يواصل المدرب الوطني السابق إيغيل مزيان في هذا الجزء الثاني من الحوار الحصري ل “الهداف” الحديث عن أصعب مرحلة مرّ بها في حياته ويتطرّق إلى أمور أخرى نترككم تطالعونها .. “علمت بوفاة الوالدة بطريقة مؤلمة ومأساوية” “الوالد عانى في السجون الفرنسية مدة 3 سنوات، كان رحمه اللّه معجزة في معركة عنابة لأنه أصيب بوابل من الرصاص وكاد يستشهد لولا أن اللّه قدّر له طول العمر” ------------ هل قالوا لك إن أشخاصا آخرين يستحقون دخول السجن مكانك؟ أشخاص كثيرون قالوا لي هذا ولازالوا يقولونه لي حتى الآن، لكن هذا لن يغيّر من الأمر الشيء الكثير، فما حدث قد حدث وقد دخلت السجن واستنفدت مدة العقوبة. حاولت في البداية التأقلم مع الوضع الصعب الجديد حيث كان يجب في النهاية التعايش شيئا فشيئا في المؤسسة العقابية التي كوّنت فيها عالما خاصا وكأنها كانت حيّا كبيرا لي فيه جيران وقوانين أسير عليها، وأشير هنا إلى أنه كان الجميع يحترمني في السجن سواء من المحكوم عليهم أو العاملين في المؤسسة العقابية أو آخرون. ألم يقلل أحدهم من احترامه لك؟ أبدا، لم يواجهني إطلاقا هذا النوع من المشاكل، حيث لم أسمع أي كلام ولا أي كلمة فيها إساءة احترام لي. صراحة، أقول الحمد لله في هذا الجانب، بل قد أفاجئك حين أعلمك أنني كرّمت في السجن وهو الأمر الذي لم يحصل لي خارج أسواره حين كنت حرّا (يبتسم). كانوا ينظمون لنا حفلات في كل مناسبة كالعيد غيره، كما يوجد في السجن نشاطات للمحبوسين مثل الرياضة، حيث يسمح بلعب كرة القدم، حتى أنه تنظم دورات كروية، كما أن هناك مساجين يتابعون دراساتهم من داخل المؤسسة العقابية وآخرون يتلقون تكوينا مهنيا تحضيرا لإعادة إدماجهم في المجتمع بعد انقضاء مدة محكوميتهم. إذن هناك حياة في السجن. طبعا، الحياة تستمر في السجن بالنسبة لأولئك الذين يرغبون في الإستفادة من مدة مكوثهم في الحبس ولا يريدون تمضية أوقاتهم في الفراغ، هناك يد ممدودة في السجن لهؤلاء طالما توجد دائما فسحة للأمل لمن يريد التعلّم واستغلال وقته. وأنت كيف استثمرت في مدة عقوبتك؟ انخرطت في هذه الديناميكية واتبعت تكوينا لمدة 18 شهرا في علم النباتات، كانت هذه تجربة هامة ومفيدة، كما كنت أقضي بعض الوقت أمام جهاز الحاسوب ونظمت أيضا دورات في كرة القدم كلما كان ذلك متاحا حيث كانت تقدّم فيها الجوائز للمشاركين وحتى للمنظمين الذين كنت من بينهم منهم. هكذا كنت أكرّم من طرف مسؤولي المؤسسة العقابية، لكن يبقى من المميز دائما تمضية الوقت في مكان مماثل رغم كل ما يقدّم لك فيه لأنه لا يمكنك أن تنسى أين أنت ولا يوجد فرار، صحيح أنك تلقى التقدير، لكن هناك دائما شيء يذكّرك بأن حرّيتك قد صودرت وهذا هو الأمر الصعب في الواقع، ليس من السهل احتمال البعد عن الأهل والعجز عن حمايتهم أو على الأقل أن تكون بقربهم في حال مرض أحدهم، كل هذه الأسئلة تحبطك وتجعل يومياتك أليمة جدا ومن الصعب التغلب عليها. وكيف