أحد المرشحين لمنصب نائب الرئيس الأمريكي في انتخابات سابقة كان سيناتورا مسنّا إلى حد ما، وقضى في منصبه فترة طويلة نسبيا واشتهر بمواقف سياسية معينة، لكن من ميزاته التي نشرتها وسائل الإعلام، وهي تتحدث عن تفاصيل حياته، أنه يركب القطار من بيته إلى مقر الكونجرس في واشنطن ويقطع يوميا مسافة تسعين كيلومترا ذهابا ومثلها في رحلة الإياب. يقطع ذلك السيناتور إذا مسافة تقارب المائة كيلومتر ليصل إلى مكان عمله، ولا أظن أنه يركب القطار بملابس غير رسمية فإذا وصل إلى مكتبه استبدلها ببدلة وربطة عنق فاخرة وأعاد ترتيب نفسه وانطلق من هناك ليبدأ اجتماعاته ولقاءاته ومقابلاته مع وسائل الإعلام وأعضاء اللوبيات وجماعات الضغط وغيرهم. إنه سيناتور أمريكي ولا شك أن منصبه ووضعه المالي يمكّنه من توظيف سائق خاص يتحرك معه دون الحاجة إلى ركوب القطار، لكن الأمر لا يعني له شيئا على ما يبدو، كما أن مستوى الخدمة والنظافة والسرعة في القطارات تجعلها محل جذب للجميع بل وتفضيل أيضا، لا كما يحدث في بعض بلدان عالمنا الثالث حيث يضطر الكثيرون اضطرارا إلى ركوب القطارات ووسائل النقل العام لعدم توفّر السيارات الخاصة أو الرغبة في تجنّب الطرق وفوضى المرور القاتلة.. يتحاشون تلك الوسائل لتخلّف خدماتها وتدنّي مستوياتها إلى درجات قد يصعب تصورها في بعض الحالات. نترك ذلك السيناتور وأمثاله في الدول المتقدمة ونتحول إلى بلادنا لنتساءل إن كان في وسع بعض البرلمانيين أن يفعلوا الأمر ذاته ويركبوا القطارات وحافلات النقل العمومية خاصة تلك التي يمتلكها الخواص.. نتساءل إن كان في الإمكان أن يركب سيناتورا عندنا حافلة نقل تنطلق من أطراف العاصمة ويصل بها قرب مقرّ البرلمان في كامل لياقته وزينته وهندامه المرتب الذي خرج به من بيته.. نتساءل إن كان في إمكانه بعد الوصول أن يجلس على مقعده في البرلمان ويشرع بشكل طبيعي في المناقشات والمداولات دون أن يُمضي نهار تلك التجربة في التشكّي والتبرّم من مآسي المواصلات وزحمة الطرقات وفظاعة عدد من السائقين والمحصّلين وجلافة بعض الركاب ومجافاتهم لكثير من بديهيات الأخلاق والآداب العامة واللباقة في التعامل مع الآخرين واحترام خصوصياتهم وحقهم في رحلة آمنة هادئة دون منغصّات. نأمل أن يبادر بعض النواب الكرام الغيورين على مصلحة الشعب إلى خوض التجربة لعدة أيام على الأقل.. ولعل من أطرف ما سيكتشفه بعض نوابنا الكرام هو ضيق المقاعد وحجمها المتواضع في حافلات الخواص.. ذلك الحجم الذي لا يتناسب مع بعض الأجسام، فتحتاج إلى الحمية الغذائية وممارسة الرياضة للتخلص من الوزن الزائد حتى يصبح الجلوس ممكنا، وليس مريحا، في تلك المقاعد المتقاربة والمتراصة وكأنها صُمّمت خصيصا لحشر الركاب بأعداد لا تتناسب مع المساحة الكلية للحافلة.. والمؤكد بعد ذلك أن أصحاب التجربة من النواب سيقيمون دنيا البرلمان والحكومة ولا يقعدونها حتى يتأكدوا من انطلاق قطار التغيير الحقيقي في قطاع المواصلات العامة.. والدعوة نفسها موجّهة إلى المسؤولين التنفيذيين وبجميع مستوياتهم.. خاصة أنهم محل تساؤل دائم من المواطن، وهو يعاني متاعب المواصلات العامة: هل يفكر كبار المسؤولين، مجرد التفكير، في استعمال الحافلات والقطارات أو دفع أولادهم وعائلاتهم لخوض التجربة وتذوّق طعمها. أسئلة كبيرة الحجم تُطرح في مجال النقل العام كلما قرأنا أخبارا عن مشاكل هذا القطاع، وتساؤلات يطرحها المواطن يوميا وهو يعاني داخل حافلة ضيقة وطرقات لم تعد تستوعب أعداد المركبات المتزايدة، وأكثر من ذلك قطار أنفاق ما يزال مصمما على الاختفاء تحت الأرض عاما بعد عام. آخر الأخبار في هذا القطاع الحيوي تحدثت عن زيادة الأسعار التي بدأت بها مؤسسات النقل الحضري وشبه الحضري.. زيادات تراوحت بين عشرين وخمسين في المائة، وجهات رسمية ذات علاقة بهذا الملف قالت إن (الزيادة تم الاتفاق عليها بسبب الوضعية المالية المعقدة التي تعيشها مؤسسات النقل الحضري خصوصا على مستوى العاصمة حيث تعاني الشركة من عجز مالي). مبررات قد تكون مقبولة عند الاستسلام لقوانين الربح والخسارة الاقتصادية الظاهرة للعيان، لكن المواصلات العامة تريد تفكيرا من نوع آخر.. إننا في حاجة إلى التأكيد لأنفسنا دائما أنها استثمار استراتيجي طويل الأمد على جميع المستويات حتى وإن تحدثت لغة الأرقام عن أرباح متواضعة وربما خسائر في بعض الحالات، لأن وسائل النقل العامة المريحة والسريعة دعم وإسناد مباشر لجميع قطاعات الدولة وخدمة ذات منفعة لكل فئات الشعب.. إنها استثمار في السياحة والصناعة والتعليم والثقافة، وحتى الطرقات والبيئة عندما يترك المواطن سيارته الخاصة في بيته ويركب حافلة عامة. وعودة مرة أخرى إلى البرلمانيين والمسؤولين السامين، وحتى المنتخبين والمسؤولين المحليين.. لنجدد الأمل في رؤيتهم قريبا وهم يقفون في المحطات العامة ويخوضون التجربة مع المواطنين في حرّ الصيف أو قرّ الشتاء، ويتنقلون في أجواء الاختناقات المرورية ويستمعون إلى تعليقات المواطنين ومناوشاتهم مع السائقين والمحصّلين.. والأمل بعدها كبير أن يتجه البرلمانيون والمسؤولون بصدق إلى هذا القطاع الحيوي ويبادروا إلى تحسين أوضاعه والدفع به نحو مستويات ومعايير الدول المتقدمة. وعودة أيضا إلى ذلك السيناتور الأمريكي وأمثاله لنعرف بعض أسرار التقدم عندهم، وندرك أنه لا يعدو ذلك الالتحام مع المواطن والإيمان بأنه هو الأساس في كل شيء، فبدونه لا وجود لشيء اسمه مسؤول أو مسؤولية أو وطن ودولة ومؤسسات.. إنه المواطن الذي يمثل محور السياسة وهمّ السياسيين مهما اختلفت مشاربهم وأفكارهم وبرامجهم.. إنه السيد المطلق بلا منازع.