د. بشير مصيطفى: msitba@voila.fr مستشار اقتصادي/ دبي تشكلت بالجزائر لجنة من المجتمع المدني لمحاربة الفساد بعد أن بات شعار ( مكافحة الفساد ) واحدا من أبرز الشعارات التي تتبناها الهيئات العالمية وعلى رأسها البنك الدولي لإصلاح أوضاع الدول النامية اسوة بشعارات سابقة مثل التنمية المستديمة ، التنمية البشرية ، التنمية الإنسانية ، المجتمع المدني ، حقوق الإنسان ، البيئة ، وأخيرا مكافحة الإرهاب. فهل يرث مفهوم مكافحة الفساد مرحلة ما بعد الإرهاب ؟ والى أي حد يمكن للجزائر الاستفادة من الحملة الدولية لنشر الحكم الصالح في العالم ؟ ما هو الفساد لمكافحة الفساد جذور في التاريخ لاشك في ذلك، وقد زخرت المكتبة العربية بعديد المؤلفات في مجالي السياسة والحكم الراشد ولعل أشهرها في السياق التاريخي كتاب السياسة الشرعية للإمام ابن تيمية وهو مؤلف مستمد من صميم الفقه السياسي الإسلامي ، كما كافح كثير من رواد النهضة العربية الحديثة من أجل إصلاح الحكم ومحاربة الإستبداد ( الكواكبي وغيره ) ، ومع ذلك يستهوي الطرح الجديد لموضوع الحكم الصالح المثقفين العرب ربما لسبب واحد هو التصاقه بموضوع ( الفساد ) في البلاد العربية بشقيه الإداري والمالي . فالفساد الذي ظل مستترا وراء الديكتاتوريات وانماط الحكم القامعة للتعبير الحر سرعان ما انفجرت أرقامه وبياناته بمجرد أن رفعت الهيئات العالمية شعارها عن ( الحكم الصالح ) وسارع عديد المسؤولين السابقين في عديد دولنا العربية الى نشر غسيل العصب الحاكمة وجنرالات الجيش وكيف استغلت هذه العصب أوضاع غياب الديمقراطية والشفافية وتقاليد المحاسبة لتمارس الفساد المالي على أوسع نطاقاته . وعند تعريفنا للفساد حسب المنطق الدولي يتضح لنا موقع عالمنا العربي من ظاهرة باتت من أكثر الظواهر السياسية استقطابا للنظر في الوقت الراهن . فقد عرف الفساد بصيغ عدة منها (الانحراف الأخلاقي لمسؤولين في الحكومة والإدارة)، (التنازل عن أملاك الدولة من أجل مصالح شخصية). لكن التعريف المعتمد بهذا الصدد هو ذلك الذي استخدمته لأول مرة مؤسسة البنك العالمي واعتمد في جميع الكتابات: (استخدام الوظيفة العامة لتحقيق منافع خاصة)، أو (الاستغلال السيء للوظيفة العامة أي الرسمية من أجل تحقيق المصلحة الخاصة). وفي هذا المعنى تندرج جميع ممارسات الاستغلال السيء للوظيفة الحكومية أو الخاصة إذا تعلق الأمر بالشركات الكبرى، ومن ذلك: (العمولات، الرشاوى، التهرب الضريبي، تهريب الأموال، الغش الجمركي أو التهرب من الجمارك، إفشاء أسرار العقود والصفقات، الوساطة والمحسوبية في الوظائف العامة). ومع أن الفساد الاقتصادي ظاهرة تكاد تكون محددة في استغلال المنصب الحكومي – وإلى حد ما المناصب العليا في الشركات الخاصة – إلا أن ذيول هذا الاستغلال تطال مختلف الشرائح الاجتماعية وقد لا تبدو للعيان للوهلة الأولى. فالمسؤولون الموصوفون بهذه الظاهرة يتقنون استخدام أساليب ممارستها كما أن ممارسات الفساد يغطي بعضها بعضاً وفي غالب الأحيان يغض الطرف عما يعرف ب (الفساد الصغير) في بلد شائع فيه (الفساد