قبل سنوات حبستني ظروف قاهرة، فلم استطع أن أشهد عيد الأضحى في بلدتي.. كانت تلك هي المرة الأولى في حياتي، وإن لم تكن الأخيرة، فإنما الصبر عند الصدمة الأولى، وبعدها يألف المرء ما كان يعتقد من قبل، أنه من قبيل المستحيل أن يألفه، وهل في هذه الدنيا مستحيلات، ألاَّ ترى أن أحدنا يفقد أباه أو أمه، فيظن للحظة ما أن الكون قد توقف، وأن الدنيا بعدهما قد أصبحت يبابًا، ثمَّ تمر عليه الأيام، فإذا به يعود إلى سابق عهده من الخوض في غمارها، يأكل ملء جوفه ويضحك ملء شدقيه.. لم أفهم محنة المتنبي الشاعر في العيد إلا يومئذٍ، لم أجد للعيد طعما ولونا ولا رائحة، حتى رائحة الشواء، كانت حاسة شمي لا تنقلها إلى دماغي، فكانت رائحة منكرة تزيد من كربتي، ويومها عرفت معنى أن يصاب الدماغ بالزكام، وأنى لدماغي أن تجذبه رائحة الشواء، وكل ما حواه من خلايا، متجهة هنالك في مكان قصي، حيث ذكريات العيد، وهل الحياة إلاَّ ذكريات نعيش بها، كانت روحي تردد كلمات المتنبي: عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ فَلَيتَ دونَكَ بِيداً دونَهَا بِيدُ لم يَترُكِ الدّهْرُ مِنْ قَلبي وَلا كبدي شَيْئاً تُتَيّمُهُ عَينٌ وَلا جِيدُ ماذا لَقيتُ منَ الدّنْيَا وَأعْجَبُهُ أني بمَا أنَا شاكٍ مِنْهُ مَحْسُودُ كانت الوجوه تبدو لي غريبة، كأنني مخلوق من كوكب آخر، والطرقات بدت لي فارغة، وإن ازدحمت بأشباح، وحتى ضحكات الأطفال ولهوهم، لم يثر فيَّ ذلك الإحساس المعهود، من حب براءتهم وعفويتهم.. استغفر الله، تلك خواطر مرت بشاب، أمضى يوم العيد بعيدا عن أهله، ومراتع صباه لأول مرة في عمره، وقد أمضى بعدها العيد في مدن عديدة، مرات ومرات، فسرعان ما ألف المكان والوجوه.. فيوم العيد الذي يبدأ بتسبيح الخالق وحمده، ويعمر الناس فيه مساجد الله، وترتفع أصوات الحناجر بحمد الله وتسبيحه، هو العيد في كل مكان وإن اختلفت التفاصيل.. -2- إن أشد تلك الاختلافات وقعا، هو اختلاف ما بين المدن الكبيرة والمدن الصغيرة والأرياف.. ففي ذلك اليوم وهناك عند مفترق إحدى الطرق، محل جزار مشرعة أبوابه، يبيع اللَّحم وبعض الزبائن يقفون فيه، يا إلهي، وهل يفتح محل الجزار يوم عيد الأضحى؟ اقتربت منه استطلع الخبر، فإذا بالأمر جد لا مزاح فيه، إنه يبيع اللَّحم لهؤلاء الذين لم يقدروا على شراء الأضاحي، وهنا فقط انشغلت عن نفسي، ورحت أمد البصر هناك إلى بلدتي، حيث الجزارين في عطلة قسرية، قد تمتد أياما بعد العيد، وتذكرت أيام كانت رائحة الشواء، تنبعث من بيوت الفقراء قبل الأغنياء، فبعد سلخ الأضاحي ينطلق الأطفال في الشوارع بسلالهم، قاصدين بيوت الفقراء.. كان الرجل يعمد إلى كتف الشاة أو فخذها، يضعه في قفة ويرسل به إلى فقير من جيرانه، أو إلى معدم في أقصى الشارع أو الحي، وكل أهل بيته يذكرونه بأسماء العائلات المعوزة، ولا يتيمموا في صدقتهم سقط المتاع من الأضحية، مستحضرين قول ربهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) ﴿البقرة: 267﴾ حتى إذا خلصوا من ذلك، التفتوا إلى ذبيحتهم فأكلوا منها.. -3- فيا أيها الطلبة، لا تنسوا رفاقكم في الإقامة الجامعية يوم العيد، أدعوهم إلى بيوتكم، فإن لم تقدروا على ذلك فزوروهم في إقامتهم، وخذوا معكم شيئا من لحم الأضحية، فلكم بذلك جزيل الأجر، وستخففون عليهم وطأة الغربة في العيد، وسيذكرون لكم هذا المعروف ما حيوا.. ويا أيها الناس أذكروا المرضى في المستشفيات من الغرباء، زوروهم واحملوا معكم شيئا من لحوم الأضاحي، فستسعدونهم وربما عجلتم في شفائهم، أليس حملا ثقيلا أن تجتمع عليهم وطأة المرض ووطأة الغربة في العيد؟ ويا أيها الجنود في الثكنات، تذكروا رفاقكم ممن ناءت ديارهم، زوروهم وشاركوهم فرحة العيد، وخففوا عنهم وحشة الغربة.. ويا أيها العمال تذكروا زملاء لكم، ممن حبسهم واجب العمل يوم العيد، حاولوا أن تقتسموا وقت الدوام مع زملائكم، فسيحفظ لك هذا الجميل، وربما احتجت في يوم ما، أن يبادلك المعروف بمثله.. ويا أيها الأغنياء، تذكروا وقد أنعم الله عليكم بهذه الأضحية جيرانا لكم وأقارب، لهم أطفال يحبونهم كحبكم أطفالكم، لكنهم لم يجدوا حيلة ولم يستطيعوا سبيلا للأضحية، أطعموهم من لحوم أضحيتكم، فلن يبقى عند الله منها إلا ما تصدقتم به.. -4- هل تجدون أنني في مقام وعظ وإرشاد، وأنا أسوق هذه الذكريات؟ فما أبعد ما فهمتم إذن، فوعاظ هذا الزمان، إلا ما رحم ربي، يخالفون الناس إلى ما يدعونهم إليه، ألم تسمعوا بقصة ذلك الإمام الذي اعتلى المنبر يوم عيد الأضحى، يعظ الناس فبكى وأبكى، يحثهم على التصدق بأضحية العيد، وحينما رجع إلى بيته وجد امرأته قد تصدقت بالأضحية إلا قليلا، فرغى وأزبد وسخط عنها، فقالت يا شيخ: لقد استمعت إلى موعظتك فحركت وجداني، وطار معها قلبي من بين جوانحي، فتصدقت بالكبش وادخرته عند الله.. فقال الشيخ: ذاك كلام نقوله لهم، لا لنا ! إنما نقلت لكم ما شعرت به في ذلك العيد، مستحضرا ما قاله فكتور هيجو: إنني عندما أتكلم في الحب أو المعاناة، إنما أعبر عن حب كل المحبين ومعاناة كل من يعاني..