شكلت سنة 2010، مرحلة مفصلية في مسار السياسة الخارجية للجزائر، أو بالأحرى نشاط الدبلوماسية الجزائرية، ليس بالنظر إلى تبادل الزيارات على أعلى مستوى من وإلى الجزائر، وإنما من حيث انتقال الأداء الدبلوماسي من مستوى تحسين صورة الجزائر التي عبثت بها الجماعات الإرهابية المتوحشة، وزادت من التنكيل بها ثلة من السياسيين المحسوبين ظلما وزورا على معارضة تحترف التسول أمام بعض السفارات الأجنبية بالبلد، إلى مرحلة قيادة مبادرات إقليمية وقارية ودولية لإعادة صياغة عدة مفاهيم والترويج لمقترحات يعتقد مهندسو السياسة الخارجية أنها كفيلة بإنصاف الدول وتحقيق توازن في العلاقات الدولية. فما هو حصاد الدبلوماسية الجزائرية خلال السنة التي تشرف على نهايتها؟ وماهي المعالم والمرتكزات التي شكلت محور تحرك الجهاز الدبلوماسي؟ وإلى أي حد يمكن القول أن الجزائر أصبحت طرفا رئيسيا في صياغة مبادرات الشراكة الدولية؟ **رياض هويلي بادئ ذي بدء لابد من الإقرار قبل الخوض في حصاد الدبلوماسية للعام 2010، أن الرئيس بوتفليقة ظل المهندس الرئيسي للتحركات الدبلوماسية، سواء على المستوى الإفريقي، الذي يمثل العمق الاستراتيجي للسياسة الخارجية، أو على الصعيد العربي، حيث عادت الجزائر بقوة لتفعيل العمل العربي المشترك والمساهمة في حل الخلافات التي تعترض العلاقات العربية – العربية الثنائية والمتعددة الأطراف أحيانا. أما على الصعيد المتوسطي والأوروبي فقد سجلت الجزائر عودتها القوية للساحة الأوروبية كدولة يحسب لها أللف حساب على الصعيد الإقليمي والدولي، تماما مثلما هو الحال بالنسبة لأمريكا وروسيا والصين، وحتى إيران أيضا كانت من بين اهتمامات الدبلوماسية الجزائرية. ومن هنا فلا غرابة إن خصصنا حيزا لنشاطات الرئيس بوتفليقة على الصعيد الخارجي خلال هذه السنة، بغية الوصول إلى حصر النتائج المحققة دبلوماسيا طيلة عام من النشاط. الرئيس بوتفليقة يتحرك في كل الاتجاهات من الواضح أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لم يخفض من وتيرة تحركه خارجيا رغم مرور عشر سنوات كاملة على حكمه، فقد واصل الرئيس نشاطاته الدبلوماسية، نحو مختلف الدول والمنظمات الإقليمية والدولية مرافعا للجزائر أولا، وللقارة الإفريقية ثانيا، ولصالح القضايا العربية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، والصحراء الغربية، فكثيرا ما كانت المحافل الدولية تردد صدى صوت الجزائر العائد من بعيد، تماما مثلما ظلت طيلة سنة كاملة قبلة للرؤساء والزعماء والملوك. إفريقيا..العمق الاستراتيجي منذ وصوله لسدة الحكم عام 1999، وضع الرئيس بوتفليقة العمل الإفريقي ضمن أولويات السياسة الخارجية الجزائر، وتجلى ذلك بوضوح من خلال مبادرته رفقة زعماء أفارقة إلى طرح مبادرة الشراكة من اجل تنمية إفريقيا المعروفة اختصارا )النيباد(، حيث تحمل الرئيس بوتفليقة منذ إقرارها على التسويق لأهدافها ومبادئها على المستوى الدولي، فكانت كل مداخلاته تتضمن الدعوة إلى إشراك النيباد في المشاريع الدولية، سواء مع أوروبا، أو من مجموعة الثمانية الكبار، أو حتى مع الاتحاد الإفريقي، الذي أقر مؤخرا إدماج »النيباد« ضمن هياكله. وتقوم »النيباد« على جملة من الأسس التي يعتقد مؤسسوها أنها كفيلة بالنهوض بالقارة السمراء ومحاصرة وبؤر التوتر، وذلك من خلال حصر الإمكانيات اللازمة لتنمية القارة والاستثمار في الإنسان والتأسيس لدولة الحق والقانون واعتماد آليات الحكم الراشد. وبالنظر إلى الوضعية المعقدة للعديد من الدول الإفريقية التي مزقتها الحروب الأهلية والصراعات القبلية، ونهب الشركات المتعددة الجنسيات، وعدم احترام الدول الكبرى لالتزاماتها تجاه القارة، فقد عمل الرئيس بوتفليقة رفقة بعض زعماء القارة على إعادة ترتيب أولويات إفريقيا وصياغة خطاب قاري موحد في التعامل مع الدول المتطورة، ويستند هذا الخطاب بالدرجة الأولى على تثمين موارد القارة ورفض بقاء الدول الإفريقية سوقا للشركات الأجنبية التي تنهب ثروات القارة تحت مسميات متعددة ثم تعيد تسويقها لإفريقيا في حين تعيش معظم الدول القارة على وقع الفقر المدقع والأمراض الفتاكة والنزاعات المسلحة. ومن هنا جاءت المطالب الإفريقية التي تبناها الاتحاد الإفريقي، والقاضية بصيغة جديدة للتعامل، تقوم بالأساس على شراكة حقيقية تأخذ بعين الاعتبار المصالح المشتركة والفرص المتكافئة. المعطى الثاني الذي برز بشكل واضح خلال هذا العام وتجلى في مختلف خطابات الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، فيتعلق بالدعوة إلى إعادة تفعيل التعاون جنوب- جنوب، باعتباره من أهم الآليات التي من شانها المساهمة في تنمية القارة وتكريس مفهوم الاعتماد على السواعد الإفريقية، سيما في ظل عدم احترام الدول الكبرى لالتزاماتها تجاه الدول الإفريقية سواء تلك الالتزامات التي قطعتها الأممالمتحدة أو تلك التي أقرتها مجموعة الثمانية الكبار. الشراكة الإفريقية -العربية والإفريقية –الأوروبية على رأس الأولويات ومن هذا المنطلق فقد حرص الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على حمل الرسالة الإفريقية في مختلف القمم التي عرفتها سنة 2010 حضورا، ومرافعة واقتراحا، فقد عمل الرئيس في قمة إفريقيا – فرنسا التي انعقدت يوم 31 ماي 2010 على بلورة تصور واضح المعالم يجسد مفهوم الشراكة الفرنسية- الإفريقية والتي تتلخص في تبادل شروط التنمية والعمل من اجل شراكة متوازنة تاخد في الحسبان مصالح إفريقيا. اما في القمة العربية – الإفريقية التي احتضنتها سرت الليبية يوم 8 أكتوبر من نفس السنة، فكان للرئيس بوتفليقة مقاربة تنبني على التكامل بين الدول العربية ودول القارة الإفريقية التي يرتبط عديدة بعلاقة جوار مع نظيرتها العربية. إلا أن الرئيس بوتفليقة جعل من قمة أوروبا- إفريقيا التي دارت أشغالها بليبيا يوم 29 نوفمبر من العام الجاري، منبرا مميزا لطرح تصورات الجزائر ومن ورائها دول القارة للشراكة الحقيقية بين إفريقيا وأوروبا وبالأخص في المسائل الجوهرية المتعلقة بالتنمية والأمن والسلم، فقد تجند الأفارقة وراء الطرح الجزائري المدعوم من قبل ليبيا والمتعلق بمسالة الهجرة غير الشرعية، حيث رفضت الجزائر اعتماد المقترح الأوروبي القائم على الأبعاد الأمنية ورافعت بالمقابل للمساعدة من اجل التنمية وتقليص الهوة بين الشمال