الرحلة تتوالدُ، وطرق المعرفة أو الجهالة تتوالدُ أيضا، وأنا العارف أو الجاهل أستمرُّ في السلوك لعلَّ الرحلة تستفيق ذات يوم فأنام، أو أستفيق ذات حلمٍ وتنامُ هي، أو ربما سنخلد معا إلى النوم ليستفيق داخلي الاستقرار. هكذا ترتبط المعرفة بالسفر ويرتبط الجهل به كذلك، لأنّ المسار لا يسلك بنا نحو عين المعرفة إلا ليرِد بنا آبار الجهل، وليس هناك تناقض إطلاقا بين جهلنا ومعرفتنا، لأننا نجهل ما يعلم الآخرون وقد نعرف ما يجهلونه، إذن لا داعي لذمِّ الجهل كثيرا لأنه من مقوماتنا الأساسية، وهو الطريق الأول إلى النور الثاني، والرحلة معرفة وجهل، لأنها امتداد نحو المجهول وارتداد منه، والمجهول ذاته معرفة أحاط به جهلنا فصار في حكم الغيب إلى أنْ يُعرفَ، أو تبلغ جهالتنا إليه. إذن هل من المعقول أنْ نقول :جاهل وعالم، أو ربما علينا أنْ نتوقف كثيرا حتى ندرك أنَّ أكثر ما نعرفه كنا نجهله قبل ذلك، وأكثر ما نجهله سنصير ذات وعي نعرفه، هكذا أفهم على الأقل أنا الجاهل بأكثر ما يحيط بي، بل ليس من هواياتي أبدا أن أتعجل في معرفة الأشياء، ربما سأتركها غامضة إلى أن يلمّ بذاتي النور الغائب هذه اللحظة. سأسمح لنفسي أنْ أقول: الجهلُ يتوالد، ولن أخجل أبدا بأنني أتسكع في متاهاته أبحث عن معرفة ما، إذن، هذه هي الثلاثية الغامضة: المعرفة، الجهل، التسكع، هذا الأخير يعني هذه المرة: السفر أيضا، ببساطة، لأنني مسافر، والسفر قطعة من العذاب كما نص الحديث، ومع هذا فأنا أكتب هذه الهلوسات في الحافلة، ولا أعرف حقا، وهذا من جهالتي، هل من اللائق أنْ أكتب في هذه الآلة المتنقلة التي تُشعرني اهتزازاتها أنني على ظهر ناقة، قد تكون البسوس المسنة -قبل أن تصيبها غيرة كليب في ضرعها-، يقولون عصر السرعة، وأكرر: السفر قطعٌ كثيرة من عذاب، والسفر يُهدّد معارفي ويهدّد جهالتي أيضا، ربما لأنه يرمي بكثير من المعرفة في الطريق، ويحمل كثيرا من الجهل من الطريق، مفارقة عجيبة والله، أنا على ظهر حافلة أو ناقة البسوس العصرية لكنني أزداد معرفة وأزداد جهلا في الوقت ذاته، وشعوري وأنا في الحافلة ليس جميلا على أي حال لكنه يُبشِّر بمعارف أرضية بالغة، على العكس تماما، أتذكَّر أنَّ شعوري على ظهر طائرة مختلف جدا، ولا أعرف إن كان مسموحا أنْ أسميها البرق لأنها تأكل المسافة والزمن بطريقة رهيبة، لكنَّ الكتابة في الطائرة مختلفة جدا كذلك، لأنها تجعل جزءا كبيرا من مخيالنا الأرضيّ يتعطَّل، مثلا لن تستطيع تشبيه جراحك بالبحر، ولا حتى بالغيوم، لأنَّ هذه الأخيرة تقبع تحت قدميكَ مباشرة، الغيوم جميعها: الحزينة والعاشقة والشقية والمتمردة، الكريمة والبخيلة، كلها تحتَ قدميك تحلق ببطء ورتابة، يا حسرة الشعراء على التشبيهات التي أزهقوها في وصف هاته الغيوم البطيئة التي أراها تحتي مباشرة، إذن، هي ''التحت'' وأنا''الفوق''، يا