في هذا الحي المعتزل الساكن الذي كان آخر البلد، ما بعده إلا المقبرة، فنبعت من ورائه اليوم شوارع فساح وساحات، وقصور عامرات، وكان آخر دمشق القديمة، فصار أول دمشقالجديدة، ولكنه بقي على شرقيته وشاميته، لم يصل إليه الجديد، ولم يألف أهله التقليد، والذي كان أبدا مسكن الصالحين، لم يخل من عالم زاهد، وفقيه معلم من يوم كان القرية التي خرج منها الأوزاعي إلى أن شيد فيها الجامع المأنوس الذي أسس من يوم أسس على التقوى، وأقيم على الهدى، وبني على أنقاض الخان الذي كان ماخورا، فجمع الله به بين فضيلتين: باطل يدفع، وحق يوضع، وذهبت الغانيات الفاتنات، وجاء العابدون المتبتلون، فمن ذلك سمي (جامع التوبة). في حارة ضيقة إذا مد الرجل يديه بلغتا جداريها، في دار فيها صغرية، صحنها بركة حولها مجاز، وبناؤها غرفتان فوق درج كان يقيم الشيخ الزاهد حقا الشيخ (محمود ياسين الحمامي) رحمه الله رحمة واسعة. وفي تلك الساحة باب، إن أن جزته دخلت إلى بستان فسيح، وروض أنيق، فيه ما اشتهيت من ثمر، وما رجوت من زهر، جمعت فيه فواكه الشتاء والصيف، وأزهار السهل والجبل، وجنى اليوم والأمس من كل غض جديد، وقديم مرت عليه قرون وما فقد جدته، ولا أضاع غضارته، وفيه اللذة وفيه الربح، وفيه المتعة وفيه النفع، وفيه نهر إن شئت عللت منه وإن شئت نهلت، وإن شئت ملأت، وإن شئت سبحت، وفيه قصر مسحور تشرف منه على الدنيا كلها: غابرها وحاضرها، تستمع منه كل حديث ولو قضى محدثوه من عصور، وتجالس فيه كل عالم وأديب ولو مات من دهور، ثم إن أردت أقبلوا عليك، وإن أشرت سكتوا عنك، لا يغضبون ولا يعتبون، وإن استعدت أعادوا عليك. والمكان بعد -يا سادة- ذرعه خمس في خمس، ولكنه حوى هذا كله وأكثر منه. هذه هي مكتبه الشيخ، وهذي هي الغرفة التي قلما كنت أجد مكانا هو أحلى في عيني وأمتع لقلبي منها، وقلما أجد ذكريات بقعة أعز عليّ وأطهر وأغلى من ذكرياتها، فكنت كلما جئتها شعرت بأنس الروح ولذة الاطمئنان. وإذا كانت دمشق قد بكت في صاحب هذه المكتبة يوم توفي، رجل الصلاح والإصلاح، فقد بكيت فيه مع العلم العمل، ومع الزهد الرضا، وكانت حياته في نظري درسا لمن أراد أن يتعلم كيف يكون المرء سعيدا وكيف يجمع الدنيا والآخر، واللذة والشرف، وكيف يثق أن السعادة ليست بالمال الذي يتقاتل الناس عليه ولا الجاه الذي يسعون إليه، ولا بالقصور الشم والمنازل العوالي، فقد زرت القصور وجالست الملوك وصاحبت الأغنياء، ولازمت الرؤساء، فلم أر السعادة على أتمها وأكملها إلا في أمثال هذه الدار التي لا تتجاوز غرفة مفروشة بالسجاد النظيف على الخشب، على جوانبها مقاعد، والجدران كلها كتب، يخلع الداخل إليها نعله ثم يجلس على الأرض، فحيثما جلست دفء ونظافة تشعرك نظافة الروح ودفء الحب، يستقبلك فيها هذا الشيخ بوجه تقرأ في أساريره الطيب والإخلاص، وترى في عينيه الحب والطهر، يسلم عليك يرحب بك لا ترحيب المتكلف وسلام المنافق، وترى منه الود الصادق، والرأي المحكم والنكتة والتواضع، وتراه حائرا فيما يكرمك به. يلزمك محبته، ويشعرك إجلاله، لا يتصنع لذلك ولا يريده، ولا يتطلبه بلفظ ولا فكر، ولكن منظره ومخبره يوحيان إليك بذلك كله. كان سعيدا لأنه كان مؤمنا بالله، يعلم بأن كل ما جاءه فمنه، وكل ما ذهب منه فبحكمه، كان راضيا أبدا إن أعطي أو منع، لأنه كان راضيا عن الله، ويوقن بأن الرزق مقسوم، وأن الله هو المحيي لا المال، فكان المال أهون شيء عليه، فإن جاءه أكل منه وأطعم، وإن بعد عنه صبر وعف. ....يتبع