والجنوب. ليس هذا فحسب، فقد عملت الجزائر طيلة السنة التي تشرف على نهايتها من أجل الدعوة إلى إصلاح الأممالمتحدة وضرورة تخصيص مقعد دائم لإفريقيا في مجلس الأمن، لضمان توازن القرارات الدولية وجعل المنظمة الأممية أكثر تمثيلا، وضمان مشاركة القارة في صناعة القرار الدولي، وهو المطلب الذي لقي ترحيبا واسعا من قبل الاتحاد الإفريقي وباقي دول القارة التي تجنّدت وراء المقترح الجزائري. الأمن ومكافحة الإرهاب في القارة: قضية افريقية خالصة لم تكتف الدبلوماسية الجزائرية بالمبادرات المذكورة آنفا، بل خاضت حربا دبلوماسية شرسة من أجل تكريس الأمن في إفريقيا، وإبعاد شبح التدخل الأجنبي في الشؤون الإفريقية. ولعل المجهودات التي قامت بها الجزائر في الساحل الصحراوي من أجل تجميع الطاقات الإقليمية والمحلية لمحاربة الإرهاب ومنع الإطماع الغربية في المنطقة خير دليل، حيث تمكنت الجزائر بفضل مبادرتها إلى إقامة قاعدة عسكرية واستخباراتي عملية في تمنراست تجمع دول المنطقة لمحاربة الإرهاب، قطعت الطريق على المحاولات الفرنسية والأمريكية الرامية إلى وضع قدم في منطقة الساحل، الذي شهد تفاقما أمنيا ملحوظا، سيما في ظل تكرر عمليات الاختطاف للرهائن الأجانب. وبفضل المقاربة الأمنية الناجعة للجزائر، فقد سارعت دول كبرى لها وزنها في الساحة الدولية إلى تبني مقترح الجزائر القاضي بتجريم الفدية واعتبارها من مصادر تمويل الإرهاب، كما هو الحال لمجلس الأمن وبريطانيا والولايات المتحدةالأمريكية، وأخيرا الاتحاد الإفريقي، الذي اعتمد قانونا نموذجيا لمكافحة الإرهاب. العودة للساحة العربية من باب المصالحة العربية-العربية سجلت الجزائر عودتها للساحة العربية في خلال هذا العام من خلال استمرارها في دعم القضية الفلسطينية، سياسيا ودبلوماسيا وماليا، فرغم الانشقاقات الحاصلة في الصف الفلسطيني إلا أن الجزائر وقفت على مسافة واحة من كل الأطراف الفلسطينية، ورغم الانشراح فلم تقطع الحكومة الجزائرية بقيادة بوتفليقة المساعدات المالية عن الفلسطينيين، بل يمكن القول أن الجزائر البلد العربي الوحيد الذي وفى كل التزاماته المالية تجاه فلسطين كما تنص على قرارات الجامعة العربية. ونفس الأمر بالنسبة للقضية الصحراوية التي ظلت محل اهتمام الرئيس بوتفليقة في كل المناسبات الدولية والإقليمية. اما بخصوص العلاقات الثنائية العربية العربية فقد عملت الجزائر من اجل مصالحة عربية عربية باعتبارها السبيل الوحيد لحل القضايا العالقة وكذا تجميع الطاقات العربية لمواجهة التحديات. ولعل الزيارات التي قادت أمير دولة قطر الشيخ حامد بن خليقة آل ثاني إلى الجزائر خلال هذا العام، وأمير دولة الكويت صباح الأحمد الجابر الصباح، ونائب الرئيس السوري فاروق الشرع، ومستشار الرئيس السوداني طه رمضان والأمير ووزير الداخلية السعودي وغيرهم من الوفود العربية التي حلت بالجزائر، إنما تعكس المكانة التي تحتلها الجزائر على الصعيد العربي، خاصة وأن دعوتها لإصلاح هياكل الجامعة العربية بما يتلاءم مع المتغيرات الحاصلة في المجتمع العربي، قد لقت ترحيبا كبيرا من قبل العيد من الدول العربية، وإن كان البعض الآخر قد