وصلت دبيْ ليلا وغادرتها فجرا وكنت طوال الأيام التي قضيتها في الإمارة – المدينة أسيرَ فندق »أتلانتس« الذي عقدت فيه الدورة التاسعة لمنتدى الإعلام العربي، وبالتالي فسيكون حديثي عمّا عشته وشاهدته واستنتجته. ولعل الاستنتاج الأول تأكيد لما قلته أكثر من مرة من أن منطق الدول الكبيرة والدول الصغيرة يجب أن يزول من القاموس العربي، وفهم الكثيرون في دول الخليج أن كِبر الدولة لا يُقاس بحجمها السكاني أو بمساحتها الجغرافية وإنما بالدور الذي تقوم به، ولو مرحليا، خدمة للأمة وتحقيقا لمطامح شعوبها، وأتصور أن الدور الذي تقوم به الإمارات، ودبيّ على وجه التحديد، يمكن أن يوضع في هذا الإطار. ودبي هي الإمارة الثانية من مجموع دول الإمارات السبع، والتي كانت من إمارات الساحل المتصالح، وتألقت الإمارة، التي يمثل السكان الأصليون فيها نحو عُشْر سكانها، بالموقف الرائع الذي اتخذته في قضية اغتيال المناضل الفلسطيني محمود المبحوح، حيث لم تتردد عن التشهير بإسرائيل في كل المحافل، بينما خجل من يدعون أنهم كبار من التنديد بعمل أثار استهجان العالم كله. ثم كانت فكرة جائزة الصحافة العربية التي أطلقها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات وأمير دبي وتم على ضوئها وفي إطارها اللقاء الذي جمع عددا من كبار الإعلاميين في الوطن العربي، بحثوا، عبر ندوات حوارية في أهم فنادق المدينة، عددا من القضايا التي تشغل بال المثقف العربي، وكان في طليعتها ندوة تحدث فيها العالم المصري المرموق الدكتور أحمد زويل، وأدارها الإعلامي المصري المتميز أحمد المسلماني )قناة دريم -2( كما كان من بينها ندوة تناولت العلاقات بين المشرق والمغرب العربي، وأدارتها الإعلامية الجزائرية وسيلة عولمي )فضائية الجزيرة( واختتمت الندوات بلقاء عُقد، كالجلسة الافتتاحية، تحت رعاية الشيخ محمد راشد آل مكتوم وبحضوره،وجرى في هذا اللقاء تكريم عدد من الإعلاميين العرب في شتى فئات العمل الإعلامي، وكان التجديد الذي عرفته هذه الدورة هو قرار مجلس جائزة الصحافة العربية وللمرة الأولى إعطاء جائزة خاصة للعمود الصحفي في المغرب العربي، وهكذا ستذكر دبيّ عند كل تكريم يجري بعد ذلك لواحد من أشد مجالات الإعلام صعوبة،في منطقة يتصور البعض أنها لا تعرف اللغة العربية، وهي التي أنجبت ابن آجروم وابن معطي الزواوي. والواقع أن تعبير العمود لم يكن يعرف إلا في المجال الفقهي وفي مجال الجامع الأزهر على وجه التحديد، حيث كان لكل من كبار مشايخه عمود يعرف به ويجلس إليه على كرسي مرتفع وحوله حلقة من طلاب العلم يستمعون ويتساءلون، وعرفت هذه الحلقات واحدا من أهم مثقفي القرن العشرين وهو الدكتور طه حسين، ولا أعرف ما إذا كان الأمر بالنسبة للأعمدة هو نفسه في كل من الزيتونة والقرويين. أما العمود الصحفي فقد برز أساسا في الصحافة المصرية التي يعود الفضل في انطلاقتها في مطلع القرن العشرين إلى عدد من اللبنانيين، من بينهم سليم وبشارة تقلا وأنطون الجميل، وعرف أسماء بارزة في دنيا الإعلام كان من بينها أحمد بهاء الدين وأحمد الصاوي محمد ثم علي أمين وأنيس منصور وسلامة أحمد سلامة وجهاد الخازن وسمير عطا الله وعرف في الجزائر سعد بو عقبة ومحمد عباس وعبد العالي رزاقي وبلحيمر، وآخرون كثيرون لا يكفي المجال لحصرهم. وانتشر العمود الصحفي لأنه كان جرعة إعلامية موجزة تنقل للقارئ أفكارا محددة في أقل حجم ممكن من الكلمات، ومن هنا قلت يوما أن العمود مقال يشترك في كتابته كل من الكاتب والقارئ. وقدم لقاء دبي صورة للدور الكبير الذي تقوم به المرأة في الإمارات، عندما أدركت أن المسؤولية الحقيقية هي إمساكها بالمراكز المفصلية وليس في سعيها نحو المناصب الوزارية، وهو ما سبق أن شاهدته أيضا في قطر حيث ترعى حرم رئيس الدولة شخصيا توظيف الجنس اللطيف في المواقع المفصلية تاركة الصدارة للجنس الخشن. وكان للقاء دبي أهمية خاصّة بالنسبة للمغرب العربي، الذي يُحس كثيرون من أبنائه أن حقهم مهضوم في الإعلام المشرقي، وهكذا عقدت الندوة الحوارية التي شارك فيها من أبناء المغرب العربي محمود شمام من ليبيا، ومحمد أوجار من المغرب، ووجدت نفسي ملزما بالمشاركة فيها بعد أن غاب المُشارك الجزائري الأصلي، ولم أكن أريد أن يظل كرسي الجزائر شاغرا. وفوجئت