هناك عبارة عربية جميلة وجد معبرة تقول: »تمخض الجبل فولد فأرا«. إنه حال موقع ويكيليكس الذي يشغل العالم هذه الأيام. ويكيليكس، أحدث ضجة كبيرة جدا وجعل كل وسائل الاتصال الجماهيرية تتابع ما ينشره من وثائق وتعلق عليها؛ لكن عندما نخرج من دائرة التأثير الإعلامي ونفلت من حالة الانبهار بالكم الهائل من الوثائق »السرية« ومن المعلومات »الخاصة جدا«، ومما يقدم على أساس أنه اختراق لم يسبق له مثيل للإدارة الأمريكية.. عندما نتجاوز كل هذا، وننظر للأمر بعين النقد فماذا نجد؟. الجواب بسيط: لا شيء تقريبا، فكل ما نصادفه هي مجرد بقايا وثائق أي des déchets . هذا الكلام قد يفاجئ الكثير،؛ لكنها الحقيقة. ماذا أضاف لنا موقع ويكيليكس في خرجتيه المتتاليتين من معلومات لا نعرفها من قبل؟ الخرجة الأولى، خصصت لما قيل أنها وثائق سرية حول العراق، وهي وثائق لم تضف أي شيء جديد عما كنا نعرفه من قبل. كل الناس كانت تعرف بأن حقوق الإنسان وحتى الحق في الحياة أصبحت من الكماليات في العراق، وأن مئات الآلاف من العراقيين قتلوا ومثلهم سجنوا وعذبوا ورحلوا وهجروا؛ وقد جاء الموقع ليواصل الحرب الإعلامية التي تخوضها أمريكا ضد الشعب العراقي بعد حربها العسكرية عليه، وذلك من خلال النقاط التالية على وجه الخصوص: - اللعب على الأرقام بالقول: مقتل 109 آلاف عراقي 66 ألفا منهم مدنيون منذ الغزو الأمريكي، بينما الحقيقة تقول بأن عدد الضحايا العراقيين يتجاوز المليون شهيد؛ - إبراز المقاومة العراقية الشريفة على أنها مجرد عصابات شيعية ممولة ومسلحة من طرف إيران، وأن الذي يواجه الجيش الأمريكي ليس العراقيون بل الإيرانيون؛ - إبراز حالات التعذيب المرتكبة من قبل العراقيين لمسح صور أبو غريب وغواتانامو وغيرهما من المعتقلات الأمريكية التي انتهكت فيها إنسانية الإنسان العربي والمسلم. هذا أسلوب معروف في الاستراتيجيات الاتصالية بحيث تغطى حقائق بحقائق أخرى تبدو أنها أكثر خطورة من الأولى. - القول بأن الجيش الأمريكي »لم يفعل أي شيء« لمنع حالات تعذيب ارتكبتها القوات العراقية هو في حد ذاته تبرئة لهذا الجيش من الجرائم المرتكبة في العراق؛ - تحويل الاحتلال إلى مجرد أحداث شارك فيها العراقيون أنفسهم وذلك من خلال عشرات الوثائق التي تصف بعض الأحداث التي يمكن القول أنها معزولة مقارنة بالتدمير الرهيب الذي تعرضت له كل المدن العراقية على يد الجيش الأمريكي، ولعل الفلوجة هي خير شاهد على الجرائم التي ارتكبها هذا الجيش ضد العراق. هذه كانت المحاور الأساسية لما قيل أنها أسرار حول العراق، ثم جاءت الدفعة الثانية من الوثائق لتتعرض للعلاقات العربية-الأمريكية والعلاقات العربية-العربية والعلاقات العربية-الإسرائيلية. هذه المرة أيضا، فوجئنا، رغم الضجة الإعلامية- بأن ويكيليكس لم يضف، من خلال وثائقه، أي شيء لم نكن نعرفه. من لم يكن يعرف طبيعة العلاقات المتينة بين بعض المسؤولين العرب وحكام إسرائيل؟ من لم يكن مطلعا على مساعي بعض العرب لدى الإدارة الأمريكية كي تضرب إيران التي تزعجهم بمواقفها الثابتة من القضية الفلسطينية وبنموذجها في التنمية وتقسيم الثروة الوطنية؟ من يجهل وجود قواعد عسكرية أمريكية في بعض البلدان العربية؟ من لم يسمع بأن إسرائيل أخبرت السلطة الفلسطينية والحكومات العربية التي تقيم علاقات دبلوماسية معها بأنها ستقوم بحرب ضد قطاع غزة بهدف إضعاف حركة حماس؟ كل هذه المعلومات معروفة وسبق التعرض لها في الصحافة العربية، وكنا باستمرار نتصور ما هو أسوا من هذه الأخبار والمواقف؛ وعليه فكل ما قام به الموقع هو أنه منح وثائق موقعة من جهات رسمية تؤكد كل ما سبق أن قيل هنا في العالم العربي. لكن السؤال الذي تصر جهات إعلامية وسياسية عديدة على طرحه هو: ما هي آثار نشر هذه الوثائق على مستقبل العلاقات العربية- الأمريكية ومستقبل العلاقات العربية-العربية؟ الجواب بسيط وواضح وهو أنه لن يكون لنشر هذه الوثائق أية آثار مباشرة على العلاقات العربية-الأمريكية ولا على العلاقات العربية-العربية، فهذه العلاقات الأخيرة يحكمها المزاج باستمرار ولن تساهم وثائق ويكيليكس لا في تحسينها ولا في إفسادها. لكن ما حاولت الوثائق الجديدة التأكيد عليه هو أن بعض العرب يتآمر على بعض العرب الآخر. وأن بعض العرب يتآمر على إيران وان للأمريكان رأي غير جميل في القادة العرب. هذا كله موجود، لكنه كما قلت سالفا، هو معروف من قبل ونحن نتعايش معه. إنما المؤكد أن كل الوثائق تهدف فعلا إلى إظهار إسرائيل على أنها الدولة الوحيدة التي تتوفر على مقومات الدولة الحديثة في منطقة الشرق الأوسط. الغريب، أن ويكيليكس لم يصدر أية وثيقة تدين بشكل جدي إسرائيل. أليس هنا مربط التضليل وبيت القصيد؟