جاءت تسريبات الوثائق العسكرية الخاصة بحقيقة الأوضاع الداخلية بالعراق خلال الست سنوات الأخيرة من خلال موقع ''ويكيليكس'' لتثير كثيرا من التساؤلات عن حقيقة هذه الوثائق ومدى مصداقيتها، والسر الخفي وراء توقيت ظهورها للعلن، ومدى أثرها على الأوضاع السياسية المضطربة بالعراق، وهل أضافت هذه الوثائق معلومات جديدة لم يكن الرأي العام الداخلي والخارجي يجهلها؟ وغيرها من التساؤلات التي أثارها هذا الكشف الجديد، في الوقت الذي بات ينظر فيه الكثيرون لموقع ويكيليكس على أنه لعبة مخابراتية جديدة للبنتاغون، وأنه تم إنشاؤه خصيصاً من قبل المخابرات لاستخدامه للضغط علي الحكومات والأطراف التي تشب عن الطوق الأمريكي. الوثائق السريَّة التي نشرَها موقع ''ويكيليكس'' الأمريكي عن تفاصيل العدوان الأمريكي على العراق، وكذلك يوميَّات الاحتلال وممارسات القوَّات الأمريكيَّة ضدّ المدنيين العراقيين، وأيضا ممارسات الحكومات العراقية المتعاقبة والقائمة على الطائفيَّة وما ارتكبتْه من جرائم في حقّ المواطنين العراقيين.. هذه الوثائق لا يمكن تصوُّر نشرِها دون نوعٍ من التنسيق أو العلم من الإدارة الأمريكيَّة، بما يعني أن هذه الإدارة تريد توظيف هذه الوثائق لتحقيق أهداف معيَّنَة قد يكون من بينها بعض الخلافات مع نوري المالكي وكذلك بعض الخلافات مع المشروع الإيراني في العراق، وأن الإدارة الأمريكيَّة اختارتْ هذا التوقيت بالذات لتحدثَ هذه الوثائق أثرَها المطلوب. لكن، ورغم كل ذلك، فإنه من ناحية القيمة، فإن هذه الوثائق لم تُضفْ جديدًا ولم تخبرْنا عن شيءٍ لم نكن نعرفُه، فجرائم العدوان الأمريكي الغربي في حقّ كل ما هو عراقي معروفة ومسجَّلة وموثَّقة، وتحدثت عنها وسائل الإعلام الغربيَّة نفسها. وإذا كانت آلة الدعاية الأمريكيَّة الغربيَّة قد عملتْ بكل ما تملك على إخاء الحقيقة وتزوير الوقائع ونشر الأخبار المكذوبة وحجْب الجرائم وتقليل أعداد القتلى الأمريكان.. إلخ، فإننا لم نعدمْ طوال سنوات الاحتلال جهات إعلاميَّة نزيهة، عربيَّة وغير عربيَّة، كشفت الحقيقة وأحرجت الاحتلال وحكوماتِه الكاذبة، كما كانت هناك تقارير دوليَّة ألقت الضوءَ على كثير من الأوضاع، وكذلك كانت هناك تقارير غربيَّة عديدة أُضيفت إلى غيرها من التقارير التي رسمتْ صورة كاملة لحقيقة المأساة التي أوجدها العدوان والاحتلال الأمريكي الغربي لبلاد الرافدين. وهكذا فإن الباحث عن الحقيقة، الذي يشكُّ في الأخبار والتقارير الأمريكيَّة والغربيَّة التي وصفت وتابعت يوميَّات الاحتلال، استطاع أن يقف على الحقيقة كاملةً منذ أول يوم سقطت فيه بغداد في قبضة التتار الجدُد الذين فعلوا بها أكثر مما فعل التتار القدامى. ربَّما كانت القيمة الحقيقيَّة للوثائق التي نشرَها موقع ''ويكيليكس'' أنها أثبتتْ أن الذين وقفوا منذ اليوم الأول يقاومون العدوان ويفضحون جرائمَه لم يكونوا كاذبين أو مبالغين وإنما كانوا صادقين، بل ربما كانت مشكلتهم أنهم نقلوا، لإمكاناتهم المحدودة، بعض الحقيقة وليس كل الحقيقة، وتأتي هذه الوثائق لتؤكِّد أن الغالبيَّة العظمى لما نُشر عن يوميَّات الحرب كانت صحيحةً، كما تكمن أهمية ما نُشر في كونه بات عملًا وثائقيًّا وشاهدًا بالكلمات والأرقام والتواريخ والأسماء على ما جرى في العراق منذ أن دنَّسَه الاحتلال الأمريكي. حقائق مروعة وأطراف متورطة الوثائق التي نشرها الموقع على شبكة الإنترنت، اعتمد في الأساس على ملف المخابرات