غضِبَ وجهُ العرب اللامع وممثلهم البارع وراح يتحدث لوسائل الإعلام بلهجة ربما ظن أنها تساوي قوة نبض الشارع العربي.. إنه عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية بعد أن بلغته أنباء القرصنة الإسرائيلية على أسطول الحرية في المياه الدولية قبالة سواحل غزة المحاصرة.. أطلق المسكين عددا من الجمل المستهلكة لكنها اندثرت مع أول تصريحات رجب طيب أردوغان وهجومه الحادّ على ساسة إسرائيل. وحول أمين عام جامعتنا العربية وتصريحاته تلك شدّتني نهاية تقرير إخباري تحليلي بإحدى القنوات العربية الرائدة، حيث أورد الزميل الصحفي كلمات لعمرو موسى مفادها أنه فهِم رسالة إسرائيل واكتشف عدم اكتراثها بعملية السلام من خلال تصرفاتها الرعناء وهجومها الوحشي على المتضامنين الذين كانوا على متن أسطول الحرية يحثّون الخطى نحو غزة المحاصرة.. وبعد ذلك أقفل الزميل التقرير بهذه الكلمات: (اثنان وستون عاما ولا يزال العقل العربي يتأمل في فصاحة الرسائل الإسرائيلية ومتعة اكتشاف أن إسرائيل لا تريد السلام). ولأن المقارنة تحدث بشكل عفوي في مثل هذه المواقف، فإن الذهن يتجه مباشرة إلى الأمثال والأشباه، ولو بالشكل والصورة وربطة العنق والسيارة السوداء والحرس المرافق لها.. وإن حدث الاختلاف بعد ذلك في قوة الهمم ووضوح الأهداف والاستراتيجيات وتمثيل الشعوب ودرجة القرب أو البعد منها ومن آلامها وآمالها. وهكذا كان حال الكثيرين مع ممثل العرب الأول، من الناحية الرسمية على الأقل.. حاله ووضعه ومصداقيته مقارنة بسياسي آخر على رأس دولة تربطنا بها أواصر التاريخ والجغرافيا وتشترك معنا في بعض تداعيات المشهد السياسي العالمي الحالي وآثاره السلبية والإيجابية على دولنا وشعوبنا. لقد تحدّث عمرو موسى لوسائل الإعلام قبل رجب طيب أردوغان، لكن تصريحاته راحت هباءً منثورا بين أكوام الأخبار المتسارعة، والمصير ذاته كان من نصيب تصريحات قادة عرب دعا أحدهم إلى دعم فصائل المقاومة وحمّل آخر الرئيس الأمريكي أوباما أوزار ما حدث وخاطبه بلهجة قاسية، وقبل ذلك وبعده تلك البيانات الرسمية التي صدرت عن أغلب الدول العربية تدين وتشجب وتستنكر ثم ترمي الكرة في ملعب ما يُسمى المجتمع الدولي ومجلس الأمن وما شابه ذلك. لماذا ظلت الجماهير العربية متعطشة لسماع الرد التركي وأخبار عودة أردوغان من جولته في أمريكا اللاتينية، ومن ثمّ الإنصات إلى ما سيقوله؟، ولماذا ركزت وسائل الإعلام على ردود فعل حكومة حزب العدالة والتنمية في أنقرة مع أن دولا عربية وغير عربية كانت معنية أيضا بأسطول الحرية ومئات المتضامنين الذين كانوا على متنه؟.. إن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي، كما ظلت لسنوات طويلة تسعى لعضوية الإتحاد الأوروبي لأن بعض أراضيها في قارة أوروبا، وأكثر من ذلك ترتبط بعلاقة مع دولة الكيان الصهيوني منذ عقود، وفوق كل ذلك تُصنّف كحليف استراتيجي للولايات المتحدة منذ أيام الحرب الباردة .. وهكذا يمكن القول إن تركيا مثقلةٌ سياسيا ودبلوماسيا، لكن المفارقة أنها تحسن اتخاذ القرارات الحاسمة وتتفنّن في الانتصار لكرامة مواطنيها. قبل أن يعود أردوغان تصرفت حكومته وقامت بواجب الرد الأوّلي الذي يتناسب مع حجم الحدث وجسامة الخطيئة الإسرائيلية.. وهكذا ألغت ثلاث مناورات عسكرية كانت مقررة بين أنقرة وتل أبيت، إلى جانب مباراة كرة قدم ، وطار وزير الخارجية التركي إلى نيويورك وحضر جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي وحصل على بعض ما كان يريده، وإن كان دون المطلوب بسبب الثقل الأمريكي المعروف. وعندما عاد أردوغان في اليوم التالي اجتمع بكتلته البرلمانية وأركان حزبه وأحد قادة الجيش ومدير المخابرات وغيرهم، وعلى وقع المظاهرات الغاضبة في جميع أنحاء تركيا راح يخاطب البرلمان وإسرائيل والعالم.. تحدّث بنبرة شديدة ونطق بألفاظ لا معنى لها سوى أن ساسة إسرائيل مجرد رجال عصابات لا غير، وهم كذلك بطبيعة الحال. وضع أردوغان شروطا وتوعّد إسرائيل إن لم تنفّذها، وأرسل رسائل واضحة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية وإن لم يسمّها مباشرة، وتحدّث عن ضرورة وحتمية إنهاء حصار قطاع غزة.. تابع العالم كل ذلك بينما لم يتمكن العرب من مجرد الاجتماع على مستوى المندوبين في جامعة الدول العربية بالقاهرة.. ثم اجتمعوا واختلفوا، ثم اجتمع وزراء خارجيتهم بعد ذلك وخرجوا بقرارات (قوية جدا) وهي أن يرجئوا موضوع مبادرة السلام العربية إلى اجتماع القادة المقبل، وأن يوجّهوا رسالة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية. لقد ختم أردوغان خطابه الغاضب عن حادث القرصنة بموضوع قد يبدو في سياق آخر تماما.. تحدّث عن خطواته لتعزيز الديمقراطية في تركيا وعن رفاهية المواطن التركي وسعي الحكومة لخدمته أكثر.. لقد أدرك أردوغان أن سرّ قوة السياسي الناجح في صلته بجماهيره والتفويض الحقيقي الذي يتقلده عبر صندوق انتخابي شفّاف.. وبعدها يكتسب شجاعة غير عادية، فلا شيء يخاف منه أو عليه.. لا ملفّات سرية، ولا حسابات مصرفية خارجية أو صفقات مشبوهة، أو أي عُقَد تجعله مصرّا على أن يلتصق إلى الأبد بكرسي الحكم ليعاني بعد ذلك ذلّ الخنوع والخضوع بسبب إملاءات لوبيات الداخل والخارج. وأخير: فإن العنوان: (الديمقراطية أولا.. الديمقراطية دائما) هو كتاب للروائي العربي الراحل عبد الرحمان منيف.. تحدث فيه عن الديمقراطية وتطرّق فيه لتجارب بعض الدول العربية وقال إن بطء استجابة تلك الأنظمة (لمتطلبات العصر، بما تقتضيه من عقلنة، وتعدد سياسي، وإشراك للمرأة في الحياة العامة، كل ذلك تمّ بمعرفة من الغرب، بل بتواطؤ منه، فتلك الأنظمة المتخلّفة هي وحدها المؤهلة لحماية مصالحه).