تغلّبت على هذا الوضع في الواقع، هناك حياة اجتماعية في السجن ومن الضروري أن تنخرط فيها، إنه مكان له قوانين يجب احترامها والتقيّد بها، هناك برنامج يجب على الجميع أن يحترمه وهناك جداول للدراسة والمطالعة والتكوين أو حتى لأخذ القيلولة.. إلخ. هناك من أجرى امتحانات بعدما زاول دراسته عبر المراسلة، حتى أنني رأيت أشخاصا نجحوا في نيل شهادة الباكالوريا وهم في السجن. الفرصة متاحة دائما في الحبس لمن يريد الانطلاق من جديد في الحياة على الطريق الصحيح أكنت تطالع الصحف بانتظام؟ كل الصحف تقريبا كانت متوفرة وحتى التلفاز، كل شخص كان يتصفح جريدته ثم نتبادل فيما بيننا الجرائد، كنا نطلب الجرائد الرياضية على وجه الخصوص، يمكنني أن أؤكد لكم أنني كنت على اطلاع بكل صغيرة وكبيرة كانت تحدث في كرتنا. إذن، تابعت مشوار “الخضر” في التصفيات المؤهلة لكأس العالم وكأس إفريقيا 2010؟ وكيف؟؟ لم أضيّع أي لقاء من التصفيات وتابعت كل المباريات بنفس المشاعر والعواطف التي تميّزني دائما، صراحة منتخبنا الوطني جعلنا نعيش لحظات استثنائية لا تنسى. ومن من اللاعبين نال إعجابك؟ الكل نال إعجابي وتقديري بالنظر إلى مردودهم فوق الميدان، أتذكر أنه بعد اللقاء الفاصل أمام مصر في أم درمان لم نكن نتكلّم سوى عن شخصين وهما شاوشي وعنتر يحيى، لكن كنا نتساءل قبل ذلك كيف سيتصرّف مغني. صراحة الكل كان في المستوى، فيبدة مثلا كان مدهشا شأنه شأن حليش، غزال، بوڤرة والآخرون. كل شخص في السجن كان يشجع والكل كان يهتف باسم مطمور، صايفي، أو زياني. كيف لا نحب هؤلاء بعد التأهل الرائع إلى المونديال الذي حققوه، كل اللاعبين يستحقون الاحترام والتقدير والشكر على ما بذلوه، لقد أصبحوا أبطالا حقيقيين، وبصفتي مدربا لا يفوتني أن أنوّه بالدور الذي لعبه الطاقم الفني للمنتخب وكذا الطاقم الطبي والمسيرون القائمون على “الخضر”، فالكل سهر حتى يبلغ اللاعبون أعلى مستوياتهم، وإذا كان منتخبنا قد وصل إلى ما هو عليه فهذا بفضل رجال الخفاء الذين هيّأوا كل ظروف النجاح. كيف كانت الأجواء أثناء لقاءات المنتخب؟ لا يمكن تصور الأجواء حين كان المنتخب يستعد للعب أي لقاء، كانت التعبئة العامة بأتم معنى الكلمة، لم نكن نتحدث إلا عن اللقاء وعن اللاعبين، تابعت كيف أن المنتخب يجمع الناس، كان أمرا مدهشا ما يحدث، حتى الأشخاص كانوا في اليوم الموالي من اللقاءات ينادون بعضهم بأسماء اللاعبين مثل زياني، بوڤرة أو مطمور، فكل واحد كان له اللاعب الذي يحبّه وكأنه أحد أقاربه. لو تصبح غدا مدربا للمنتخب، هل ستأخذ اللاعبين لزيارة المساجين؟ لا أدري، هذا مرتبط بمبادرات شخصية!، لكني أقول إن كل الزيارات مرحب بها حين تكون في السجن، فما بالك حين تكون من هذا العيار... على كل حال، لو يتم هذا الأمر فهذا سيدخل البهجة لنفوس المساجين ويعطيهم أيضا القوة لتحمّل وضعهم. وقعت أحداث خارج السجن وأنت كنت داخله، ما هي أصعب لحظة عشتها؟ كل الأيام كان لها وقعها، لكن اللحظات السعيدة التي مررنا بها ونحن في الزنزانة خففت علينا نوعا ما وساعدتنا على الصبر. لقد أمضيت أوقاتا صعبة في السجن بعد علمك بوفاة أمك، كيف عشتها؟ من الصعب تذكر ذلك، كنت قد تركت والدتي ووالدي اللذين كانا كبيرين في السن ومريضين، كان ذلك أحد الأمور التي كانت تشغل بالي كثيرا عندما يسجن الشخص تراوده بعض الوساوس التي تجعله يفكر في أنه من الممكن أن يفقد شخصا غاليا في أي وقت وفي أي لحظة وأن لا يكون إلى جانبه في تلك الأثناء، وهو إحساس مؤلم جدا يجب التوقف عن التفكير فيه بسرعة، وإلا سيصبح التعايش مع الوضع أكثر صعوبة. وفاة والدتي رحمها الله كانت دون شك أصعب ما اعترضني في حياتي لأنني علمت بذلك بطريقة خاصة، مؤلمة ومأساوية. من أبلغك بوفاة والدتك؟ كنت أتصفح جريدة، ففوجئت بوجود تعزية موجهة لي إثر وفاة والدتي، تركت الجريدة وتراجعت مذهولا، لم أستوعب أن الأمر يخصني، وأن يسقط ذلك على رأسي بتلك الطريقة العنيفة. بعد ذلك كانت الثغرة السوداء، كانت عاصفة في رأسي (سكت مطولا). أمر صعب أن يفقد شخص ما أمه، وألا يكون حاضرا على الأقل لدفنها. لماذا لم يسمحوا لك بحضور مراسم دفن والدتك؟ ما قيل لي هو إن المخول لهم باتخاذ قرار السماح لي بالخروج آنذاك لم يتم الاتصال بهم في الوقت المناسب، ما جعل إمكانية حضوري الدفن مستحيلة. لم أستطع الخروج إذن ولم أعلم بدفنها إلا بعد فوات الأوان، لقد كان ذلك الظرف الأكثر صعوبة الذي عشته، وكان من الصعب تجاوزه لأن ذلك الأمر سيبقى راسخا في ذهني ودامت تلك المرحلة شهورا، لقد أحسست أن معلما هاما في حياتي اختفى، فعندما يفقد أحد ما والدته فإنه يفقد معها أشياء كثيرة، والدتي ككل الوالدات هي كل شيء في نظري، أن ترحل بهذه الطريقة دون أن أكون إلى جانبها على الأقل في اللحظات الأخيرة من حياتها، أعلم أن هذه هي الحياة وسنغادرها يوما لكنني أقول في قرارة نفسي إنني فوتت على نفسي واجبا خاصا في حياتي، آخر واجب كان عليّ تجاه والدتي، لم أستطع أن أقوم به، لم أقم به وذلك ما زال يحرق قلبي. ومع خروجك من السجن فقدت والدك كذلك... بالنسبة لوالدي، مع أنني كنت قد خرجت من السجن ورأيته مجددا وعشت معه أيامه الأخيرة إلا أن ذلك لم يرحني كثيرا، لكني كنت في حال أحسن من التي كنت عليها بعد أن فقدت والدتي، في الحقيقة لم نبق معا طويلا، إذ لم نلتق إلا لثلاثة أسابيع بعد خروجي ثم مرض فنقلناه إلى المستشفى أين توفي بعد 48 ساعة، لم نبق سويا لفترة طويلة، فثلاثة أسابيع فترة قصيرة، هو أيضا فارقنا لكن كان لي الحظ أني كنت معه في أهم الأوقات، كنت معه في المستشفى ودفنته بنفسي، والحمد لله أنني كنت معه والتقينا قبل أن يرحل. لكن كانت هناك أوقات أخرى صعبة في السجن. مثل رحيل صديقك محمد خديس. نعم كنت أريد أن أتحدث عنه، في السجن تلقيت ضربتين موجعتين، فقداني والدتي رحمها الله ومحمد خديس صديقي منذ الطفولة، هاتان الضربتان لم أستوعبهما، وستبقيان محفورتين في قلبي طيلة حياتي، لقد فارقنا محمد خديس فجأة وهو الذي كان قد زارني مع جمعية “أولاد الحومة” قبل شهرين من وفاته، لقد كان في صحة جيدة حينها، عندما كنت أتفرج التلفاز شاهدت صورته مع تعليق يعلن تعرضه لأزمة قلبية توفي على إثرها. ابنك أنيس أيضا لاعب كرة قدم في نادي بارادو، ما رأيك في طريقة لعبه؟ ابني كان مولعا بكرة القدم منذ صغره كغيره من الشباب، لم أمنعه يوما من ممارسة هوايته، صحيح أنني كنت أشجعه على المواصلة لكن لم أكن أتدخل فيما كان يقوم به. لقد تدرج عبر صنفي الأشبال والأواسط في نصر حسين داي وكان يتدبر أموره بشكل جيد، يبقى عليه أن يواجه بعض التحديات حتى يبلغ ما يصبو إليه، هو يعلم أن كرة القدم مهنة تتطلب الكثير من التضحيات، وعلى كل لن أتدخل في مشواره إلا ببعض النصائح الأبوية، تعلمون أنه في كرة القدم على اللاعب أن يقود مشواره لوحده. الكثيرون يقولون إن أنيس كان سينال فرصته في نصر حسين داي لو كان أبوه خارجا، هل توافق ذلك؟ لا أدري، لكن صحيح أنه لم تتم مساعدته، أنيس واجه صعوبات لأنه ولدي لكنني كنت أقول له دائما إننا عندما نعمل ونؤمن بما نقوم به ونمنح كل ما عندنا ينتهي الأمر بنا دائما إلى النجاح رغم الصعاب، أعلم أن له إمكانات ليصبح لاعب كرة قدم لنقل عاديا في انتظار أن يعمل أكثر للوصول إلى أبعد الحدود. هل ترى أن نظرة الناس والأصدقاء لك تغيرت اليوم؟ بالعكس فقد وقفوا معي دائما وشجعوني أنا وعائلتي، الكثير من أصدقائي كانوا حاضرين في غيابي لقد أدركت ذلك من خلال دعمهم لعائلتي. وقد تلقيت مفاجأة سعيدة حين قررت مواجهة العالم الخارجي فقد تأكدت أنه ليس علي أن أقلق، أحداث حياتي جعلت ذلك يحدث بأسرع مما كنت أتمنى، فعند فقدان والدي الكثير من الناس حضروا مراسم دفنه وقابلت بذلك الكثير من الناس بسرعة وكنت حينها منشغلا بفقدان والدي ولم أعر اهتماما لنظرة الناس، لكن أؤكد لكم أنه لم تكن هناك أي نظرات تضايقني. هذا يساعدك كثيرا على أن تشعر بأنك مقبول بينهم... طبعا، هذا أمر محفز عندما تقرأ ذلك في نظراتهم، هذا يمنحك رغبة في أن تذهب إليهم في كل الحالات. هل كانوا جميعهم هنا؟ كثير من الناس الذين أتوا لزيارتي من بينهم أنصار وبعدها أصبحت أخرج إلى الشارع كما كنت أفعل سابقا بشكل عادي. يمكن القول إذن أنها تجربة وقد مرّت السجن مكان محرج، حتما هناك أشخاص لهم طاقة استيعاب أكثر من آخرين، لكن بالنسبة لي لم أقدر على الإحتمال، حتى أن الحديث عن السجن في العائلة يكون ثقيلا وفضيعا. ربما أنت الوحيد في العائلة من دخل السجن. الوالد دخل السجون الفرنسية لأنه كان مجاهدا، كان رحمه الله معجزة في معركة عنابة لأنه أصيب بوابل من الرصاص وكاد يستشهد لولا أن الله قدّر له طول العمر. لقد دخل السجن بعد ذلك وبقي فيه مدة 3 سنوات، مع الفرق أنه سجن في سطيف وأنا في البويرة. لنتحدث الآن عن المنتخب الوطني، ما هي نقاط قوته ونقاط ضعفه؟