الأمريكية من واقع سجلاتها اليومية عن الأوضاع داخل العراق، ولكن طريقة العرض لهذه الوثائق جاء بعقد مقارنات بين آثار الحرب الأمريكية على العراق ونظيرتها على أفغانستان في نفس المدة الزمنية، وهي طريقة ذكية وذات دلالات سياسية واستراتيجية هامة، أعطت في النهاية تصورا أمريكيا متعمدا عن المالكي والنفوذ الإيراني في العراق، ولكن بصورة مروعة. فقد نشر موقع ''ويكيليكس'' حوالي 400 ألف وثيقة سرية للجيش الأمريكي حول حرب العراق، وصرح ''جوليان اسانج'' مؤسس الموقع الشهير لشبكةCNN الأمريكية أن الملفات الأمريكية السرية التي كشفها موقعه تتحدث بالتفصيل عن ''حمام الدم'' الذي يمثله النزاع في العراق، وردا على سؤال للشبكة الأمريكية حول كشف هذه الوثائق، أكد اسانج أن الملفات صورة للوضع في العراق أكمل من الوثائق التي كشفت من قبل حول النزاع في أفغانستان ، وقال :''إن هذه الوثائق تكشف ست سنوات من النزاع بتفاصيل قادمة من الميدان القوات المنتشرة وتقاريرها وما كانت تراه وتقوله وتفعله''، والست السنوات المقصودة، هي مدة ولاية المالكي في رياسة وزارة العراق، وتشير الملفات التي نشرت إلى مقتل حوالي 109 آلاف شخص خلال ست سنوات، مقابل عشرين ألفاً في أفغانستان كما كشفت الوثائق التي نشرها الموقع من قبل. وأضاف اسانج أن ''عدد القتلى أكبر بخمس مرات في العراق ويمثل حمام دم حقيقياً بالمقارنة مع أفغانستان''، وتابع أن الوثائق ''لا تقدم مجرد فرضيات مثل 'قتل كثيرين في الفلوجة' بل تتحدث عن كل وفاة مع إحداثيات جغرافية محددة والظروف التي قتل فيها الأشخاص''، كما كشفت الوثائق المسربة أن مئات المدنيين قتلوا على الحواجز الأمريكية في العراق وان الجيش الأمريكي تستر على أعمال التعذيب الذي تمارسه قوات الأمن العراقية، وأن القيادة العسكرية قد أمرت جنودها بعدم التدخل في الأمر. رغم أن الوثائق السرية الجديدة التي نشرها موقع ''ويكيليكس'' لم تتضمن جديدا حول بشاعة ما يحدث في العراق، إلا أن هذا لا يقلل من أهميتها فهي بمثابة أدلة موثقة ورسمية على جرائم الاحتلال وأعوانه في بلاد الرافدين، وتعتبر أبرز استنتاجات التقرير هي تورط رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته نوري المالكي والحرس الثوري الإيراني في عمليات قتل وتعذيب منهجية ضد أهل السنة وتستر قوات الاحتلال الأمريكي عن تلك الجرائم، وأشارت إلى أن قوة عسكرية تابعة للمالكي شنت عملية اعتقال ضد خصومه السياسيين، كما تورطت في عمليات إبادة واسعة بحق أهل السنة جعلته أقرب ما يكون بزعيم عصابة إرهابية لترويع أهل السنة وتهجيرهم وربما إبادتهم بالكلية. التقرير أبرز بما لا يدع مجالا للشك شخصية المالكي الغالية والمتطرفة في طائفيتها، ولعل الأرقام التي نشرتها الوثائق حول التطهير الطائفي الذي حدث في العراق بعد تولي المالكي رئاسة الحكومة مباشرة تلقي أيضا الضوء على ما أطلق عليه ''مخطط المالكي لإبادة أهل السنة في العراق''، فوفقا للوثائق، فإن التطهير الطائفي المنظم هو الذي أوصل عمليات القتل بالعراق إلى درجة مرعبة وبات ديسمبر 2006 أسوأ شهر يشهده العراق حيث قتل نحو 5146 مدنيا غالبيتهم العظمي من أهل السنة، كما كشفت الوثائق عن اعتقال 180 ألف مواطن عراقي من أهل السنة تحت داعي الحرب علي العراق ومكافحة الإرهاب، كما أظهرت الوثائق التي تغطي الفترة بين الأول من يناير 2004 حتى ديسمبر 2009 تورط القوات العراقية بعمليات التعذيب المنهجي للسجناء باستخدام وسائل تعذيب عديدة بينها الكهرباء والانتهاك الجنسي كما ثبت أن عددا من أفراد الشرطة العراقية من السنة جرى قتلهم على أيدي تلك القوات الخاصة التابعة للمالكي والتي كان يحذر على السنة الالتحاق بها، فهي كانت قوات شيعية خالصة. لماذا النشر في هذا التوقيت تحديدا؟ توقيت الكشف عن هذه الوثائق لا يخلو من شكوك وظنون، فالمالكي الذي كان الرهان المفضل عند الأمريكان والإيرانيين في آن واحد لوقوفه على مسافة واحدة بين الطرفين، وكان من قبل بمثابة المنسق العام للعلاقات الخفية بين الصديقين اللدودين، بات ثقيلا علي المزاج الأمريكي، وعلى ما يبدو أن حظوظ المالكي مع الأمريكان قد بدأت تتهاوى شيئا فشيئا، ومن ثم لجأ الأمريكان لموقع ''ويكيليكس'' للتشهير بالمالكي وفضحه وإظهار طائفيته المقيتة، والكشف العلني لجرائمه بأهل السنة في العراق، مدى تورط الإيرانيين في هذه الجرائم المروعة. ولكن لماذا غضب الأمريكان من المالكي؟ المالكي كما نعلم ويعلم العالم جميعا، إيراني الهوى والهوية، بل هو إيراني أكثر من الإيرانيين، وهو لا يستطيع أن يكتم حبه الجارف وطاعته التامة لإيران، كما أنه صاحب شخصية متهورة ومتعجلة في أخذ القرارات، لذلك أخذ في الأيام الفائتة، وبعد أن هدأ خاطره واطمأن من ناحية إعادة توليه لمنصب رياسة الوزراء، راح في تقديم فروض الطاعة وقرابين وعرابين العرفان ورد الجميل لأسياده الإيرانيين، فقام بعدة زيارات لإيران أعطاها في خلالها الضوء الأخضر لتولي ملف إعادة إعمار العراق، وهذا يعني أنه قد أعطي الكعكة كلها لإيران، وهو بذلك قد تعدي كل الخطوط الحمراء، ونسي أن الأمريكان ما زالوا محتلين للعراق، وما زالوا هم أصحاب الكلمة العليا هناك، أو على الأقل هكذا يظنون، وما قام به المالكي من تنازلات وعروض لإيران قد تجاوز سلطاته وصلاحياته من وجهة النظر الأمريكية، فأراد الأمريكان بهذه الطريقة الإعلامية المحسوبة بدقة تعرية المالكي أمام خصومه السياسيين، وإجهاض محاولاته تسليم العراق على طبق من ذهب للإيرانيين. وقد يري البعض أن هذا الكلام محض خيال وأن هذا الموقع وغيره من الموقع الإعلامية أو الصحفية هي مواقع حرة ولا قيود عليها، وهذا محض خيال دحضه صاحب الموقع نفسه، فقد أقر جوليان أسانج في مؤتمر صحفي عقده في لندن في 23 أكتوبر بأنه امتنع عن نشر بعض الوثائق بسبب احتوائها على معلومات حساسة قد تعرض قوات الاحتلال الأمريكية في العراق للخطر وهو الأمر الذي يؤكد أن هناك ما هو أخطر بكثير مما تم نشره حول جرائم الاحتلال الأمريكي بالعراق وأن أسانج رضخ لتهديدات البنتاجون في هذا الصدد، كما يؤكد على أن صفقة سرية عقدها الأمريكان مع ''ويكيليكس'' تتراجع بموجبها الضغوط عليه لمنع نشر الوثائق حول حرب العراق مقابل قيامه بحجب الوثائق التي تفضح أبعاد المؤامرة الأمريكية بالكامل في بلاد الرافدين والتركيز فقط على ما يدين المالكي وإيران أي أنهم اختاروا التضحية بالمالكي في الوقت الذي كاد يقترب فيه من رئاسة الحكومة العراقية مجدداً، أو على الأقل تقليم أظفاره ليعود إلى صوابه ويعرف حجمه الحقيقي. الأمريكان بهذا الكشف الجديد عن وثائق وحقائق الحرب القذرة في العراق علي أهل السنة وجرائم الفساد المروعة والمتفشية هناك قد أعادوا العملية السياسية للمربع الصفر مرة أخرى، وردوا الصاع لسوريا وإيران بعد أن نجحت المكيدة المزدوجة منهما في إدخال التيار الصدري في منظومة الحكم في العراق بالثلث المعطل، وأعيدت