في دبيْ بقرار مجلس الجائزة اختياري لجائزة الصحافة العربية، وهو أول تكريم لمثقف من المغرب العربي منذ إنشاء الجائزة في بداية العشرية، التي كرم خلالها 121 إعلاميا. وكان الطريف في الأمر أن التكريم جاء عشية شنآن بين الصحفية الجزائرية حدة حزام و»الفضائي« المصري الشهير الذي أشعل شرارة الاحتكاكات المصرية الجزائرية قبيل لقاء القاهرة الكروي في منتصف نوفمبر الماضي. وكانت الصحفية الجزائرية، وهي مديرة صحيفة عربية هامة بالجزائر، قد تناولت في مداخلتها المختصرة موضوع التدخلات المتلفزة، وطرحت على المديرة التنفيذية للندوة الأستاذة مريم بن فهد سؤالا عن موقفها تجاه محاولات الإساءة لبلد عربي عبر تلفزة شقيقة بشكل مجاني لا مبرر له، ولم تذكر إطلاقا اسم المذكور ولا اسم التلفزة التي يلغ فيها، وإذا بهذا يُعلق بأنه لم يفهم ما قالته الصحفية، وطلب منها أن تتحدث بالعربية، وكأنها كانت تتحدث بلغة الزولو. وأثار هذا استياء الجميع، وخصوصا نخبة الإعلاميين المصريين. ومن هنا جاءت أهمية تكريم مثقف جزائري يكتب أساسا بالعربية، وحتى ولو لم يكن الأمر مقصودا فقد كانت إشارة تقول أن المغرب العربي يعرف العربية ويتفوق فيها. وكان أروع ما في الأمر كله أن معظم الإعلاميين المصريين كانوا من أول من هنأ خادمكم على فوزه، وكان في طليعتهم مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين المصريين وعدد من زملائه من بينهم المسلماني صاحب برنامج الطبعة الأولى في قناة دريم وأيمن الصياد رئيس تحرير »وجهات نظر« وإيمان عزام وشباب آخرون لم ألتقط كل أسمائهم، وتفجر حماس كثيرين للفوز الجزائري وكان من بينهم من بينهم ليلى الشيخلي )العراق( وإيمان عياد )فلسطين( من الجزيرة وصحفيون من ليبيا وتونس والمغرب وموريطانيا. وأرتني الرائعة ليلى يديها والكفان محمران من التصفيق، وقال لي أكثر من إعلامي مصري بأنه يستهجن تصرف الفضائي المذكور، وهو ما أكده الدكتور زويل للصحفية الجزائرية. واستقبل الجزائريون الحضور كل ذلك بتقدير كبير لأنه يؤكد ما كنا نقوله دائما من أن المثقفين المصريين في معظمهم براء من تصرفات حمقاء كادت تشعل النار بين شعبين شقيقين لولا أن تدخل العقلاء لوقف انزلاق مؤسف لم تنمحي كل آثاره بعد. ويبقى أن أسجل تقديري للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، صاحب فكرة الجائزة وراعيها، ولأعضاء الأمانة العامة الذين لم يدخروا جهدا في تنظيم الملتقى، وبوجه خاص مريم بن فهد ومنى بو سمرة، وللأخ الرومي رئيس مجلس الجائزة ولكل أعضائها، وأخص بالذكر ابني المغرب العربي الأخوين ناجي البغوري من تونس وعبد الإله بلقزيز من المغرب. وأول الغيث قطر ...أو هكذا آمل. * - أشارت السيدة حدة حزام في عمود لها نشرته »الفجر« بأنني كنت نصحتها بعدم حضور الندوة التي شارك فيها عمرو أديب، وهو صحيح، وأذكر أنني قلت لها في هذا الصدد تعبيرا يجسده مثل شعبي جزائري عن النخالة، وبأنني لن أحضر لأن مجرد حضوري تكريم له لا يستحقه. لكن الغريب أن هذه الإشارة كانت الوحيدة التي تناولت فيها مديرة الفجر مشاركة أخيكم في لقاء دبي. *** * - رغم أن وكالة الأنباء الجزائرية بثت خبرا عن لقاء دبي الإعلامي فلم أجد سطرا واحدا في أي صحيفة ناطقة بالفرنسية عن حدثٍ كرّم فيه للمرة الأولى كاتب سياسي جزائري باسم المغرب العربي. وتذكرت هنا أن نفس الشيئ حدث معي عندما تم اختياري في الكويت عاصمة للثقافة العربية لأكون شخصية العام الثقافية. ولأنني أعرف أنه ليست هناك تعليمات من إيطاليا بمقاطعة العبد الضعيف، وبالتالي لست أدري ما هو رأي أخينا أمين الزاوي في هذا الأمر. والطريف أيضا أن عدد الصحف الناطقة بالعربية التي أشارت إلى ما حدث في دبي كان محدودا جدا، رغم أن الحدث يهمها بالدرجة الأولى. ومؤسف أن يتغنى الناس بتجربتنا الإعلامية الرائدة بينما نفعل نحن كل شيئ لنكذبهم. *** * - أسافر إن شاء الله إلى بيروت للمشاركة في لقاء تنظمه مؤسسة الفكر العربي بدعوة من الأمير خالد الفيصل بن عبد العزيز رئيس المؤسسة وأمير مكة، وألتمس عذرا للرفيق الذي قال لي : ظننت أنك بعد انتهاء عهدتك في مجلس الأمة ستلزم البيت فإذا بك تصدر لنا كتابا جديدا وتواصل نشاطك وكأن شيئا لم يكن. وقلت له بكل أخوة : وهل تظن أن شيئا ما حدث؟