الكبير). والفرق بين هذين النمطين من الفساد يكمن في بيئته من جهة وفي قيمته ودرجة تأثيره على الموارد الاقتصادية والمال العام من جهة ثانية. ويشارك في ممارسة الفساد أعوان من الحكومة ومن الإدارة ومن دواليب الحكم وقد يمتد ذلك الى رؤساء دول ووزراء معروفين والأمثلة على ذلك كثيرة ، وفي أحيان قليلة يطال الفساد الشركات الخاصة في البلدان الصناعية عن طريق مجالس الإدارات بها ، وينشر صندوق النقد الدولي حالات عن بلدان بعينها منها ما جاء بخصوص دولة أنغولا بين العامين 1966 و 2001 من أن من 80 الى 90 بالمائة من ايرادات الحكومة الأنغولية تأتي من صناعة النفط لكن في بعض السنوات لم يدخل أكثر من 40 بالمائة من إجمالي الإنتاج المحلي الخزينة بل تم اخفاؤه في حسابات سرية . وتذهب تقارير أخرى الى أن 80 بالمائة من القروض التي منحتها البنوك التجارية خلال الثمانينات للدول لم تصل الى أهدافها وبقيت في حسابات البنوك الأوروبية. وبرأيي فان أحسن تعريف لظاهرة الفساد هو ذلك الذي يصفها بواسطة مظاهرها وتجلياتها، فالجميع يعلم أن موارد أية دولة معرضة للنمو كما هي معرضة للنضوب والتبديد حسب طريقة تسييرها وكفاءة القائمين عليها إلا أن أبرز عوامل تبديد الثروة القومية هو الحكم الفاسد بدءا من التمول بالرشاوي الى التهرب الجبائي ، الإختلاس ، تحويل الأموال ، تزوير الفواتير ، التجاوز الجمركي ، تدوير المساعدات الدولية وممارسة الريع . كيف يفهم غيرنا الفساد؟ تهتم المؤسسات الدولية وبعض الدول الكبرى – وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية – بمكافحة الفساد وإقامة الحكم الراشد بصورة ملفتة للنظر. فقد تأسست منظمة (شفافية دولية) وشعارها (معاملات شفافة ونزيهة) وجمعية (مبادرة العدالة في المجتمع المفتوح) وشعارها (تعزيز دور المجتمع المدني في مكافحة الفساد)، وأصدر الكونغرس الأمريكي العقدالدولي لمكافحة الفساد وإقامة لحكم الصالح في 5 أكتوبر 2000. كما شهدت بعض الدول العربية بروز جمعيات لمكافحة الفساد ومؤسسات، مثل (الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة) ومؤسسات الحكومة الالكترونية (شأن الأردن). وتدور انشغالات المنظومة الدولية حول ترقية عمليات محاربة الفساد بتشجيع حرية الإعلام، وإشراك المجتمع الأهلي في مراقبة هذه الظاهرة، الرقابة المحاسبية (التدقيق المحاسبي)، إعادة التنظيم القانون للصفقات التجارية، ترقية الانتخابات الحرة والشفافة، إشراك الدبلوماسية بشكل أكثر نجاعة في مكافحة تهريب وتبييض الأموال بالإضافة إلى وضع برامج محددة للمساعدة الدولية في مجال محاربة الفساد بأنواعه وإقامة الحكم الراشد. ويعتبر مؤشر قياس الفساد في العالم الذي وضعته مؤسسة ( شفافية دولية ) أهم معيار لقياس الفساد لدى الدول وترتيبها. ويتضمن هذا المؤشر للعام 2006 ترتيباً لأكثر من 160 دولة بناءً على نظرة شعوبها إلى معاملات الرسميين فيها وبه 10 درجات (من درجة صفر إلى درجة 10) وتتصاعد الدرجات حسب درجة الفساد، وتعد الدرجة صفر أسوأ حالة والدرجة 10 أحسنها على الإطلاق. وعلى