تشكيل خريطة التحالفات مرة أخرى بالتزامن مع إعلان تحالف علاوي مع الحكيم، واللعب بالورقة الكردية، على الرغم من موافقة المالكي علي كل طلباتهم التسعة عشر عدا طلب واحد وشعر خصوم المالكي أن مسألة حسم المنصب لصالحه باتت محل شك، ولعل ذلك يفسر زيارة المالكي الخاطفة للأردن ومصر من أجل تحسين علاقات المالكي مع الأمريكان والتي تأثرت كثيرا منذ حجته الشهيرة لطهران الأسبوع الماضي وعرضه السخي لإيران بتعمير العراق . البعد الأهم في حكاية موقع ''ويكيليكس'' منذ أن بدأ موقع ويكيليكس الالكتروني نشر الوثائق السرية المسربة من السجلات العسكرية الأمريكية في أفغانستان والإعلام الأمريكي لا يهدأ عن متابعة الوثائق وما ورد فيها وعن المتابعة اللحظية للعلاقات بين وزارة الدفاع الأمريكية وإدارة الموقع والمفاوضات الجارية لوقف نشر ما تبقى من وثائق.. الخ. كما تابع المراقبون توسع نشر الوثائق بالنقل من هذا الموقع، من قبل صحف غربية معروفة ومستقرة بما أعطى السبق للموقع ووسع من مساحة نشر الوثائق وزاد من الجمهور المنشغل بالجدل حولها، وحول الموقع. وهكذا أصبح الموقع في بؤرة الأحداث، ومصدراً للمعلومات الخاصة جدا،بما جعله يندفع مجددا ويعلن أنه سيبدأ في نشر وثائق عن حرب العراق هي الأخرى، بما يتبعها من ضجيج، وهو يحول الموقع إلى ظاهرة اعلامية تستحق البحث والتأمل. وسط تلك التطورات، تركز الحديث عن ما تضمنته الوثائق السرية المنشورة،من إشارات إلى تعاون المخابرات الباكستانية مع حركة طالبان، وهو ما دفع السلطات الباكستانية للدخول في معركة لنفي ما ورد بهذا الصدد. كما جرى الحديث عن مخاطر نشر أسماء عملاء افغان متعاونين بشكل سري مع قوات الاحتلال الأمريكية، إذ نظر بعض المراقبين لهذا النشر، باعتباره بلاغاً لحركة طالبان بأسماء هؤلاء العملاء بما يسهل عليها اصطيادهم او قتلهم. والنتيجة، أن موقع ويكيليكس صار محط اهتمام كل الساسة، وأصبح نقطة اهتمام من وسائل الإعلام الأخرى، بما دفع للاهتمام الدولي به ومتابعة ما ينشر عليه. وإذا توقفنا في هذا المشهد قليلاً، وبحثنا في خلفياته وظروف ظهوره وكل هذا الذي يجري بشأنه، نجد أنه جاء في نهاية مرحلة طويلة من شكوى العسكريين الأمريكيين من تفوق إعلام المتمردين ''المقاومين ''- الإرهابيين او المعارضين او المعادين للولايات المتحدةالأمريكية، اياً كانت التسمية على الإعلام الأمريكي. كان وزير الدفاع الأمريكي السابق رونالد رامسفيلد، دائم الشكوى لهذا السبب. كما نجد أن هذا الاهتمام أو لفت الأنظار إلى خطورة ما ينشره هذا الموقع قد جاء بعد ما تعرضت له وسائل الإعلام الأمريكية '' العولمية ذات التأثير الدولي الواسع، من حالة ضعف أمام الإعلام الحديث بصفة عامة إذ تدهورت الأوضاع الإعلامية والمالية لكل الصحف والمجلات الأمريكية الشهيرة'' في مقابل ظهور وتأثير وسائل تقليدية اخرى على المستوى الدولي لعل أهمها دير شبيغل الألمانية، يطرق العقل ويمثل مفتاحا لفهم ظاهرة ويكيليكس وابعادها، والاهم في التفسير هو أن مواقع أمريكية اخرى علي الشبكة العنكبوتية، شهدت ترويجاً واهتماما من قبل إدارة اوباما والرجل نفسه، إذ لعبت المواقع الالكترونية دوراً بارزاً في انتخابات الرئاسة الامريكية السابقة. واذا تابعنا ذات الفكرة، سنجد أن مواقع اليكترونية أمريكية شهدت دعماً وتوسعاً على صعيد التأثير الدولي، يعد أهمها موقعي فيس بوك وتويتر، وأن تلك المواقع صارت تلعب دوراً خطيراً في