ما بالكم أيها الثوار، ويا بقاياهم، تتقاتلون فيما بينكم؟ طرحت هذا السؤال على نفسي تلقائيا بعد أن وقعت عيناي على صور تضم عددا من قدامى المجاهدين، أولئك الذين جاؤوا إلى هذه الدنيا في زمن شديد الصعوبة، وبكيت حسرة على ما وقع من فتنة فيما بينهم. تقاتلوا، أجل، تقاتلوا، والكلمة صعبة، ثقيلة الوقع على النفوس دون شك. تقاتلوا في سبيل الجلوس على هذا المقعد أو ذاك، في وقت كنا نرتجي غير ذلك منهم لأننا بلغنا بهم حد القداسة والتقديس إكبارا لهم. بوضياف يقف إلى جانب كريم بلقاسم، والعربي بن مهيدي إلى جانب رابح بيطاط، وابن بولعيد إلى جانب ديدوش مراد. وبومدين يهمس شيئا في أذن أحمد بن بلة، والعقيد أوعمران يقف سافرا جهه وسط جمع من المجاهدين في عز الثورة الجزائرية وهكذا دواليك. وكان لا بد وأنا أتأمل تلك الوجوه التي ضاع معظمها وسط برك من الدماء أن أرجع القهقرى إلى التاريخ الإسلامي، وإلى عهد البعثة النبوية الشريفة، وأستعيد ما قاله الرسول الأكرم (ص) :( (أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم). عدد من الصحابة الكرام تقاتلوا فيما بينهم بالفعل. هذا بانتمائه إلى شيعة علي بن أبي طالب (ض)، وذاك بانضوائه تحت لواء معاوية بن أبي سفيان (ض). ولم أجد إلا واحدا منهم عرف كيف يشق الطريق بمفرده، وينزوي بمكة المكرمة قائلا: ايتوني بسيف ينطق، فيقول هذا كافر وذاك مؤمن! وأعني به سعدا بن أبي وقاص (ض). وجدت بعض التعلات لدى أولئك الصحابة الكرام، ولكن نار الغيظ بقيت تتلظى بين جوانحي. استعدت مقتل محمد خيضر في مدريد عام 1966، وما قالته وكالة الأنباء الفرنسية أيامذاك عن مقتله وعن صنيع الأمن العسكري في الجزائر. كلمات هي شبه ما تكون بالملح الذي يذر فوق الجرح فيزداد التهابا: إننا نعرف الشيء الكثير عن أولئك الديبلوماسيين الجزائريين الذين ينتقلون بين عواصم أوربا وفي حقائبهم مسدسات من نوع 22مم! هل نتوصل يوما إلى أن نعيد إلى تلك الصور بهاءها المفترض فيها؟ وهل نستعيد تلك البراءة الثورية التي تميز بها أولئك الذين صنعوا تاريخنا الحديث في هذه الجزائر التي ترفض أن تكون مستقلة؟ وهل نتوقف في يوم من الأيام عن الإنصات إلى خرافة القتل والتقتيل التي فعلت أفاعيلها فينا طيلة عقود من الزمن؟ لقد استأثر بنو أمية بالحكم طيلة تسعين عاما، وحدثت مقاتل ومقاتل بين أبناء الدين الواحد، واستأثر بعض المجاهدين بالحكم في هذه الديار الجزائرية، فهل من مخرج من هذه المضائق الخانقة التي استحدثوها بأيديهم، ونزولا عند رغبات دونية لا تكاد تفضي إلا إلى الوبيل من الأمور؟ أتمنى أن أتأمل نفس الصور التي خرجت من بطونها إن صح التعبير، والتي لونت مشاعري كلها بكل ما هو جميل باعث على الفخر في هذه الدنيا. ولا أريد أن أردد مع ذلك اليوغوسلافي الذي قال لي في يوم من الأيام: حقا، ثورتكم مجيدة، لكنكم ذبحتم ثواركم!