الرغم من أن مقياس (مؤشر قياس الفساد في العالم) لا يشمل جميع دول العالم إلا أنه يعطينا صورة كافية عن رؤية الشعوب ورجال الأعمال إلى أوضاع بلدانهم وتذهب جميع تقارير هذا المؤشر الذي شرع فيها العام 1995 وتشارك في إعدادها تسع مؤسسات مستقلة إلى أن ثلثي دول العالم لا تتجاوز الدرجة 5. وقد أثارت عملية تمويل صندوق النقد الدولي للاقتصاد الروسي قبيل انتخاب الرئيس إلتسين العام 1996 انتقادات واسعة داخل روسيا ذاتها (رئيس البنك الروسي ألفا يذهب إلى أن الدعم المالي الذي تلقته روسيا من صندوق النقد الدولي العام 1996 هو غلطة جسيمة) ويعد هذا التصريح منسجماً مع الموقف الداعي إلى وقف المساعدات المالية والقروض تجاه الدول التي تتميز بفضائح فساد. ولهذا وخلال اجتماع مجموعة ال 7 دول الأكثر تصنيعاً في العالم (عام 2000)، ركز وزراء مالية هذه الدول على دعم مساعي صندوق النقد الدولي الداعية إلى: وضع نظم محاسبية ومؤشرات خاصة بتلك الدول التي تسمى بالأسواق الناشئة emerging markets. كما تدعو هذه المجموعة إلى مزيد من الشفافية والمحاسبية داخل صندوق النقد الدولي نفسه. هل نستفيد من الحملة العالمية ضد الفسا د؟ كشف تقرير مؤسسة ( شفافية دولية ) للعام 2006 عن موقع بعض الدول العربية من سلم الحكم الصالح وسلم الفساد ، وقد ترتبت الدول العربية المختارة للدراسة بين الرتبة 26 و الرتبة 118 من مجموع الدول المختارة من العالم . وتضع هذه المؤشرات عينة العالم العربي في ذيل قائمة الدول من حيث إدارة الحكم لا يقاربها في ذلك سوى بعض الدول الإفريقية المعروفة بأنظمتها الشمولية مثل أوغندا وأنغولا. وتصنف مؤسسة ( شفافية دولية ) الدول التي تحصل على أقل من 05 من عشرة على سلم علامات الحكم الصالح في منطقة الفساد . وتعد تجارب الحكم في بلادنا العربية من أكثر التجارب الأممية صلة بالفساد الإداري والمالي بحكم الطبيعة الريعية للإقتصادات العربية ، وقد كشفت تجربة الإنفتاح الإقتصادي في دولة عربية كبيرة الى أي مدى وصلت عمليات الغش في أساليب البناء مما كلف خسائر باهضة في الأرواح . كما كشفت تجربة الخصخصة في دولة عربية أخرى عن فضيحة إفلاس مصرف خاص ناشئ تمول من خزينة الدولة مما كلف الحكومة أكثر من 02 مليار دولار دفع ثمنها صغار المودعين . ولا زالت تقارير جمعيات مكافحة الرشوة في بعض الدول العربية تنشر تقاريرها عن اتساع رقعة الرشاوى ضمن الدوائر الحكومية . ولاتملك الفعاليات العربية من مثقفين ورجال قانون واعلاميين وممثلين للمجتمع الأهلي سوى الإنخراط في الحملة العالمية لمكافحة الفساد وبناء حكم صالح في بلدانها من خلال الدعوة الى الإستفادة من برامج الشفافية والإصلاح الإداري والديمقراطية الإقتصادية والمساعدات الفنية التابعة لها. ويبدو أن تجارب الحكم الشفاف والديمقراطي في دول أوربا وما أدى اليه من استقرار سياسي ورفاه اجتماعي قد دفع بعديد الدول الآسيوية وعلى رأسها دولة صغيرة في قلب آسيا اسمها ( سنغافورة ) الى اتباع نفس نهج الإدارة الراشدة للحكم ، فهل نستفيد كعرب من تجربة أخرى من تجارب العولمة ؟