هذا التأثير الدولي بأبعاده السياسية والاجتماعية والقيمية. الوثائق.. واللعبة واقع الحال أن حكاية نشر أكثر من 90 الف وثيقة من السجل العسكري السري للقوات الأمريكية في أفغانستان، امر يحتاج في حد ذاته إلى تفكير وتدقيق. كما أن اتجاهات الوثائق ومؤشراتها هي في حد ذاتها تحمل مؤشرات تظهر قراءتها، أن امر نشر كل تلك الوثائق هو جزء من خطة إعلامية '' مساندة'' للخطة الإستراتيجية الأمريكية وليست فعلاً مضاداً للخطة والقوات الأمريكية !. في مسألة تسريب كل هذا الكم من الوثائق السرية من السجل العسكري الأمريكي، فالأمر إذا تعرض للتمحيص يبدو صعب التصديق أو يستحيل استيعاب حدوثه. فمن ناحية لم نر رد فعل أمريكياً علي صعيد المؤسسة العسكرية يتناسب مع هذا الحدث الجلل، ومن ناحية ثانية لا يمكن تصور أن الامور ''سائبة'' إلى هذا الحد في الحفاظ علي الوثائق الأمريكية في ظل وجود قوانين سرية المعلومات وتحديد أزمان معينة للكشف عن الوثائق، كما أن الوثائق السرية جرى تسريبها من داخل جهة عسكرية معروف عنها الشدة والصرامة في الحفاظ على إسرارها. الامر لا يصدق، إذ نحن امام مؤسسة عسكرية ما يميزها هو التقدم التقني والتكنولوجي وخاصة في مجال'' المعلوماتية''، وهي ليست فقط '' الجهة'' التي '' اخترعت الانترنت'' الذي احدث هذا الانقلاب في الحياة االانسانية بكافة جوانبها، بل هي الجهة التي تملك أعلى القدرات في مجال الحواسب الآلية وبرامجها، اذ هي تعتمد أساساً على تلك الحواسب والبرامج في تفوقها الدولي. لا يعقل ونحن نرى مؤسسة بهذه الدرجة من التطور أن نسمح لعقولنا بالاستغفال إلى درجة تصديق، خروج نحو91 ألف وثيقة من السجل العسكري للجيش الأمريكي، تتعلق بمجريات حرب ما تزال وقائعها جارية! لكن اللافت ايضاً، او لنقل الكاشف، ان تلك الوثائق التي نشرت قد تمركزت حول ذات القضية التي يجري تداولها في تصريحات المسئولين الأمريكيين ووسائل الإعلام الأمريكية الأخرى وفي ذات الاتجاه والتأثير. القضية الأساسية في الوثائق التي نشرها الموقع، هي قضية مساندة المخابرات الباكستانية لحركة طالبان الأفغانية، التي هي ذات القضية وذات الاتجاه الذي ورد في التصريحات الأمريكية الرسمية كثيراً ومطولاً حتى وصلت العلاقات الأمريكيةالباكستانية حد الأزمة الشديدة. لقد نشر الكثير عن أن الخطة الإستراتيجية الأمريكية في الحرب على أفغانستان منذ وصول اوباما للسلطة تتمثل في تطوير المعركة باتجاه باكستان، كما أعلنت مؤخراً إن خطة الانسحاب الأمريكية من أفغانستان تقوم بالأساس الآن وفق دوائر أمريكية عديدة- على جعل باكستان سبب فشل الحملة العسكرية العدوانية الأمريكية، حتى لا تكون قوة الولاياتالمتحدة وهيبتها قد ضربت في الصميم أمام حركة طالبان، وكذلك تحدثت دوائر أمريكية وغربية عديدة، تحدثت في الفترة الأخيرة، حول توجه استراتيجي أمريكي حالي، لتغيير التحالف القديم كان قائما خلال الحرب الباردة مع باكستان، إلى تحالف مع الهند، تحقيقاً للمصالح الغربية في محاصرة الصين، وبسبب أن باكستان في تحالف مع تلك الدولة. هي اذن عملية ''عسكرية'' مرتبة مدبرة ضمن فعاليات نشر ما تريد نشره القيادة الأمريكية، ومن خلال وسيلة اشد فعالية في تحقيق أهداف النشر، إذ لو نشرت تلك الوثائق في وسائل إعلامية أمريكية مباشرة'' لكان الأمر محل شكوك، أما نشرها في موقع مؤسس وينشر من خارج الولاياتالمتحدة، وإثارة الضجيج والرفض حول ما نشره، فهو في قلب الهدف تماماً.