شمال اليونان الذي كان يضم مقدونيا في يوم من الأيام، ما عاد يحمل بين طواياه رجلا مثل الملك فيليب أو الإسكندر، بل تحول إلى منطقة عصفت بها الحرب الأهلية وحاول الصرب ابتلاعها. ونحن نتعلم من مراجعة التاريخ والدراسات الأنثروبولجية وخريطة توزيع فئات الدم عبر مختلف قارات العالم أن البشرية تجدد أنساغها في كل مرة، وهي مع ذلك كثيرا ما تقضي على نفسها بنفسها، وليس أدل على ذلك من الحربين العالميتين اللتين شنتهما في مدة زمنية لا تتجاوز الخمسين عاما، فضلا عن الحروب الاستعمارية البشعة ومخلفاتها. لكن حين يجري الحديث عن شعوب مثل التتر والمغول والشيشان وغيرها ننكفىء على أنفسنا لأننا لا نجد تفسيرا للتقلبات التاريخية التي عصفت بمثل تلك الشعوب. عبد الرحمن بن خلدون يعلمنا بدوره أن الحضارة عبارة عن مراحل هي أشبه ما تكون بمراحل العمر الإنساني، وينتهي الأمر بها إلى الزوال. غير أن الأحداث الأخيرة التي عصفت بداغستان وبلاد الشيشان وغيرها كفيلة بأن تستحثنا على التفكير في أمر الشعوب التي غاب صيتها مدة من الزمن، وعادت اليوم لتضع قدما راسخة في زمننا هذا.