يخطئ من يعتقد بأن مكافحة الفساد، هي معركة منزهة من التوظيف السياسي على المستوى الوطني أو الدولي، فالتقارير التي تصدرها هيئات دولية حول مستوى هذه الظاهرة الخطيرة في أي بلد من البلدان، قد تستند على مؤشرات حقيقية، لكنها قد تنساق وراء اعتبارات أخرى لا تمت لموضوع مكافحة الفساد بأي صلة، فتندرج أحيانا ضمن إطار الضغط والمساومة، شأنها شأن قضايا حقوق الإنسان والمرأة والديمقراطية..الخ. لقد تضمنت مداخلة وزير العدل حافظ الأختام الطيب بلعيز، خلال أشغال المؤتمر الرابع للجمعية الدولية لهيئات مكافحة الفساد التي انعقدت بمكاو بالصين، ردا صريحا على التقرير الأخير لمنظمة الشفافية الدولية الذي تحدث عن غياب الإرادة السياسية في مكافحة الفساد في الجزائر، رغم تسجيل تحسن موقع الجزائر مقارنة بالسنة الفارطة، حيث انتقلت من المرتبة 111 إلى المرتبة 105 عالميا. بلعيز قال إن مكافحة الفساد في الجزائر تنبع من إرادة سياسية صريحة للرئيس بوتفليقة، وأضاف بأن ذلك مدعوم بإرادة إرساء دولة القانون، من خلال سعي رئيس الجمهورية إلى تهيئة المناخ المناسب لتنمية شاملة ومستدامة قائمة على نزاهة الحياة العمومية وشفافية المعاملات الاقتصادية. والواقع الذي لا يقدر أي كان أن ينكره هو أن الجزائر قد أسست فعلا، خلال السنوات الأخيرة قاعدة حقيقية لمكافحة ظاهرة الفساد، وعملت بمنهجية مدروسة على تهيئة المناخ المواتي لربح هذه المعركة، مع أن مواجهة الفساد ليست بسيطة والظاهرة منتشرة، وبشكل كبير حتى في بعض البلدان المتقدمة التي تملك كل الإمكانيات للوقوف في وجه الفساد والمفسدين. الجزائر قامت بمراجعة العديد من النصوص القانونية في إطار تهيئة الأرضية القانونية لمكافحة الفساد، وعمدت إلى تكييف النظام القضائي والقواعد الإجرائية لمواجهة كل أشكال الجريمة المنظمة بما في ذلك الفساد، بحيث أنشئت، حسب تصريحات وزير العدل، أقطاب جزائية متخصصة، وقامت تكوين مستمر للقضاة، كما صادقت على 70 اتفاقية التي تدخل في إطار التعاون القضائي والأمني وتسليم المجرمين ..الخ. هذه المجهودات وأخرى يدركها الجميع، وقد تشكل حججا دامغة ضد كل من يشكك في وجود إرادة سياسية لمكافحة الفساد في الجزائر، لكن على مستوى التطبيق، فإن العمل الذي تم خاصة على الصعيد القانوني والذي يمكن اعتباره غير مسبوق، لم يحقق الأهداف المرجوة، ولم يمكن الجزائر من تحقيق نتائج كبيرة في عملها المتواصل لمحاصرة ظاهرة الفساد، فلا يزال الفساد وباعتراف رسمي، ينخر جسد الدولة والاقتصاد، ولا يزال يعترض، حسب تصريحات الرئيس بوتفليقة نفسه، خلال إشرافه على الافتتاح الرسمي للسنة القضائية الجديدة، عملية التنمية، رغم الأموال الضخمة التي تم حقنها للوصول إلى تحقيق الأهداف المسطرة، في المخطط الخماسي أو المخططات التي سبقته. هذا الوضع يدفع حتما إلى طرح السؤال عن السبب الذي يجعل الفساد يواصل زحفه رغم توفير الأسباب السياسية والقانونية لانقراضه؟ والجواب على ذلك يقودنا إلى الحديث عن مستويات الفساد وطبيعة المفسدين والمحيط الذي يتحرك فيه كل هؤلاء. لا شك أن إنشاء مرصد وطني لمكافحة الفساد هو خطوة مهمة، تعبر عن وجود إرادة حقيقية على أعلى مستوى في هرم السلطة، لكن لا يجب انتظار الكثير من هذا المرصد، فهيئات من هذا النوع تصلح فقط للترويج لسياسة مكافحة الفساد، والمطلوب هو دعم هذه الخطوة بمؤسسات حقيقية على جميع المستويات، مؤسسات لها ما يكفي من كفاءات ومن صلاحيات لمواجهة الفساد. والانتقال إلى التصدي لجذور الفساد ومسبباته، وإلى العوامل التي تساهم في استشرائه، والقضاء على نقاط الظل في نظام الحكم التي يحتمي بها من يسمون بالمحظوظين أو ذوي النفوذ، ومحاربة امتدادات هؤلاء داخل مؤسسات الدولة المكلفة أصلا بمحاربة الفساد، وأما الحديث عن دور العدالة فهو يقتضي إرساء دعائم قضاء مستقل يكون فيه القاضي في منأى عن أي ضغط ومساومة ولا ينحني فيه إلا للقانون فقط.