تحتفي الجزائر غدا بذكرى عيد استعادة السيادة الوطنية، وكلها إرادة وإصرار على مغالبة تحديات اليوم، خاصة منها الأمنية والاقتصادية، وليس ذلك بعزيز على شعب استطاع أن يرفع التحدي وينجح خلال سنوات صعبة في مواجهة آثار الاحتلال وما خلفه من دمار وخراب وأضرار فادحة في المنشآت والنفوس والهوية. لقد قطعت الجزائر أشواطا مهمة وأنجزت الكثير في مسار بناء الدولة والمجتمع منذ 1962، لكنها تبقى دون مستوى التضحيات الغالية التي قدمها الشعب وما يطمح إليه من رقي وتقدم وما يتناسب أيضا مع قدرات البلاد ومكانتها، لا يزال الطريق طويلا وشاقا نحو مستقبل منشود، تحقق من خلاله بلادنا تقدمها في عالم تتزايد فيه الضغوط، مما يتطلب بذل المزيد من الجهود والتضحيات وتجنيد كل الطاقات وتدارك مختلف النقائص وتصحيح الأخطاء المسجلة في التجارب السابقة. إن الاستقلال الذي انتزعناه بتضحيات جسام، يظل بحاجة إلى »استقلالات« أخرى في مختلف المجالات الاقتصادية والعلمية والثقافية، وهي كلها تتطلب تضحيات ضخمة من الأجيال الشابة، التي هي مدعوة إلى بذل مزيد من الجهد والعطاء للمحافظة على الاستقلال وصيانة مكاسبه. وإذا كان من الطبيعي والمشروع أن يحلم الجزائريون بحياة كريمة ومستوى معيشي بمثل ما هو عليه في الدول المتطورة وبمستوى اجتماعي وعلمي يماثل ما هو عليه في تلك البلدان، فإن أحلام اليقظة ليس من شأنها أن تغير أوضاع الشعوب نحو الأفضل. لا سبيل إلى الحلم وتحقيقه على أرض الواقع إلا بدفع ضريبة العمل والانضباط والثقة في النفس والاعتماد على الذات دون بخل وبلا حساب، وبصبر وثبات. الجزائر شاسعة وذات موقع استراتيجي هام، باطن أرضها يزخر بكل الثروات وسطحها صالح لإنتاج كل الخيرات، ولكن الأهم من كل ذلك أنها تتوفر على شباب يؤمن بالله والوطن، وبأن العمل والصدق فيه هو الطريق الأقصر والأضمن لتكريس الاستقلال وفتح الطريق واسعا أمام الجزائر لتحتل موقعها في ركب الأمم المؤمنة بالمستقبل، ذلك أن الاستقلال الحقيقي لأي أمة يكمن في قدرتها على تملك ثروتها واستثمار طاقاتها وتنويع مصادر عيشها وتأمين حاجياتها الأساسية، مما يحقق لها القدر الأوفر من الكفاية والتوازن والمناعة التي تضمن لها استقلاليتها وسيادتها. إنه لا جدوى من البحث عن أمن استراتيجي للأمة في وقت لا نزال فيه بعيدين عن تأمين جزء مهم من أمننا الغذائي والدوائي والصناعي والثقافي والتكنولوجي وغيره ونعول في ذلك أساسا على الخارج بالإستيراد الذي يتزايد سنة فأخرى ويلتهم أموالا طارئة من مداخيل المحروقات، التي تعرف تراجعا كبيرا في أسعارها. لقد حققت بلادنا انجازات، لا ينكرها أحد، لكنها تبقى دون الطموح، فالدولة تنفق الملايير سنويا على قطاع التربية والتعليم، لكن لا مناص من تحقيق المعادلة الصعبة في التوفيق بين إكراهات الكم ومتطلبات النوعية، كما أن الاحتفال بعيد الاستقلال يحقق معناه في مواصلة الجهود من أجل القضاء على مختلف أسباب ومظاهر التخلف المترسبة في المجتمع، ذلك أن المدنية ليست بضاعة تشترى للاستهلاك إنما هي نتاج تراكم الفعل الحضاري للمواطن، هي فكر علمي وسلوك أخلاقي مسؤول ومواطن ملتزم بثوابت الأمة وأولوياتها في احترام القانون ومؤسسات الجمهورية، يتحرر من الضعف والسلبية والاتكال والمحسوبية وينبذ الفوضى والفتنة والفساد بكل أنواعه من رشوة ونهب وتهريب. إن الاستقلال الحقيقي الذي من أجله ضحى الآباء والأجداد، يدعونا إلى المضي في ذلك الطريق الشاق والطويل، لأن ما تحقق من مكاسب وإنجازات ليس سوى خطوات أولى يجب أن تزيدنا ثقة وتفاؤلا وإصرارا على الاستمرار في مسيرة البناء والتعمير، وهذا ما يدعو إلى أن يقتدي شباب اليوم بنخبة الأمس بطلائعها المؤمنة بحق أمتها في الحرية والكرامة والسيادة وأن تستلهم منها الوطنية الصادقة، التي تعني اليوم تحصين الاستقلال من الفتنة، كما تعني الالتزام بوحدة الصف وصون الوحدة الوطنية وتقوية الجبهة الداخلية ودعم جهود الجيش الوطني الشعبي وكل أسلاك الأمن في محاربة الارهاب والجريمة وتعزيز الأمن والاستقرار وحماية الحدود والدفاع عن سيادة الوطن. إن الاحتفاء بذكرى الاستقلال مناسبة غالية، نجدد فيها العهد للشهداء الأبرار، نترحم بخشوع وإكبار على من أوفوا بالعهد مع الله والوطن، إنها مناسبة عزيزة نؤدي فيها واجب الوفاء والعرفان لأبطال الجزائر، الذين روت دماؤهم الزكية الطاهرة هذه الأرض الثائرة.. وبقدر ما تبعث فينا هذه الذكرى مشاعر الفخر والاعتزاز بأمجادنا ومآثرنا وبما حققناه، فإنها تستوقفنا لاستقراء التاريخ واستخلاص العبر والدروس، من أجل كسب معركة الحفاظ على السيادة، حتى يكون الاستقلال في عيون الشباب مقرونا بجزائر الحرية والعدالة والتنمية والتقدم، ومتجاوبا مع رسالة الشهداء.