لاقاها بشيء من التحفظ. ما هو مثير للاهتمام في النشاط الدبلوماسي الجزائري للعام 2010، هو التقارب المسجّل في العلاقات الجزائرية – الإيرانية، فقد شهدت هذه الأخير تحسنا كبيرا مقارنة بالسنوات العجاف التي عرفتها العلاقات الجزائريةالإيرانية خلال فترة التسعينيات، حيث تبادل البلدان زيارات رفيعة المستوى أبرزها زيارة الرئيس الإيراني احمد نجاد إلى الجزائر وانعقاد اللجنة العليا المشتركة بطهران برئاسة احمد اويحي ونائب الرئيس الإيراني، واظهرا البلدين رغبتهما في تعزيز التعاون الثنائي في شتى المجالات. روسيا والصين..أوروبا وأمريكا بالنسبة للعلاقات الجزائرية - الروسية فقد عرفت انتعاشا كبيرا، وشهدت المبادلات التجارية بين البلدين نموا ملحوظا، وإن كانت ما تزال لا ترقى إلى مستوى العلاقات السياسية والعسكرية التي تطبع البلدين. وقد عملت زيارة الرئيس الروسي ديمتري مدفيديف إلى الجزائر في السادس من أكتوبر المنصرم على دفع تلك العلاقات إلى الأمام، خاصة وأن الجزائروروسيا تربطهما علاقات تاريخية. أما العلاقات الجزائرية الصينية فتعرف هي الأخرى تطورا وازدهارا ملحوظين، فالبلدان يتقاسمان الكثير من المواقف الدولية والإقليمية، كما أن حجم التعاون بينهما في المجال التجاري والاقتصادي أخد حجما كبيرا. من جهة أخرى لابد من الإقرار -حسب المختصين– أن التقارب الجزائري الصيني كان له الأثر الايجابي في تعامل دول أوروبا مع الجزائر، حيث أصبحت دول أوروبا تواجه منافسة شرسة من قبل الشركات الصينية في الجزائر، مما دفعها إلى تغيير قواعد التعامل ومفهوم التعاون. ولعل إشادة إنجيلا مركل المستشارة الألمانية بالدور الجزائري إقليميا وعربيا ودوليا خلال زيارة بوتفليقة إلى برلين يؤشر على مراجعة الاوروبين لحساباتهم تجاه الجزائر العائدة من بعيد. اما أمريكا فقد أعادت ترتيب أوراق تعاملها مع الجزائر منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، واعترفت في بالدور الجزائري في مكافحة الإرهاب وكذا في السعي لإحداث توازن إقليمي. في الواقع لا يمكن حصر نشاط الدبلوماسية الجزائرية خلال سنة 2010، في مقال، لكن يمكن الاستنتاج وفق ما سبق عرضه بعض الملاحظات الأساسية في تحرك الجهاز الدبلوماسي هذا العام: * تكريس عودة الجزائر للساحة الدولية كطرف فاعل ومهم في العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف. * اعتماد الدبلوماسية الجزائرية على المبادئ الثابتة ومنها احترام حقوق الشعوب ودعم القضايا العادلة ومناهضة التمييز والقهر المسلط من قبل الدول الكبرى. * توافد الزعماء والرؤساء والملوك على الجزائر، عكس ما عرفناه طيلة تسعينيات القرن الماضي. * نجاح الدبلوماسية في تنويع مصادر الشراكة السياسية للجزائر وتجاوز الصيغ التقليدية، مما خلق للبلد فرصا ومنابر جديدة للنشاط. وهكذا فالحديث عن عودة الجزائر للساحة الدولية كواحدة من الأولويات التي سطرها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عام 1999، تبدو نتائجها بارزة وإن كانت تحتاج إلى مجهود اكبر يتلاءم ومكانة الجزائر تاريخيا وحضاريا، ولكن أيضا والإمكانيات والطاقات التي تحويها الجزائر.