له من شعور سماوي راااااااائع. في الطائرة كنتُ أحمل معي كتاب ''منطق الطير'' لفريد الدين العطار النيسابوري، ولا أخفي أنني تمنيتُ أن أصبح طائرا إلى الأبد، وأنْ أحلِّق دون انقطاع، أبحث عن المعرفة السماوية وأتخلَّص من جهلي الأرضي، ولا أدري إن كان هذا من تأثير الكتاب فقط، لكني خفتُ حقا أنْ يحدث لي ما حدث للوكيوس أبوليوس، في''الحمار الذهبي''، يا للمهزلة، قيلَ أنه حمار حامل للمعرفة، يعني: حمار مثقف، وبعد...، أليس الحمار حمارا سواء أجرَّ العربات أو حمل الأسفار والمخطوطات، هو حمار، لكن أبوليوس من سوء حظه لم يعش معنا، وإلا لكان طار بسهولة، التذكرة مكلفة قليلا، لكنني أفضل الجهل على ''الإستحمار المعرفي'' أو هكذا أسميه، أنا الجاهل المتواضع، لأنّ هناك جاهلين متكبرين مثلما يوجد عالمون متكبرون أيضا. سمعتُ مؤخرا أنّ حميرا ظهرتْ تدَّعي المعرفة، لكنها ليس من ذهب، وليستْ من فضة ولا حتى من نحاس، هي حمير من لحم ودم وفي أفواهها سيجارة ''المالبورو''. آآآآآآآه ما أجملَ الكتابةَ والتحليق، إنها تجعلنا أكثر حرية وأكثر خفة، ولكنني هذه المرة في حافلة، وأنا عائد إلى الجنوب، إلى بيتي، طبعا لنْ أتجرأ فأحلمَ بأنْ أصير طائرا، ولكنني أتمنى أنْ أصبح ريحا مجنونة، أنا الجنوبي لا كذب، لأنني أعود إلى صحرائي في كل مرة أنوي أنْ أفارقها إلى الأبد، ومع هذا فأنا أعيش المفارقة-كالجنوبيين جميعا-كلما قررتُ توجيه ناقتي إلى الشمال، نحن نحملُ في أعماقنا حرارة الرمل ورائحة ''الشِّيح'' ويبس الصحراء، يعني أننا نحمل الجفاف، ونحمل العطش على جميع الأصعدة، وبعضنا يحمل الشوكَ أيضا في قلبه، هل يُعقلُ هذا!!!!!؟؟ نعم، على الأقل هذا الأخير أنبتَ قلبُه شوكا، هناك من لا يُنبت إلا الفراغ والعدم، الشوك أمر مبشر إلى حدٍّ ما. عندما أكون في الشمال، كثيرا ما تتخاصم حبَّات الرمل مع حبات الندى، أي يتخاصم الماء مع التراب، والخصوبة مع التصحُّر، وزهر الشمال مع شوك الجنوب، بَيْدَ أني أشعر أنّ كل هذه الأطراف المتناحرة تجهل قيمتها وقيمة غيرها، كلُّ هذا يحدث في داخلي وأنا أتفرّج كالعادة، لقد توقفتُ عن تمثيل دور الحكم، لا مصالحة إذن بين النقيضين؛ الرمل جاف وخشن والماء نديٌّ ورطب، غير أنَّ الجميل أنني أحملهما معا في داخلي، أنا مائيٌّ ورمليٌّ، أو جنوبيٌّ وشمالي، والتناقض ليس عيبا، هو مجرد جمع بين مجهولين يرفضان التعارف والتصالح، أو بين معروفين يفضلان تجاهُلَ بعضهما لغاية مجهولة أو معروفة، من يدري، لا أنا ولا الجنوب نعرف السبب. ''الرياحُ جنوبية، والرياحُ شمالية'' في الآنِ نفسه، هكذا هو حال أبناء هذه الصحراء الواسعة كالمودَّة، والقاسية ''كجلمودِ صخر حطَّه السيلُ من علِ''، إنها قاسية ومحبَّةٌ لأبنائها، صفراء كالضحكة الخبيثة لكنَّ قلبها أبيض كالثلج، هكذا قالتْ: جدتي على الأقل...